في وقت سابق من الشهر الجاري لقي الحزب الحاكم في تايوان (الحزب الديمقراطي التقدمي) ضربة قاصمة بخسارته نتائج الانتخابات البرلمانية لصالح غريمه حزب “الكومينتانغ” التاريخي. إذ جاءت نتيجة التصويت حصول الحزب الحاكم على 81 مقعدا فقط من مقاعد البرلمان البالغ عددها 113 مقعدا، الأمر الذي دفع رئيس البلاد “تشين شوي بيان” إلى تحمل المسئولية باعتباره زعيما للحزب. ذكرت هذه التطورات المراقبين بالمفارقات والمفاجآت التي حفلت بها الانتخابات التي جاءت بهذا الحزب إلى السلطة لأول مرة في عام 2000 والتي جرت وسط آمال بعهد جديد مليء بالخير والازدهار والنمو والحريات، كبديل لعهد طويل من الديكتاتورية والقمع المنظم بقيادة ” الكومينتانغ”، وإن كان الأخير هو الذي اسس تايوان الحديثة ونهض بها اقتصاديا وصناعيا وعلميا.
أما السؤال الذي توقف عنده المراقبون طويلا بعد الإعلان عن نتائج انتخابات هذا العام فهو: هل فعلا أصاب الناخب التايواني الحنين إلى عهد الديكتاتورية فمنح صوته لمن قمعه على مدى نصف قرن؟ أم انه فعل ذلك استياء من البديل؟ أم أن هناك أمورا أخرى أثرت على خياراته؟
والحقيقة هي أن التصويت لحزب الكومينتانغ وتفويزه، لم يكن حبا فيه أو حنينا لعهده، بقدر ما كان تصويتا للاستقرار والتهدئة مع النظام القائم في البر الصيني . هذا الاستقرار الذي نعم به التايوانيون طويلا قبل أن يتعرض للشرخ والتهديد مرارا منذ وصول الرئيس “تشين إلى السلطة، بفعل خطابه الهجومي الحاد ضد بكين، والذي لم يزعج حكام بكين فقط وإنما أزعج أيضا الحليف الأمريكي، على نحو ما سنتعرض له في هذه الدراسة التي تسلط الضؤ على الحزب الخاسر وزعيمه ” تشين” وكيفية وصولهما إلى السلطة وما أحدثاه من تغييرات منذ ذلك الحين وردود أفعال سادة بكين وواشنطون عليه.
بدأت القصة من الانتخابات الرئاسية التي جرت في تايوان في منتصف مارس عام 2000 والتي حفلت كما قلنا بالعديد من المفاجآت مثلما كانت حافلة بالمفارقات. فإذا ما بدأنا أولا بالمفارقات فان أكثرها مدعاة للاستغراب كانت قيام الصين التي لحزبها الشيوعي الحاكم تاريخ طويل حافل بالدماء والعداء المرير مع حزب الكومينتانغ التأييد المبطن للمرشح الرئاسي للحزب الأخير نائب رئيس الجمهورية ” ليان تشان”.
فالمنطق السليم كان يقول بأنه في ظل بروز مرشح رئاسي قوي على الساحة التايوانية يمثل حزبا جديدا معارضا لنظام الكومينتانغ ويحاول هزيمة مرشحه، وفي ظل عدم وجود تاريخ سابق من العداء والثأر ما بين هذا الحزب والنظام الشيوعي في البر الصيني، فان على بكين أن تمد يدها إلى هذا المرشح وتدعمه لتحقيق طموحاته في الوصول إلى السلطة. إلا أن هذا المنطق توارى لسبب وحيد هو اصطدامه بخطاب المرشح المذكور، أي خطاب ” تشين شوي بيان” مرشح الحزب الديمقراطي التقدمي القائم على حق التايوانيين في إعلان دولتهم المستقلة عن الصين، وهو ما رأت فيه بكين تهديدا لمبدأ الصين الواحدة وإعاقة لطموحاتها في إعادة ضم تايوان إلى سيادتها من اجل استكمال ما تبقى من عملية إقامة الصين الكبرى التي بدأت عمليا بضم التيبت في بداية الخمسينات وتوالت باستعادة هونغ كونغ من البريطانيين في عام 1997 وماكاو من البرتغاليين في عام 1999 .
ومن هنا لجأ قادة بكين إلى أساليب التهديد والوعيد والتلويح بالغزو العسكري لثني التايوانيين عن التصويت لتشين والتأثير عليهم لاختيار منافسه ” ليان تشان” الملتزم على الأقل بوحدة التراب الصيني، فبدوا كما لو أنهم متحالفون مع خصومهم التاريخيين من اجل انجاح مرشح هؤلاء. غير أن التايوانيين وجهوا ضربة موجعة ليس لحزب الكومينتانغ، وإنما أيضا لبكين ولكل أساليبها الملتوية في فرض ما تريد، والتي لم تقتصر على التهديد باستخدام القوة، بل تعدتها إلى لي ذراع كبار المستثمرين التايوانيين في البر الصيني عبر تهديدهم في مصالحهم التجارية إن لم يشكلوا جماعات ضغط مالية للتأثير في نتائج تلك الانتخابات.
