احيانا تأتينا احداث الواقع فى شكل اكثر ادهاشا واثارة من الحلم والخيال. هكذا جاء حدث انتخاب باراك اوباما رئيسا لامريكا. انه حدث تاريخى اى لايحدث فى التاريخ سوى مرة واحدة تختلف الاشياء بعدها عما كانت عليه قبلها. تختلف الوقائع وتختلف الاحلام وتختلف اللغة والفكر والفعل. وقد جاء آوباما الى البيت الابيض بعد ان تحول خلال العامين السابقين لانتخابه خلال حملته الانتخابية الطويلة المثيرة- من رجل يكاد لايعرفه احد الى اسطورة تحتمل مختلف الاحتمالات واكثرها تناقضا وغرابة.
فقد حوله خصومه فى اليمين الامريكى وقاعدته الاصولية المتشددة الى شيطان مرعب وتساءلوا علنا ان كان اوباما هو الانتى كرايست اى “المسيح – الضد” اى ذلك المخالف والمناوئ للمسيح، وحاول خصومه ان يلصقوا به كل ما اعتقد انه يمكن ان يصيبه فى مقتل مع اغلبية الناخبين فقالوا انه مسلم، وانه متطرف بل ارهابى وانه موغل فى الليبرالية وانه غير وطنى بما فيه الكفاية وانه استعلائى لايفهم الامريكان البسطاء Joe the Plumber- – وانه يهاجم المتدينين الذين يجدون فى الايمان ملاذا، ويهاجم حاملى السلاح الذين يحتمون بالأسلحة النارية، اما انصاره فقد كان هيامهم به غير محدود، وراحوا يصفونه بأكثر الاوصاف جمالا وكمالا ونبلا فهو لدى البعض كندى آخر ولدى البعض ابراهام لنكولن مجسدا ولدى البعض هو المسيح الثانى والمخلص المنتظر حتى انه قال مازحا فى احدى خطبه غير السياسية انه –على عكس الشائع عنه- لم يولد فى مزود للبقر! (كما ولد المسيح فى الأناجيل)
واذكر اننى اصبت بالدهشة عندما شاهدت السيناتور المخضرم ادوارد كنيدى وهو يقفز من النشوة ويكاد ان يرقص طربا وهو يعلن تأييده لباراك اوباما – وليس لهيرالى كلينتون- رغم كونها السيناتور الاكثر خبرة واكثقر عراقة فى الكونجرس وكان المتوقع من كل القادة الديمقراطيين مساندتها. وقد قال كيندى انه وجد فى اوباما املا ووعدا لم يشعر به منذ عقود. فى اشارة الى الوعد المثير الذى كان يمثله شقيقه جون كنيدى.
والواقع انه يصعب علينا ان نجد فى التاريخ السياسى الحديث زعيما سياسيا تحول الى اسطورة قبل ان يتسلم زمام القيادة وقبل ان يمارس اى سلطة من سلطاته او ينجز اى انجاز صغير او كبير- فإذا نظرنا فى الزعماء الذين تحولوا الى اساطير فى اعين شعوبهم – مثل ديجول الفرنسى وغاندى الهندى وناصر المصرى –العربى- نجد ان هؤلاء تحولوا الى اسطورة بعد سنوات قاموا فيها بإنجازات هائلة كانت تبدو مستحيلة ولم يقم بها من سبقوهم. اما اوباما فهو يدخل البيت الابيض فى قائمة الاسطورة وفى غلالة مثيرة من الاعجاب والهيام واللهفة والانتظار المشوب بأعظم الآمال يحمله بها ليس من انتخبه من الامريكيين فحسب ولكن كافة شعوب العالم التى تابعت اخبار حملته الانتخابية باهتمام واثارة لاتحظى به سوى المباريات النهائية لكأس العالم فى كرة القدم، وهو انجاز لاقبل لبشر به!
