1-
أحيانا، ينبغي أن نشكر المشاريع الفاشلة. في السبعينيات، مثلا، طلبت جماعة من أغنياء النفط الجدد من ألبرت حوراني إعداد سيناريو لسلسلة وثائقية متلفزة عن تاريخ الإسلام. فشرع، وهو المؤرّخ العالِم، في البحث وتدوين الملاحظات. وعندما انتهى من كتابة السيناريو فوجئ بأنه في واد وأغنياء النفط الجدد في واد آخر.
فالحقيقة التاريخية لا تعني هؤلاء، وباسم ضرورات الإخراج، وتقليص النفقات، وما يجذب اهتمام المشاهد أكثر، تدخلوا في النص: أضافوا، وحذفوا، وعدّلوا، فما كان منه إلا أن انسحب من المشروع. ومن حسن الحظ أن الملاحظات التي دوّنها، والبحث الذي أجراه، في سياق كتابة السيناريو، تحوّل في وقت لاحق إلى مادة أساسية وظفها في كتابة كتابه العمدة “تاريخ الشعوب العربية”.
في بداية ذلك العقد، ولكن في مكان آخر من العالم، اقترح سينمائي على روائي من البيرو أن يكتب سيناريو لفيلم عن ثورّة وقعت في البرازيل في أواخر القرن التاسع عشر. فانخرط الروائي، كما فعل المؤرّخ، في البحث وتدوين الملاحظات، ولسبب ما لم ينجح مشروع الفيلم، لكن الملاحظات التي جمعها الروائي في سياق البحث تحوّلت بعد عقد من الزمن إلى رواية تُعتبر من أهم ما ظهر من روايات في النصف الثاني من القرن العشرين، ليس في أميركا اللاتينية وحسب، ولكن في المشهد الروائي العالمي، أيضا.
كان اسم الرواية التي نُشرت للمرة الأولى في العام 1981 “حرب نهاية العالم”، وكان على صاحبها، ماريو فارغاس يوسا، أن ينتظر ثلاثة عقود إضافية قبل تكريسه على صعيد العالم، وتكريمه بجائزة نوبل للآداب، التي حصل عليها قبل أيام.
2-
يوسا رابع أربعة يطلقون عليهم في أميركا اللاتينية تسمية الأربعة الكبار. الثلاثة الآخرون هم: خوليو كورتزار، وكارلوس فوينتس، وغارسيا ماركيز الذي فاز بنوبل للآداب قبل ثمانية وعشرين عاما. وقد جاء صعودهم في أميركا للاتينية، ومنها إلى العالم، في أوائل الستينيات، في سياق ما يُعرف بالطفرة الروائية في أميركا اللاتينية، التي كانوا أبرز ممثليها. وهؤلاء، بدورهم، كانوا ورثة لخورخي لويس بورخيس، الأرجنتيني الذي أسهم في إنشاء وتشكيل أدب أميركا اللاتينية في القرن العشرين.
وعندما نتكلّم عن أدب أميركا اللاتينية في القرن العشرين، فإننا نتكلّم في الواقع عن أشياء تبدو مألوفة في العالم العربي، وفي مناطق أخرى من العالم. فالموضوعات الرئيسة لذلك الأدب تتمحور حول تجربة الكولونيالية والاستقلال، والموقف من أوروبا بوجهيه السلبي والإيجابي، والتوتر الناجم عن التحديث والعلمنة وتعزيز الهويات القومية في زمن ما بعد الاستقلال، وإنشاء الدولة الأمة.
بيد أن ثمة خصوصية تسم أميركا اللاتينية، فهي بالمعنى الإثني والثقافي خليط من السكان الأصليين، والأوروبيين، والأفارقة. وقد نجم هذا الخليط عن قرون من الغزو والهيمنة الكولونيالية، التي يصعب تبسيطها بالكلام عن الفاتحين والمقهورين، فقد اندمج هؤلاء وأولئك، سواء بالقهر أو الغواية أو التراضي، فنشأت هويات هجينة، يعززها ويحض عليها أو يُعذّبها واقع ملتبس.
وربما في سياق الكلام عن هذه الخصوصية، بالذات، ما يمكننا من الكلام عن معنى الواقعية السحرية، التي انفرد بها أدباء أميركا اللاتينية، واقتحموا بها المشهد الأدبي في العالم. وربما تفسر هذه الخصوصية، أيضا، لماذا يصبح شخص من أصول عربية أو يابانية رئيسا في هذه الدولة أو تلك من دول أميرك اللاتينية.