وهكذا اثبت التايوانيون عبر النتيجة التي آلت إليها الانتخابات الرئاسية في ذلك العام أنهم شعب متمسك بحرية القرار والاختيار. وبعبارة أخرى، دلل التايوانيون بانتخابهم “تشين” رئيسا ثانيا لبلادهم منذ بدء العمل بالديمقراطية والتعددية والانتخابات الرئاسية الحرة المباشرة في أوائل التسعينات على أنهم يسعون إلى التغيير مثلما هم ساعون إلى الحفاظ على مكتسباتهم وانجازاتهم ونظامهم السياسي تحت تأثير الخوف من تراجعها أو ضربها في ظل صين كبرى لا مكان فيها للديمقراطية والحريات السياسية. هذا الخوف الذي تضاعف بعد ما ثبت بالتجربة أن مبدأ ” بلد واحد ونظامان” الذي اعتمدته القيادة الصينية لاستعادة هونغ كونغ ثم أخذت تلوح به كصيغة ناجحة لعودة تايوان إلى الوطن الأم، لم يمنع بكين من فرض تصوراتها الخاصة لجهة الطريقة التي يجب أن تدار وفقها الأمور في هونغ كونغ.
لقد احتاج زعماء حزب الكومينتانغ إلى وقت طويل للتغلب على صدمة الهزيمة التي ضاعفت من مرارتها حقيقة أن خسارة مرشحهم الأرستقراطي المتمرس في اللعبة السياسية جاء على يد ابن فلاح فقير، لم يتجاوز الخمسين عاما، ولا يملك تجربة سياسية طويلة، وليست له سوابق في خوض المعارك الرئاسية، ولا ينتمي إلى حزب سياسي عريق.
في أسباب قدرة ” تشين” على التصدي بإمكانياته وأدواته المتواضعة لجبروت الكومينتانغ والحزب الشيوعي الصيني معا، وبالتالي الفوز على منافسه القوي “ليان تشان”، تمت الإشارة تحديدا إلى عامل انتمائه أصلا وعرقا وميلادا ونشأة إلى تايوان. فالرجل ولد في 18 يناير من عام 1951 لعائلة فقيرة من مزارعي قصب السكر في بلدة كوانتيان التابعة لمقاطعة تاينان التايوانية. وفي الأخيرة ترعرع واستطاع، وسط ظروف أسرته المالية الصعبة واضطرارها للاستدانة من اجل إرساله إلى المدرسة، أن يكمل مراحل تعليمه الأولى بتفوق باهر، وأن يجتاز كل زملائه الموسرين. وفي أعقاب تخرجه من مدرسة تاينان الأولى العليا في عام 1969، ارتحل الشاب الموهوب رأسا إلى العاصمة تايبيه للالتحاق بجامعة تايوان لدراسة إدارة الأعمال، فاجتاز امتحانات القبول بنجاح أيضا، إلا انه سرعان ما هجر ذلك الحقل إلى دراسة الحقوق في الجامعة عينها، مع التخصص في القانون البحري الذي وجد فيه ميدانا مغريا ومتوافقا مع تاريخ بلاده وتجارتها القائمة على التصدير عبر البحار. ولشدة تعلقه بتخصصه الجديد، معطوفا على ذكائه الحاد ومثابرته، تمكن في عام 1973 من اجتياز امتحانات القبول في سلك المحاماة قبل عام من تخرجه، بل وحصل على ارفع الدرجات مضافا إليها لقب اصغر المحامين سنا في البلاد.
ومما لا شك فيه أن عامل انتمائه إلى تايوان أصلا وعرقا وميلادا ونشأة لعب الدور الأهم في جذبه لأصوات مواطنيه الشباب وغيرهم من ذوي الهوية التايوانية الأصيلة ممن ضاقوا ذرعا بوجود مقدرات وطنهم في أيدي العواجيز الذين أتوا من البر الصيني في عام 1949 . صحيح أن فوز ” لي تينغ هوي” برئاسة الجمهورية في عام 1990 قد مثل تغييرا جوهريا، كون الرجل من مواليد تايوان، وبالتالي خفت مشاعر التذمر، إلا أن ذلك التطور لم يستطع أن يجتث السخط نهائيا بسبب استمرار وجود سلطات كثيرة في أيدي من لا ينتمون أصلا أو ميلادا إلى تايوان. ولكي ندلل على مدى أهمية هذا الموضوع وهيمنته على أجواء انتخابات عام 2000 الرئاسية، يكفي أن نورد مثلين. فحينما استشعر مرشح الكومينتانغ ” ليان تشان” المولود في إقليم ” شانزي” في البر الصيني احتمال خسارته أمام ” تشين”، راح يجتهد أمام الناخبين لإثبات أن جده ينحدر أساسا من تايوان، وذلك في محاولة لتأكيد جذوره التايوانية وبالتالي كسب المزيد من الأصوات. أما المرشح الرئاسي المستقل واحد رموز الكومينتانغ السابقين ” جيمس سونغ تشو يو” فقد حرص على أن يتقن اللهجة التايوانية المحلية ويتحدث بها في حملاته الانتخابية ليحجب حقيقة انحداره من إقليم هونان الصيني.