فماذا سيفعل هذا الرجل الوسيم الأسمر المبتسم الهادئ الطباع المتوقد الذكاء والطاقة بهذا الحمل الثقيل من التوقعات والآمال الذى القاه عليه مئات الملايين من البشر؟ وهل له ان يحافظ على مكانته الأسطورية التى شكلها باشعاره (خطبه السياسية) امام التحديات الهائلة والنتوءات الصخرية الحادة التى ستقابله فى كل خطوة يخطوها على ارض الواقع وفى دهاليز السلطة واجتماعاتها السرية وملفاتها الدموية التى تطال كل بقعه على الارض؟
الوعى بالذات فى اللحظة
يدرك اوباما دوره التاريخى جيدا، والوعى بالذات Self-awareness هو احد الاركان الرئيسيه للذكاء العاطفى للإنسان Emotional intelligence وقد تجلى وعى اوباما بذاته فى تمثله للزعيم التاريخى ابراهام لنكولن فإهتمام اوباما باتخاذ مبادرات للتصافى مع خصومه السابقين –مثل هيلارى كلينتون وجون ماكين الذى حرص على مقابلته بعد اسبوع واحد من الانتصار عليه فى خطوات يقتفى بها اثر لنكولن الذى قام بتعيين خصومه السابقين فى مناصب هامه بإدارته. كما استطاع اوباما تمثل كنيدى فى طرح خطاب مثالى تفاؤلى يخلب مخيلة الشباب حول العالم ويقدم للبسطاء والفقراء والمهمشين نموذجا جميلا لجرأة الأمل – عنوان كتابه – ولمغامرة الحلم بالتغيير لتحقيق الافضل والانبل.
هذا الذكاء العاطفى تجلى ايضا فى اتخاذ اوباما لخطاب مسالم كان احيانا يلام عليه الى حد انه فى احد مساجلاته السياسية مع ماكين راح يقرر انه يتفق مع ماكين فى هذا وفى ذاك من المواقف ويمتدح ماكين لبعد نظره فى هذا الموقف ثم ينتقل بعدها الى نقاط الخلاف الجوهرى بينهما – اعطاه هذا مصداقية كبيرة كما مكنه من الدخول مباشرة الى قلوب المشاهدين الذين رأوا فيه انسانا ذكى العقل بسيط القلب فى نفس الوقت فتمسكوا بصورته هذه فى تشبث مستميت بالرغبة فى اعادة النبل الى السياسة الامريكية التى لطختها سنوات بوش فى التراب والدماء.
والآن وأوباما على بعد خطوات ولحظات من دخول البيت الابيض تتصاعد التساؤلات والمخاوف عن مدى قدرة هذا الرجل المثقف المرهف محدود الخبرة بكواليس السياسة واحابيلها الخفية على الوقوف امام اخطبوط مراكز القوى واللوبيات المتعددة التى تريد كل منها ان تلوى ذراع اعلى سلطة فى البلاد لتحقيق مصالحها الخاصة.
هل يستطيع اول رجل اسود يجلس فى البيت الابيض -وهو الذى قال ان هذا الجيل يضع يده على قوس التاريخ- هل يستطيع ان يوجه هذا القوس نحو الاهداف النبيلة الخفاقة التى اثار بها مخيلة العالم عندما راح يزينها لنا فى خطابه السياسى؟ ام انه سيجد ان الأسلم له – والأضمن لمستقبله السياسى ولأمله فى دورة رئاسية ثانية- هو ان يسير مع التيار ولايثير الكثير من الزوابع حتى لايصطدم مع القوى الهائلة المحيطة به؟
الرجل ام النظام
هناك اتجاه شائع فى بعض الكتابات العربية يقول ان سياسة ومواقف الولايات المتحدة – خاصة تجاه القضايا العربية- لا ولن تختلف من رئيس لآخر، لانها محددة من قبل “النظام” او “المؤسسات” الامريكية الرئيسية وهذه هى التى تحدد مصالح البلد الجوهرية ولايسمح لأى رئيس بأن يحيد عنها. وعليه فلا يجب ان ننتظر الكثير من اوباما او من غيره، فرغم ان الرجل نفسه قد يكون مختلفا عمن سبقوه من رؤساء –ثقافيا وعرقيا وربما اخلاقيا- الا انه فى النهاية اداة فى يد “المؤسسة” الامريكية الهائلة ذات المصالح الكونية الضخمة التى لاتتغير بتغير الافراد على كراسى الرئاسة.