على أية حال، هذا الواقع الملتبس نفسه هو المدخل المناسب للكلام عن “حرب نهاية العالم”، التي كانت من أهم ما قرأت من روايات في حياتي، والتي تمكنت بفضلها (وهذا هو الأهم) من التفكير في ظواهر سياسية واجتماعية مختلفة بطريقة.
فأنا لا أستطيع التفكير في ظاهرة كحماس الفلسطينية، مثلا، أو طالبان الأفغانية، أو الوهابية السعودية، أو حركة الأخوان المسلمين المصرية العابرة للقوميات، وما لا يحصى من الحركات، التي يتمفصل فيها السياسي والديني والاجتماعي، دون العودة إلى “حرب نهاية العالم”.
3-
في العام الماضي وقعت حرب صغيرة لنهاية العالم تمثلت في صدامات دامية بين السلطات في نيجيريا وجماعة من القرويين تسمي نفسها “بوكو حرام”، ونجم عنها مقتل زعيم الجماعة الأستاذ محمد يوسف مع عدد من أتباعه. وهذه الجماعة في نظر المراقبين بمثابة “طالبان” نيجيريا. المهم أن شعار الحركة الذي رفعه الأستاذ، والتسمية ليست من عندي بل ما يُطلقه الأتباع على زعيمهم، يعني أن التربية الغربية حرام.
من نافلة القول التركيز على سذاجة الشعار، وعلى المضامين الإشكالية لمفهوم التربية الغربية، وعلاقة هذا كله بفكرة الحرام. من المؤكد أن الشعوب كلها في أربعة أركان الأرض، عرفت هذا النوع من “الأساتذة” في لحظات معيّنة من تاريخها، خاصة في المناطق التي حكم عليها التاريخ بالوقوع تحت الهيمنة الكولونيالية، وألقى على كاهلها عبء الاستقلال وبناء الدولة الحديثة. وأود الإشارة، هنا، إلى التحليل العميق الذي قدّمه أوليفيه روا لهذا النوع من “الأساتذة” والمثقفين الشعبيين في كتابه “فشل الإسلام السياسي”.
ومن المؤكد، أيضا، أن البرازيلي أنطونيو كونسيلهيرو، الشخصية المركزية في “حرب نهاية العالم” يشبه الأستاذ محمد يوسف، النيجيري. ما يجمع بين الاثنين هو الإيمان. والإيمان، هنا، لا يعني القناعات الدينية، بل يعني تفسيرا خاصا وفريدا لأحداث بعينها استنادا إلى اعتناق لا يساوره الشك لقناعات قد تكون دينية أو علمانية.
وغالبا ما يحدث ذلك نتيجة سوء الفهم، والصدفة، وسوء الحظ، والتباس الواقع، والعزلة. فالحتميات التاريخية هي ما يتكلّم عنه الفلاسفة وهم جلوس على المقاعد، أما التاريخ نفسه، على الأرض، ففي جرابه من المكر، والمفارقات، والكوميديا السوداء، أكثر مما في جراب الحاوي.
فلنعد إلى جراب الحاوي، الذي انتشل منه يوسا في “حرب نهاية العالم” بعض المفارقات وتجليات المكر. القصة الحقيقية التي استندت إليها الرواية تعود إلى العام 1897. ففي ذلك العام وقعت في منطقة كانودوس في البرازيل ثورة شارك فيها فلاحون وعبيد ومشردون وهامشيون، وجنّدت الحكومة المركزية أربع حملات عسكرية لقمعها.
قبل الثورة بثماني سنوات تغيّر النظام السياسي في البرازيل من الملكية إلى الجمهورية. وقبلها بتسع سنوات ألغي الرق. وهذان الحدثان يمثلان الخلفية الاجتماعية للثورة، بما انطويا عليه من زعزعة للتراتبية الاجتماعية، كما استقرت في العهد الملكي، وفي ظل نظام الرق. وهذا يعني، ضمن أمور أخرى، أن فئات تضررت، وأخرى شرعت في صعود السلّم الاجتماعي، ناهيك عمّا تُحدثه أشياء كهذه من فوضى وما يتجلى فيها من صدام بين قيم وتصوّرات متضاربة.
