أبلينا بلاء حسناً بالثورات العربية، المتحقّقة منها، أو تلك التي في سبيلها الى التحقّق. ولكننا أيضا، أصبنا بما يشبه الغمّ. بعضنا لأنه قاعد، بعيد عن هذا الحدث المبهج، الواعد، النادر، الوثّاب. «ليتني هناك…»، يردّد، متحسرا، هذا البعض؛ فتحلّ عليه رغبة بالسفر الى «المكان»، لعلّه يشترك، لعلّه يشارك، لعله يلمس نار الثورة، فيعود الى دياره متطهراً من اثم عدم التوقع، عدم المبادرة، عدم المساهمة. هكذا ظهرت وسط هذا البعض مبادرات للقيام بما اسموه «سياحة ثورية». خصوصاً الى القاهرة، التي تحولت الى قبلة الرحالة الثوريين.
اما البعض الآخر، فإثمه مختلف: اين كان عقلي من كل هذه المصائب؟ أين كان إدراكي؟ معرفتي؟ ملاحظتي؟ متابعتي؟ الثورة أتت لتكشف له كم كان ناقص الفضول والاهتمام، كم كان مهملا لوقائع يدّعي الالمام بها، والاهتمام بها… فهو اليوم أمام بحر من الوقائع التي كان يتجاهلها، أو يجهلها، أو يكتفي بالعموميات عنها، أو لم يبذل الجهد الكافي لمعرفتها ومراقبتها. «أين كنتُ أنا في كل هذه الاثناء!؟ في كوكب آخر؟ في هذا الزقاق الضيق الذي كنت أحسبه عالما، واذا به محلّة تضيق بأهلها…»، يسأل نفسه، مؤنّباً اياها.
«يا الهي! أين كنتُ؟»: من اين يأتي كل هذا الكرب؟ وهل يحق لبعضنا الآخر ان يشعر بالذنب؟
الثورات العربية، تلك التي اسقطت أنظمتها، وتلك التي في سبيلها الى اسقاطها، وحتى تلك التي لم تنطلق بعد، باتت هي المنتصرة. بوسعنا القول انها افتتحت عهد انتصارها، بالرغم من فلول الثورة المضادة. وبانتصارها هذا، قامت بفعل معرفي لا يضاهيه شيء: لا ويكيليكس ولا مراكز الابحاث، ولا مجموعات «التفكير» العالمية الخ.
قبل اندلاع هذه الثورة، عندما كانت الأنظمة هي المنتصرة، كانت الحقائق الدائرة حولها، أي الأنظمة، تناسب طغيانها وجبروتها: اعلامها وثقافتها واقنية المعرفة لديها لم تكن تُفهمنا اكثر من انها انظمة استبدادية فاسدة؛ فاسدة الى حدّ توظيف بعض معارضاتها لصالح انظمة اخرى لا تقل عنها اسبداد وفسادا. مثل المعارضات اللبنانية، «الوطنية»، المحاربة لاسرائيل، التي كانت تعتاش من القذافي وترسل له المرتزقة من ميليشياتها، لتحارب نيابة عنه عدوته المجاورة، التشاد.
الحقيقة، الحقيقة الدامغة، الباقية، المهيمنة، هي دائما حقيقة المنتصر. وانتصار الأنظمة على الشعوب كان يجعل الحقيقة ما تودّ الانظمة ان تذيعها، أو تمنحها، أوتفرج عن قليلها، الملغوم، تحت ضغط ما.
كان زمن «حقائق» مكرّرة، مملّة، متعفّنة بالعموميات… وفجأة وبغفلة من الجميع، وقعنا على حقائق كنا نحدسها من دون الاهتمام بمتابعة هذا الحدس، بشيء من اللامبالاة غير الأخلاقية. ربما هنا يكمن السبب الشرعي الأول للاحساس بالإثم.
الآن وقعنا على حقائق وفظائع. أُخرجت الملفات والبراهين والاوراق والوقائع والتسجيلات الى العلن. شيئا فشيئا تحولت الثورة الى مدرسة في العلوم السياسية والاجتماعية تعيد تعليمنا ما كان مغيّبا ايام انتصار الأنظمة وهيمنتها. أنظمة شبحية، أنظمة مصاصة دماء، أنظمة كالحة. لا يستطيع خيالنا السابق على الثورة تصور حجم تغوّلها وقواعد عملها والمعايير التي كانت تحرّكها وأنواع حوافزها العميقة.
الثورة العربية هي ورشة يومية من المعرفة الجديدة والطرق الجديدة لايفائها حقها.
ولكن أبعد من ذلك: اذا أراد المعذَّب ضميره ان يريح ضميره، فما عليه الا الأخذ بما تمليه هذه المعرفة الجديدة على وعيه من معطيات تنفي قديما أو ترسخه أو تطوره. انها الطريقة المثلى للإخلاص، الإخلاص المعرفي تجاه الثورة، وتجاه الشجاعة الكبيرة التي يبديها الثوار بافتداء انفسهم من اجل حريتهم وانتصارهم على حقائق حكامهم.