هذا الاسلوب الفكرى يسحب من “الرجل” كل قوة وارادة وقدرة ويمنحها جميعا “للمؤسسة”- وفى اعتقادى ان هذا الفكر غير صحيح وغير سوى وكذلك غير مفيد، وهو فى الواقع من مخلفات الفكر الشيوعى الذى آمن “بالحتمية التاريخية” واعطى حركة التاريخ كل الفضل فى كل تغيير ورأى ان الفرد ليس الا “صامولة” صغيرة فى آلة المجتمع الضخمة وان الجموع وحدها هى الجديرة بالاهتمام ولامانع من سحق الفرد فى سبيل الجموع، وقد رأينا كيف انهارت النظم الشيوعية تحت ثقل هذا الفكر الشمولى الساحق للفرد وللإبداع والفكر الحر. ويتجلى هذا الفكر ايضا فى “نظرية المؤامر ة” التى يعتقد اصحابها ان هناك اياد خفقي ة وهيئات سري ة وقوى سحري ة تخطط وتدبر وتسير الامور من وراء الكواليس.. ويجتمع هذان التياران فى الفكر العربى الذى يرى فيما يحدث له وحوله خططا عالمية عولمية جهنمية تعمل على تكبيله واسقاطه وابقائه منبطحا ارضا وكثيرا مايجد هذا الفكر فى عبارة قالها كسنجر اوهاننجتون او فريدمان او غيرهم تأكيدا لنظريته هذه.
وقد ظهر هذا الفكر العربى بالطبع فى الموقف من اوباما الذى قالوا انه لن يستطيع ان يغير اى شيئ فالذى يحكم امريكا هو اخطبوط القوى والمصالح الامريكية اى “المؤسسة” الظاهرة والخفية. وهذا فى الواقع فكر غيبى يترعرع فى المجتمعات المتشددة عقائديا سواء كان عقيدة دينية ام عقيدة سياسية واقتصادية كالشيوعية. وفى الحالتين يكون الاتكال كاملا على قوى خفية هلاميه تعمل خارج ارادة الانسان وبالتالى يفقد الفرد قدرته على الابداع والتفرد والانجاز الخلاق ولاشك ان خلو مجتمعاتنا العربية- و المجتمعات الشيوعية سابقا- من الابداع هو النتاج الواضح لهذا الفكر.
على عكس هذا فإن صعود اوباما يهدم نظرية المؤامرة من اساسها وفى اعتقادى ان اوباما سيحتاج الى فترة ستة اشهر يتعلم فيها اساليب وادوار وقواعد العمل السياسى على هذا المستوى الشاهق –مستوى رئاسة العالم- الذى لايملك فيه خبرة كافية وسيستطيع بذكائه الحاد ان يستوعب كل ذلك فى خلال ستة اشهر ثم يبدأ بعدها مسيرته التى يمكنه ان يغير بها حركة التاريخ الامريكى والعالمى اذا قرر ذلك وامتلك شجاعة المغامرة نحو هذا الهدف المثير. ان “المؤسسة” التى يمكنها ان تقف فى وجه اوباما هى اسطورة فى اذهان البعض فلامؤسسة عسكرية ولاسياسية ولادبلوماسية ولا اقتصادية بمقدروها ان تقف فى وجه قائد يملك مقومات الزعامة الحقيقية والرغبة العاصفة فى احداث تغيير وكل “الابطال” فى التاريخ البشرى فعلوا هذا بالضبط. لم يستسلموا لحركة التاريخ بل قاموا بتغييرها.
بل حتى الزعماء متوسطى الموهبة والكفاءة استطاعوا احداث تغييرات هائلة بمحض ارادتهم وعندما اراد جورج بوش الاب طرد صدام من الكويت قام بتجييش الجيوش وسحب الحلفاء والاصدقاء من الدول وراءه رغم تردد البعض داخل العسكرية الامريكية بسبب عقدة فيتنام. وعندما اراد بوش الابن غزو العراق لم تستطع المخابرات المركزية الامريكية سوى الانصياع ومنحه مايدعم حججه رغم علمها بفساد ادلتها ووهن معلوماتها- لم تستطع “المؤسسة” ان تقف فى وجه بوش فلماذا نتوهم انها تستطيع الوقوف فى وجه اوباما وهو الذى جاء بأغلبية اكبر واشمل وبتأييد عالمى لامثيل له؟
ان العاملين –مثلى- فى مجال التدريب الادارى على فن القيادة للمؤسسات الضخمة يعرفون كيف يستطيع قائد فذ ان يقوم بتغيير ثقافة المؤسسة واتجاهها ومستقبلها. هكذا فعل جاك ويلش عندما ترأس شركة جنرال اليكتريك العملاقة فى الثمانينات والتسعينات من القرن الماضى واشترى محطة NBC للتلفزيون وحقق انجازات وارباحا ضخمة للشركة التى تعد الأكبر والاغنى فى العالم حيث زادت قيمتها عن اربعمائة بليون دولار منذ اعوام قليلة. الرجل القوى اذن يستطيع ان يغير المؤسسة اما القائد الهش فهو الذى يشجع بتراخيه ورخاوته ان تقوم المؤسسة بتطويعه حسب رغبة آخرين اقوياء داخلها يسارعون الى ملأ الفراغ القيادى على القمة.