على انه من الظلم أن يعزى صعود ابن الفلاح إلى قمة السلطة في بلده إلى ذلك العامل وحده، دون التوقف أمام عوامل أخرى مهمة. من تلك العوامل سيرته السياسية المضيئة وعصاميته ونزاهته، وقبل كل شيء دفاعه المحموم عن الديمقراطية وسلطة القانون ووقوفه بصلابة إلى جانب معتقلي الرأي ونشطاء حقوق الإنسان مما شكل عنصر جذب للأصوات الانتخابية. فهو لئن انشغل من بعد تخرجه من الجامعة في عام 1974 وزواجه في العام التالي من” ووشو تشين” ابنة احد الأطباء التايوانيين المرموقين التي أنجبت له لاحقا ابنة وابنا مع آخرين في تأسيس وإدارة شركة خاصة تحت اسم “مؤسسة فرموزا العالمية للقانون البحري والتجاري”، فانه انشغل بالسياسة أيضا ابتداء من عام 1980 . ففي هذا العام تبنى الدفاع أمام المحكمة العسكرية عن المتورطين في ما عرف بحادثة فورموزا، وكانوا مجموعة من المعارضين لنظام الحكم ممن تظاهروا في 10 ديسمبر 1979 ، أي في اليوم العالمي لحقوق الإنسان، احتجاجا على غارة للشرطة على مقر ” مجلة فورموزا” غير المرخصة والتي كانت وقتذاك الصوت الأقوى ضد احتكار الكومينتانغ للسلطة. والمعروف أن السلطات لم تكتف بقمع تلك التظاهرة واعتقال منظميها بما فيهم السيدة” أنيت لو” التي ستصبح لاحقا نائبة لرئيس الجمهورية، وإنما عرضتهم إلى تعذيب وحشي مما أثار الرأي العام المحلي ودفع بعدد من المحامين البارزين – جلهم تبوأ لاحقا ارفع المناصب الرسمية- إلى الترافع عنهم مجانا وتبني قضيتهم بجرأة غير مسبوقة.
ورغم أن الرجل لم ينجح في كسب القضية بسبب رعونة النظام، إلا أن ما قام به أثناء المحاكمة من مرافعات بليغة ومحكمة، جعل منه نجما محبوبا في الأوساط الشعبية وشخصية معروفة في وسائل الإعلام المحلية. غير أن الأهم من كل هذا هو أن خوضه لتلك المعركة القانونية الصعبة كان بداية اكتشافه لمدى غياب العدالة في وطنه في ظل نظام الكومينتانغ الحاكم، الأمر الذي كان بمثابة البذرة التي خلقت منه معارضا جسورا وناشطا ضمن ما عرف بحركة ” تانغواي” – أو ما يمكن ترجمته حرفيا إلى ” خارج الحزب” في إشارة إلى أنها تنظيم لكافة السياسيين من خارج حزب الكومينتانغ التاريخي – التي ستتطور لاحقا إلى حزب سياسي باسم ” الحزب الديمقراطي التقدمي”.
لم يتردد ” تشين” بعد تلك المعركة وما حققه بسببها من صيت وشهرة في الترشح لعضوية المجلس البلدي للعاصمة في عام 1981 باسم حركة تانغواي، ففاز كما كان متوقعا بمقعد ظل يحتفظ به حتى عام 1985. لكنه أثناء هذه الفترة انشغل أيضا بتأسيس مركز بحثي مؤيد للمعارضة تحت اسم ” رابطة أبحاث سياسات الخدمة المدنية “، وقام بإصدار مجلة باسم “فورموزا الحديثة” ، وهي المجلة التي كانت سببا في دخوله المعتقل لأول مرة في حياته. ففي يناير عام 1985 حكم عليه بالسجن لمدة عام واحد بتهمة القذف على خلفية مقال نشر في مجلته وتضمن انتقادات لاذعة لأحد أساتذة الفلسفة المقربين من حزب الكومينتانغ. وقد جرب الرجل وقتها بما عرف عنه من براعة قانونية استئناف الحكم، لكن قرار الاستئناف جاء عكس ما كان يأمل فاضطر في مايو 1986 إلى تنفيذ العقوبة لمدة 8 أشهر في سجن “توتشينغ”.