وقد فسّر “الأستاذ” البرازيلي، الذي يوصف أيضا بالرجل الصالح في “حرب نهاية العالم” تلك التحوّلات بطريقته الخاصة، فإلغاء الملكية يعني في نظره قدوم المسيح الدجّال وراء قناع الجمهورية، والأدهى والأمر أن الجمهورية ابتدعت شيئا جديدا ومريبا عندما اعتمدت المتر كوحدة للقياس وألغت العمل بنظام الياردة. لذلك، رفع شعار “يسقط المتر، عاشت الياردة”، ودعا أتباعه إلى اعتزال الدنيا في مكان بعيد انتظارا لنهاية العالم وقدوم المخلّص. بمعنى آخر فعل شيئا يشبه التكفير والهجرة.
4-
أن ترفع ثورة تضم فلاّحين في أواخر القرن التاسع عشر شعارا من نوع “يسقط المتر، عاشت الياردة”، وأن يرى زعيمها في الجمهورية نذيرا بقرب نهاية العالم، مسألة كاريكاتورية بالتأكيد، ولكن شعار “بوكو حرام” بعد مائة عام لا يقل كاريكاتورية عنه. ومع ذلك، مَنْ قال إن الاستيهامات التي ألهبت خيال مشاعر أشخاص لعبوا دورا رئيسا في إنشاء حركات خلاصية، وتجنيد أتباع، على مدار القرنين الماضيين في مناطق مختلفة من العالم، استندت إلى صياغات أقل كاريكاتورية، أو أكثر تعقيدا؟
يعتقد يوسا أن الفلاّحين فهموا الحداثة بشكل خاطئ. وهذا ما يمكن أن نقوله، أيضا، عن فهم رجال القبائل الأفغان للإصلاح الزراعي في ظل الانقلاب الماركسي. بيد أن الفلاّحين الذي فهموا الحداثة بشكل خاطئ، والأفغان الذين فهموا الإصلاح الزراعي بشكل خاطئ، لم يكونوا وحدهم في الميدان.
حول الفهم الخاطئ تتمحور وتتمفصل صراعات ومصالح اجتماعية حقيقية في الإقليم نفسه، وخارجه. وبالتالي، ما يبدأ كتصوّرات ساذجة وكاريكاتورية وقصيرة النظر، سرعان ما يتحوّل إلى أيديولوجيا يعيد الكتّاب صياغتها وأسطرتها بطريقة جديدة، وتنخرط فيها قوى جديدة أكثر كفاءة وتعليما، حتى وإن كانت أقل اهتماما أو تعلّقها بالشعار نفسه.
هذا ما حدث في البرازيل، مثلا، عندما وجد رجال الإقطاع مصلحة في دعم ثورة الفلاّحين، بصرف النظر عن شعاراتها، ووجد فوضويون وحالمون بالاشتراكية الطوباوية من أتباع سان سيمون في الثوّرة ما يجسّد طموحاتهم الثورية.
وهذا ما حدث في أفغانستان، عندما وجد الأميركيون في الانقلاب الماركسي فرصة لاصطياد الدب الروسي على أيدي رجال القبائل. وهذا ما حدث، أيضا، مع “بوكو حرام” لصاحبها محمد يوسف، فهو وأصحابه لا يعرفون شيئا على فضائية اسمها “الجزيرة” تعيد إنتاجهم في سياق عام أكبر وأكثر تعقيدا وأبعد من قراهم الفقيرة.
في سياق كهذا، وكما نلاحظ في “حرب نهاية العالم” لا يجد الاشتراكي الطوباوي، الملحد، تناقضا بينه وبين من يرى في الجمهورية البرازيلية الوليدة نذيرا بقدوم المسيح الدجال. ومن حقنا أن نلاحظ أيضا، أن صاحبنا الاشتراكي الطوباوي لا يختلف كثيرا عن العلمانيين، والقوميين، واليساريين في العالم العربي الذين لا يجدون تناقضا بينهم وبين الأصولية، في فلسطين ولبنان والعراق ومصر والسودان والجزائر واليمن..الخ.