الشعور بالذنب من جانب آخر: في بداية الثورة الليبية، قرأتُ مقالا لأحد الصحافيين ينقل فيه شكوى مواطن ليبي من كثرة ضحكنا، نحن العرب، على القذافي. كنت وقتها أحاول الإمساك عن الضحك كلما ظهر القذافي على الشاشة في واحدة من وصلاته التهريجية. ولكنني لم أفلح الا قليلا، وبكثير من التكذيب للمزاج. سيما وان موسم السخرية من القذافي ازدهر بسرعة فائقة عبر شرائط اليوتيوب المنتشرة على الشبكة، والجينيريك السريع الذي تمرّره الأقنية الاخبارية بين فقراتها. الضحك على القذافي ينبوع لا ينضب. والاغنية المنتشرة على الشبكة، والتي شاهدها الملايين حتى الآن، المستوحاة من خطابه الاول، عندما جنّ جنونه من ان اليبيين لا يحبونه، فقرر تهديدهم بالقتل: «بيت بيت…! شبر شبر…! دار دار…! زنقة زنقة…! فرد فرد…! حتى آخر قطرة دماء…!»… لا تفوّت.
ولكن ماذا تفعل بالليبيين الذين يؤلمهم ان تتلخّص بلادهم بشخصه الغريب وخيماته وهندامه وكتابه الأخضر والعلم الأخضر والدهان الأخضر ونظاراته الشمسية في القاعات المغلقة، وجندياته الممتلآت الفاتنات المتبرّجات…؟
الآن، بعدما كشفت لنا الثورة، شيئاً فشيئاً، قدراً يسيراً من طريقته، بعدما اطلقت هذه الثورة لسانه الاجرامي ولسان ابنه سيف الاسلام، الأكثر اجراما، خفُت الضحك وحلّ التساؤل: ما هو نوع حكم القذافي؟ ما صفة ابنه سيف الاسلام ليتكلم باسم ليبيا الرسمية؟ كيف سَيَّر ليبيا طيلة العقود الاربعة الماضية هذه؟ ما هو القانون الذي اعتمده؟ كيف عاش الليبيون طوال هذه الحقبة؟ كيف كانت توجه التهم الى المعارضين، قبل تصفيتهم؟ ما هي الصيغ المعتمدة لهذه التهم؟ هل في ليبيا محاكم وقضاة ومحامون يقومون بأعمالهم؟ كيف تمكّن من كل هذه المليارات، هو وافراد عائلته؟ ما هو الجيش الذي بناه؟ والمرتزقة؟ والقبائل؟ اين القبائل من حكمه؟ مجرد تنفيعات نفطية مقابل ولاء؟ ما هي التهم القانونية التي يوجهها الى «جرذانه» ليتاح له تسليط كافة انواع نيرانه عليهم؟ هل كان الليبيون يتظاهرون قبل ذلك؟ الخ
كنا نعيش في كوكب، والليبيون، وربما من بعدهم اليمنيون والاردنيون والبحرينيون، يعيشون في كوكب آخر. فبينما نحن غائصون في انقسامنا الوطني الحاد، متمحورون حول انفسنا، كان الليبيون محكومين بنظام لا نعرف منه غير هذا الظهور، المثير للسخرية، لـ»قائد ثورة الفاتح من سبتمبر»، لـ»ملك ملوك افريقيا«..
الضحك والديكتاتورية: المصريون كانوا، على طريقتهم التاريخية، يقاومون عنف أنظمتهم وقادتها بابتكار النكات التي تضع هؤلاء الحكام في موضع دائم من السخرية. انخفضت هذه النكات عشية الثورة، عندما اصيب كل شيء بالاهتراء. ولكن ما ان استعادوا انفسهم حتى عادت نكاتهم من جديد، بزخم متجدد وروح عالية من التفاؤل. الضحك من نكات المصريين واجب ومحمود.
اما الضحك على القذافي فمختلف: انه الضحك الممنوع، المغري، السهل، الخام، الذي لا يحتاج الى ابتكار الضاحك، بل الى سخافة المضحوك عليه وتهافته وعبثيته. ولكن، ايضا، هو الضحك غير الليبي، غير المكتوي بناره…. وعندما يُعطف على ما بتنا نعلمه من سهولة سفكه لدماء الليبيين، لمجرد انهم لا يحبونه، مثله مثل العشاق المعتوهين… فضلا عن صراحة اجراميته وشبحية وسوريالية رئاسته لليبيا («أنا لست رئيسا لكي استقيل!!»)… تظهر السمة الكفكاوية لحكمه؛ سمة تداخل التراجيديا السوداء بالتهريج الهزيل، وغياب الأطر والمسؤولية والقانون والحدود، والانفتاح على الشرّ المطلق اللامتناهي، بلا خطوط فاصلة، مثل الصحراء الشاسعة التي يلاحق في رحابها المعارضون لحكمه.
من سوء حظ الليبيين انهم واقعون تحت قبضة هذا النوع المبْهم من الأنظمة، وأنهم لن يتخلصوا منه سلميا كما فعل التونسيون والمصريون. من سؤ حظهم ، من أجل معركة استقلالهم الثاني ضد سلطتهم «الوطنية»، انهم سوف يُقتلون ربما بنفس القدر الذي قتلهم به المستعمرون الايطاليون في معركتهم من اجل استقلالهم الاول.
الرواية التي سرد فيها فرانز كافكا قصة «K» في «المحاكمة»، ولدت من مناخها سمة «الكفكاوية» التي توصف بها الاجواء المهدِّدة بقصاص فادح وغامض، من غير ذنب معلوم اقتُرف. الموت في النص الاصلي، مثل التهمة نفسها، غير واضح المعالم. اما في حكم القذافي، فالموت وعد مرسوم على وجهه ولسانه. ليس سراً انه ينوي قتلهم حتى آخر بيت أو دار أو شبر أو زنقة..
يا للهول! ونحن ما زلنا نضحك!
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية