خاص بـ”الشفّاف”
“لن يبرموا سلاما أبدا مع الشيطان الأصغر قبل أن يتصالحوا مع الشيطان الأكبر”
ايهودا باراك / رئيس الوزراء الاسرائيلي عام 2004
*
عندما صارح بعض المسؤولين في الخارجية الاميركية رئيس الفريق الايراني المفاوض حول افغانستان عام 2002، محمد جواد ظريف، ان ادارته تبنت سياسة وضع ايران في “محور الشر” في الخطاب الشهير للرئيس الاميركي جورج دبليو بوش في 29 يناير 2002، لأنها كانت مدفوعة بالمخاوف الاسرائيلية من هذا التقارب وانه سيكون على حساب امنها واستقرارها، خاصة وان طهران ما تزال ترفض الاعتراف بالدولة الاسرائيلية وتصر على الجهر بالعداء لها والعمل على ازالتها من الوجود وتدعم جماعاتٍ في لبنان وفلسطين تنشط ضد امن إسرائيل واستقرارها. خاصة وان المفاوضات التي جرت تركزت حول الازمة الافغانية على حساب اسرائيل التي غابت عن مجريات المباحثات التي حصلت.
الايرانيون احتجوا على خطاب “محور الشر” للرئيس بوش. وفي واحد من الاجتماعات الاخيرة لفريق “قناة جنيف” بين الطرفين الايراني والاميركي حاول السفير جميس دوبنز تقديم مسوّغات لخطاب “محور الشر”، بانه لا يزال هناك الكثير من النقاط الخلافية بين الولايات المتحدة وايران، بما في ذلك الصراع الاسرائيلي الفلسطيني، وان التعاون في افغانستان بالرغم من انه كان مفيدا جدا، لم يغير تلك الحقيقة، وان واشنطن وطهران لا تزالان على طرفي نقيض.
امام هذا الاسهاب الذي قدّمه دوبنز، شكل الرد الايراني صدمة للجانب الاميركي، عندما اكد المفاوض الايراني انه كان ينوي استخدام قناة جنيف وموضوع التعاون المتعلق بافغانستان من اجل حل القضايا العالقة بين الطرفين. واضاف المفاوض الايراني “انه كان يرغب في مناقشة تلك المسائل ايضا” في اشارة الى الموضوع الاسرائيلي. ويضيف دوبنز ان الايرانيين تعاملوا مع قناة جنيف على انها قناة استراتيجية تنسجم مع رغبتهم في اجراء محادثات استراتيجية مع واشنطن، لكنهم لم يكشفوا عن نواياهم الكاملة الا في مرحلة متأخرة جدا.
وفي خضم هذا التصعيد وقطع كل قنوات التواصل بين الطرفين الايراني والاميركي، بدأ الجدل يعلو داخل القيادة الاسرائيلية حول ضرورة التخفيف من حدة التصريحات والمواقف المعادية او المضادة لايران، طالما ان التطورات التي رافقت وتلت قضية الباخرة “كارين ايه” وخطاب “محور الشر” قد ادت الدور المطلوب منها واستطاعت وقف مسار التقارب بين واشنطن وطهران.
الانتكاسة في الانفتاح الايراني الاميركي، جاءت بعد العديد من الخطوات الايرانية المتعلقة بالقضية الفلسطينية. اذ كشفت طهران في عهد الرئيس محمد خاتمي عن موقف يتعارض بشكل واضح مع موقفها الايديولوجي من اسرائيل، عندما اعلن هو ووزير خارجيته كمال خرازي، عام 2000، من الامم المتحدة، عن ان ايران لا تعارض قيام دولتين في فلسطين واحد فلسطينية واخرى اسرائيلية في حال كان ذلك يعبر عن الارادة الفلطسينية ويرى به الشعب الفلسطيني.
ايران لم تتخلَّ عن سياسة توجيه الرسائل الايجابية الى واشنطن حول موقفها من اسرائيل حتى بعد قطع قناة جنيف بينهما. اذ وجّه السفير الايراني لدى الامم المتحدة والمفاوض في قناة جنيف “محمد جواد ظريف” رسائل واضحة لهذه الادارة في الموضوع الاسرائيلي خلال لقاء له مع اعضاء في مجلس العلاقات الخارجية الاميركي عام 2004 بالقول: “ايران لا تعترف رسميا باسرائيل، لكن هذا لا يعني القيام باي عمل ضدها… ولا تسعى الى المعاداة او الدخول في صراع مع احد… نحن لا نخجل من التعبير عن موقفنا الرافض للاعتراف باسرائيل، وهذا موقف سياسي تبنيناه، ونحن نعتقد بان هذا الموقف لا يتعارض مع القبول باي حل يتوصل اليه الفلسطينيون، واعني ان شيء يقررونه سيكون قرارهم، اذا كان سيجلب الامن والاستقرار الى المنطقة، فسوف يرحب به الجميع،… وحل الدولتين اذا كان مقبولا لدى الشعب الاسرائيلي، فلن يكون لدينا شيء ضده”.
بعد خطاب “محور الشر” واغلاق “قناة جنيف”، تعالت اصوات داخل ايران من جماعات متشددة داخل التيار المحافظ الرافضة لسياسة الرئيس خاتمي الانفتاحية اتجاه الولايات المتحدة، منطلقين من موقف واضح خلاصته بانه “لا يجدر بايران ان تعرض على الولايات المتحدة المساعدة بدون الاصرار على دفع الثمن مقدما”.
هذا الموقف اعاد التأكيد عليه ظريف بلهجة او لغة مختلفة عندما قال: “ارتكبت ايران خطأ بعدم ربط مساعدتها في افغانستان بمساعدة اميركية في نواحٍ اخرى، وبالامل بان ترد الولايات المتحدة على المعاملة بالمثل”.
المخاوف والتطمينات
في مايو من العام 2006 نقلت صحيفة “هآرتس” الاسرائيلية اخبارا – ما تزال غير مؤكدة حتى الان- عن طلب ايراني للتفاوض مع تل ابيب عبر الوسيط البريطاني حول معاهدة تتعلق بالصواريخ. وقد كشف هذا التقرير ان الايرانيين اكدوا للاسرائيليين ان بناءهم لترسانتهم العسكرية ليس موجها ضد اسرائيل وانما ضد البلدان الاخرى التي ترى فيها خطرا اقليميا”.
هذه المعلومات، وان كانت غير مؤكدة او لم يتم تأكيدها، انها تنسجم الى حد كبير مع مواقف القادة الاسرائيليين من ايران في تلك المرحلة، وتنسجم ايضا مع موقف رئيس مجلس الامن القومي الاسرائيلي الجنرال عوزي دايان الذي قال بان ايران “ليست عدوا لاسرائيل، وانه لا يجدر بنا تهديد ايران- من وجهة نظرنا، ايران ليست عدوا- ولكن علينا التأكد من عدم تمكن ايران من اقتناء اسلحة دمار شامل” (وكالة الانباء الفرنسية، 18 فبراير 2006).
اسقاط الذريعة النووية من التداول من خلال المسار الانفتاحي والتفاوضي الذي انتهجه الرئيس الايراني الجديد حسن روحاني واوكله الى الدبلوماسي المخضرم الذي سبق ان تفاوض مع الادارة الاميركية وعرف كيف استطاع الاسرائيلي تخريب هذا المسار، لم تترك من خطاب رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو امام الجميعة العمومية للامم المتحدة في العام الماضي 2012 سوى مجرد ذكرى لتلك الصورة التي حملها امام الجلسة العامة وتمثل القنبلة النووية الايرانية. ولم يترك له ايضا في خطاب هذه السنة سوى الصياح على شواطئ لا تظهر فيها اية ملامح لباخرة تشبه باخرة سلفه شارون “كارين ايه”، وما كان منه الا ان تحول الى مُدافِع عن حقوق النساء والفتيات وملابسهنّ في شوارع طهران.
وقد لا يكون لدى طهران اي ازمة في اتباع مسار سياسي يفضي الى التقارب بينها وبين تل ابيب، الا ان الازمة تكمن في التكييف الديني والايدلويوجي لهذا التقارب. فالخطاب المعادي لاسرائيل لا يتطابق مع جزء كبير من سياساتها العملية، لكن المعارضة الايديولوجية لاسرائيل لعبت دورا لصالح النظام الايراني قبل انتصار الثورة وبعدها”.
ومن المحتمل ان تعمد طهران، وفي اطار مسار التفافي على ازمة الخطاب الايديولوجي المعادي لاسرائيل، الى اتباع خطوات سياسية متدرجة قد تلبي المطلب الاميركي في تخفيف التوتر بينها وبين تل ابيب كشرط لاي تقارب مع واشنطن، مثل:
• التأكيد على عدم معارضة حل الدولتين بين الاسرائيليين والفلسطينين في اطار يعزز المبادرة العربية للسلام.
• تهيئة الارضية للقبول بنوع من التواصل العلني بين طهران وتل ابيب، تميهدا لتعزيزه وتحويله الى مسار دبلوماسي، لكن ليس قبل مسيرة عشر سنوات.
• العودة الى الاسلوب الذي كان متبعا ايام النظام الملكي الذي لم يُعرف بعلاقة واضحة مع اسرائيل، لكنه بنى معها تحالفا استراتيجيا واقام علاقات اقتصادية واسعة وعميقة وفتح مكتبا تجاريا كان بمثابة سفارة اسرائيلية في طهران غير معلنة.
في حال اطمأن المفاوض الاميركي الى هذه التوجهات الايرانية، وهي لا شك مطروحة بجدية من قبل الايرانيين، وما يلحق بها من ملفات تتعلق بحلفائهم في المنطقة، فهل سيبقى امام رئيس الوزراء الاسرائيلي القدرة في التأثير على مسار هذه المفاوضات سوى رفع وتيرة الحديث عن مخاوف بلاده على مستقبل دورها في المنطقة والشرق الاوسط الى جانب لاعبٍ بدأ يعد العدة للدخول رسميا الى ساحة الملعب؟ وهل ستسمح له واشنطن بالمقامرة ببوادر ترى انها تشكل مؤشرات على مرحلة جديدة من الاستقرار في المنطقة تخفف من الاعباء المنهكة التي تتحملها الادارة الاميركية جراء انعماسها في تفاصيل تستزف قدراتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية؟
من هنا يمكن النظر الى استجابة النظام السوري السريعة لمبادرة تدمير اسلحته الكيماوية مقابل تخلي واشنطن عن الضربة العسكرية على انه هدية ايرانية لواشنطن وتعبير عن التزامها بامن حليفتها اسرائيل، مقابل القبول الاميركي بالابقاء على الستاتيكو السوري الحالي وابقاء الاسد في السلطة او على الاقل عدم المجيء بنظام يعمل ضد المصالح الايرانية في المنطقة.
fahs.hassan@gmail.com