وربما من المفيد السماح ليوسا نفسه بالكلام عن “حرب نهاية العالم”. يقول: “في حكاية كانودوس (المنطقة التي شهدت وقوع ثورة الفلاّحين بزعامة الرجل الصالح صاحب شعار يسقط المتر) رأيت شيئا يشبه النسيج المركّب لتاريخ بلادنا، أي تاريخ تعصبنا، ولحظات عنادنا، والأيديولوجيات التي ألهبتنا، والتي قطّعت سبل التواصل بيننا، وأوصلتنا إلى مجازر عبثية وغير مفهومة”.
5-
ولكن كيف رأى ما رأى بمعنى التقنية الروائية؟ وهذا يعيدنا إلى خصائص عمله الروائي، إذ يوصف، عادة، بأنه ربما لا يكون الأكثر إلهاما بين الأربعة الكبّار، لكنه أكثرهم حرصا على التقنية.
وفي هذا الصدد فإن لعبته الروائية تتمثل في التظاهر بأن الراوي، أو المؤلف، غائب عن العمل الروائي، وكأن الحكاية تسير بقوة الدفع الذاتي. وفي السرد تتجاور مراحل وحوارات تنتمي إلى أزمنة وأماكن مختلفة، لكنها تتفاعل مع بعضها البعض، لتصبح الحكاية ما تكوّن وتراكم من حكايات.
أما المعنى فهو ما يعيد القارئ إنتاجه بنفسه، في ظل تعدد الأصوات والشخصيات التي تروي الحادثة الواحدة في أكثر من صيغة. لذا، نجد أنفسنا أمام وجهات نظر مختلفة، ناهيك عن حقيقة أننا لا نرى الشخصيات من زاوية ما تقوله عن نفسها، وبما يقوله عنها الآخرون وحسب، بل نراها أيضا من خلال تطوّرها وتحوّلاتها الوجودية، إلى حد أنها تبدو غير مسؤولة عن أفعالها.
الأحدب، مثلا، الذي يمارس دور الكاتب في “حرب نهاية العالم” فيدوّن كل كلمة نطقها الرجل الصالح، يقول للجنود بعد هزيمة الثورة، وتدمير معاقلها، واختفاء زعيمها: “لا أعرف، لا أعرف. هذا ليس من الحكاية، وهذه ليست غلطتي، لا تؤذوني، أنا مجرد الشخص الذي يروي الحكاية”.
الصحيح أن هزيمة الثورة جزء من الحكاية، وأن الراوي إذ يروي الحكاية يصنعها، وأن اللعب بفكرة الخلاص وصفة مضمونة للخراب، وأن منتجي الاستيهامات الخلاصية ليسوا، بالضرورة، الأكثر معرفة وذكاءً بين بني البشر.
والصحيح، أيضا، أن التاريخ يبدو على قدر كبير من التماسك في الكتب المدرسية، أما في الواقع فتصنعه مفارقات ومصادفات وحماقات كثيرة.
ومع ذلك، ثمة مفارقات مفيدة. فلو اتفق أغنياء النفط مع حوراني لما نجح في كتابة “تاريخ الشعوب العربية”، ولو نجح سيناريو الفيلم لما كتب يوسا “حرب نهاية العالم”، وربما لم نكن لنتمكن من المقارنة بين “الأساتذة” من الرجال الصالحين في البرازيل، و”الأساتذة” من الرجال الصالحين في عالم العرب والمسلمين، الذين اختطفوا بلادا ومجتمعات كثيرة رهائن في حرب نهاية العالم.
Khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
جريدة الأيام
يوسا وحرب نهاية العالم..!! – احتل خبر فوز يوسا بهذه “النوبل” مكانا مناسبا في الصحافة الامريكية , ولكن في اليوم التالي كان العنوان (WATCH OUT, MARIO VARGAS LLOSA : ترقب “الاخبار غير المفرحة” يا ماريو بن فارغاس للوسا) فمطلقة (Charlie Sheen “النجم السينمائي” شارلي شين) قررت ان تكتب كتابا “مذكرات” ستصدر في (تموز 2011) عن (Simon & Schuster) وجاء الخبر تحت عنوان ((VICTIMS ضحايا)) … كالعادة سيبيع الكتاب (1000) ضعف الكتب الاكثر مبيعا للوسا , حتى قبل ان يكتب؟!. عندما عاد حفيدنا (ماردونا Diego Armando Maradona) من (موقعة) جنوب افريقيا (مهزوما مكسور الوجدان) استقبلناه في الارجنتين ب (لن ننسى الحب)… قراءة المزيد ..