بعد الستة اشهر الاولى التى قد يساير فيها اوباما التيار حتى يتمكن تماما من الدفة ستكون امام اوباما الفرصة التاريخية لإحداث التغيير المثير الذى وعدنا به ودخل البيت الابيض على جناحى الامل بتحقيقه. وكل البشائر تدل على ان اوباما يملك كل مقومات القائد التاريخى المثير للآمال. فلديه الذكاء العقلى والعاطفى ولديه الوسامة الجسدية والنفسية، والجرأة والثقه بالنفس والبساطة الجذابة مع المرونة العملية والقدرة على التعامل مع الخصوم وكسب ود المخالفين. كما ان لديه الوعى المرهف بالتاريخ وبدوره فيه وبقيمة اللحظة الباهرة التى يدخل فيها البيت الابيض كما ان لديه الحكمة التى جعلته يرفض حربا كانت تهلل لها كافة المؤسسات السياسية والاعلامية فى البلاد واستطاع ان يعلو فوق هديرها الكاسح وينظر فوق رؤوس المهللين الى ابعد من حدود الرؤية الامريكية القارعة لطبول حرب غير شرعية ورأى فى ذلك مادفعه لاعلان رفضه للحرب وهو موقف شجاع كان هو موقف الاقلية المفكرة ضد الاغلبية الهائجة.
فإذا اراد اوباما ان يحقق وعد القائد التاريخى يستطيع ان يقدم ويحقق رؤية امريكية وعالمية جديدة تختفى معها صورة الامريكى القبيح راعى البقر الفرح بإطلاق النيران يمنة ويسري، وتعود معها صورة الامريكى الجميل الناصر للحرية وحقوق الانسان وحق الشعوب فى التحرر من الغزاة والطغاة. ويمكنه ان يحقق فى الشرق الاوسط سلاما قائما على العدل بإقامة وطن فلسطينى حر فعال ومنح الفلسطينيين كافة حقوقهم واعادة بناء العراق المدمر ومناصرة القوى الوطنية الديمقراطية المعتدلة لتحرير الوطن العربى من التطرف الدينى والفساد السياسى معا.
اذا لم يفعل اوباما هذا وسمح لنفسه بالاستسلام للقوى التقليدية والمصالح الخاصة المحيطة به وبكل رئيس وتراخى فى الدفع نحو رؤية جديدة واسلوب عمل جديد يعيد لامريكا قوتها الداخلية ومكانتها العالمية، ففى اعتقادى ان هذا قد يكون نهاية المكانة الريادية للولايات المتحدة فى العالم اليوم، فبعد الثمانى سنوات العجاف لإدارة بوش وسياستها الكارثية لن يمنح التاريخ والعالم لامريكا سوى هذه الفرصة الاخيرة لتصحيح اوضاعها واعادة الأخذ بزمام القيادة العادلة النبيلة كنموذج للحرية والديمقراطية للعالم.
فاذا اضاع اوباما هذه الفرصة واخذ البلاد –والعالم- فى مسيرة متخبطة هى مزيج لما قبلها فسيكون هذا هو العامل الاكثر اسراعا فى صعود قوى جديدة مثل الصين للأخذ بزمام الريادة العالمية .وسيكون الشرق الاوسط كله معرضا للتحول الى ساحة بشرية واسعة لمجموعة من المجتمعات والدول الفاشلة العاجزة عن تأمين حياة سوية سليمة لمواطنيها، وقد يصبح الشرق كله “عراقا” جديدا او “صومالا” ممزقا ويزداد التطرف الدينى لدى الملايين المسحوقة ويفيض من جديد على بقية دول العالم.
ان نجاح اوباما فى مهمته التاريخية ضرورة عالمية.
fbasili@gmail.com
*كاتب من مصر يقيم في نيويورك