على أن الفترة ما بين صدور الحكم وتنفيذه شهدت حدثين مهمين، احدهما كان فشله في الفوز بمقعد بلدي عن دائرة تاينان في الانتخابات التي أجريت في نوفمبر 1985 ، والآخر كان إصابة زوجته ” ووشو تشين” بشلل في وسطها من جراء اصطدام شاحنة بها أثناء تحيتهما لانصارهما، وهو ما عزاه الكثيرون إلى مؤامرة خطط لها ساسة الكومينتانغ بهدف تخويفه وتهديده من المضي قدما في معارضتهم. وحول هذه الحادثة التي ظلت طويلا مصدرا لشعوره بالذنب، كتب ” تشين” في كتاب سيرته الذاتية “ابن تايوان Son of Taiwan” انه قال لوالد زوجته انه لن يغفر لنفسه فشله في ما وعده به حينما اقترن بابنته، وذلك في إشارة إلى وعده بألا يدع نشاطه السياسي يلحق ضررا بأسرته الصغيرة. غير أن الإصابة التي لحقت بالسيدة تشين وأقعدتها في كرسي متحرك ولدت لديها إصرارا إضافيا على مواصلة المسيرة. وهكذا بينما كان زوجها في السجن، ترشحت لعضوية البرلمان وفازت بمقعد فيه مستفيدة من تعاطف التايوانيين مع ما حل بها. أما “تشين” فقد أنهى فترة عقوبته سريعا وخرج من معتقله لينضم إلى زوجته كمساعد قانوني إضافة إلى عمله كمحام.
من بين الأعوام المميزة الأخرى في مسيرة “تشين” السياسية، يبرز العام 1989 كعام حفل بعدد من الأحداث الايجابية. ففيه انتخب كنائب في البرلمان لأول مرة، وتسلم مهام الرئيس التنفيذي للحزب الديمقراطي التقدمي، وفاز بعضوية “اللجنة الوطنية للدفاع” ذات الدور الرئيس في وضع السياسات الدفاعية للبلاد. ونظرا لأدائه الجيد وحماسه المتقد ومواهبه التشريعية في البرلمان وخارجه، استطاع الرجل أن يحتفظ بمقعده البرلماني في انتخابات عام 1992 ، لكن شغفه بخوض المعارك الجديدة كسبا للخبرة والتمرس في الشأن العام، دفعه إلى الاستقالة في عام 1994 ، أي قبل انتهاء مدة عضويته بسنة، وذلك للتنافس على منصب عمدة تايبيه.
وبالفعل، تنافس الرجل على هذا المنصب تحت شعار”مواطنون سعداء في مدينة واعدة”، وفاز به مستفيدا من تشتت أصوات أنصار خصومه بين مرشح الكومينتانغ ومرشح الحزب الجديد، ليصبح أول عمدة للمدينة ينتخب انتخابا مباشرا من سكانها منذ تحويلها إلى مقاطعة بلدية خاصة في عام 1967 . وحينما تبوأ وظيفته الجديدة، واكتشف مدى محدودية خبرة رفاقه الحزبيين في الشئون الإدارية والفنية ذات الصلة بهذه الوظيفة، لم يجد غضاضة في الإبقاء على الكوادر البيروقراطية التابعة للكومينتانغ.
ويمكن القول أن سنوات وجوده في هذه الوظيفة ذات الالتصاق اليومي بهموم المواطنين، حققت له شعبية إضافية، لا سيما وأنها تميزت بجملة من القرارات والإنجازات المطلوبة شعبيا، والتي بسببها صنفت مدينة تايبيه ضمن أفضل خمسين مدينة في آسيا من قبل النسخة الآسيوية من مجلة “تايم” الأمريكية، فضلا عن اختيار المجلة له ضمن ابرز مائة قائد من قادة المستقبل في العالم. فإليه يعود الفضل في تنظيف العاصمة من مواخير القمار والبغاء غير المشروعة، وفرض الغرامات على ملوثي البيئة، وتعديل صيغ الاتفاقيات الخاصة بمشاريع الأشغال العامة، وإحلال المنتزهات العامة مكان دور البغاء، وإعادة تسمية الشوارع والميادين العامة بأسماء وطنية بدلا من أسماء رموز الكومينتانغ التاريخيين، واستعادة الكثير من الأراضي الحكومية المغتصبة من قبل المتنفذين، وإصلاح وسائل النقل والاتصالات العامة، وتوفير مستويات أرقى وأفضل من الرعاية الاجتماعية والتعليم والترفيه والثقافة.
elmadani@batelco.com.bh
*محاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين