يروي شلومو ساند، في كتابه “كيف لم أعد يهودياً” (2014)، الطرفة “الييدشية” التالية:
ترافق أم يهودية ابنها، المُجنّد في جيش القيصر، إلى دائرة التجنيد، وبينما تودعه تدسّ الساندويشات في حقيبته، وتهمس في أذنه: أُقتل تركياً، ولا تنس أن تجلس، وتأكل. أجل، يا أمي، يقول الشاب. ثم تلف عنقه بشال سميك: وحين تطلق النار على التركي، إياك أن تعرّض نفسك للريح. أجل، يا أمي. والأهم، عليك أن ترتاح بعد كل مرّة تقتل فيها الأتراك. بالتأكيد، يقول المجنّد الجديد. وفجأة يتذكر ويسأل بتردد: أمي، وماذا لو قتلني التركي؟ فتفتح الأم عينيها الواسعتين باندهاش، وتسأل: ولماذا يقتلك، أي أذى سببت له كي يقتلك؟
تستدعي هذه الطرفة تداعيات من نوع: أن روّاد الاستيطان الصهيوني في فلسطين، وبناة الدولة الإسرائيلية، جاءوا من جغرافيا وثقافة “الييدش”، ونجحوا في تحويلها إلى مكوّن سائد في هوية الدولة الجديدة. وعلى الرغم من حقيقة أن هؤلاء انقرضوا، إلا أن ثقافتهم ما تزال سائدة. وهذه الخلاصة تأخذنا إلى رأي “ساند” في الطرفة المذكورة، التي يرى فيها نوعاً من التهكم الذاتي، ونقد التمركز على الذات في الأخلاق اليهودية.
ويمكن لهذا التأويل أن يكون صحيحاً، إذا وضعنا في الاعتبار أن اختزال “الأخلاق” سواء أكانت يهودية، أو لم تكن، في طرفة كهذه، يصدُق فقط على ما تصوّره، وصاغه بناة الدولة الإسرائيلية، وصنّاع هويتها، وثقافتها، باعتباره أخلاقاً يهودية. ومن سوء الحظ أن هذا التصوّر، الذي يمثل مصفاة للعلاقة بالذات والآخر، ما يزال سائداً.
وإذا انتقلنا من التأويل إلى التمثيل، نجد وسائل إيضاح لعل أكثرها دلالة ما رواه للمحققين أحد المستوطنين، الذين اختطفوا الفتى في القدس، وأحرقوه. فبعدما تكلّم عن خروجهم في الليل بحثاً عن عربي يمكن قتله، والاختطاف، وضرب الفتى بقضيب على رأسه، وإحراقه (أثبت التقرير الجنائي أنه احترق حياً) وصف مشاعر الندم، التي انتابته ورفاقه: “كنت مصدوماً.. نحن يهود، لدينا قلب.. هذا لا يليق بنا، أخطأنا، نحن يهود نشعر بالشفقة، وكائنات بشرية”.
ولماذا حضرت كل تلك المشاعر بعد الفعل، ولم تكن رادعاً يحول دونه؟ ألا يمكن العثور في حضورها بعد الفعل، لا قبله، على شبهة التطهير الذاتي، وعلى ما يشبه الاعتراف الكنسي، الذي يحرر الفاعل من كل خطاياه، أو حتى على محاولة لاستدرار عطف وتعاطف المحققين في مجتمع يعاني من عقدة التمركز على ذات صنعها أشخاص من طينة الأم في الطرفة “الييدشية”؟
فلنتقدّم خطوة إضافية: آرية شافيت الكاتب والمعلّق في هآرتس، ليبرالي على طريقته، وقد تعقّب في كتاب نشره أواخر العام الماضي بعنوان “أرض ميعادي: فوز إسرائيل ومأساتها” رحلة جدِّه، الذي كان من روّاد الاستيطان في فلسطين، في محاولة للعثور على آمال وأوهام ذلك الجيل، الذي وضع اللبنات الأولى للدولة، وارتكب قدراً من الأخطاء التي تجد مبرّرها، كما يقول، في حسن النية، وصدفة الوقوع ضحية أقدار وعواصف تاريخية عاتية. (رد عليه نورمان فنكلستاين في كرّاس بعنوان “نبيذ قديم في زجاجات مشروخة”).
المهم، يصف شافيت، في هآرتس، الهجوم على الكنس اليهودي في القدس بـ”البوغروم”، وينتقص من ليبرالية كل مَنْ يعتقد غير ذلك. وعلى الرغم من حقيقة أن تلك العملية مُدانة، وغير مبررة أخلاقياً وسياسياً، إلا أن إيجاد صلة دلالية بينها وبين المذابح التي استهدفت اليهود في روسيا القيصرية، وكذلك بين الفلاّحين البولنديين والروس والأوكرانيين، الذين روّعوا وقتلوا سكان البلدات والقرى اليهودية في القرن التاسع عشر، وبين فلسطينيين يشنون هجمات يائسة وانتحارية، يعتبر مغالطة تاريخية تجافي الواقع والحقيقة.
فسكّان البلدات والقرى اليهودية كانوا أقلية ديمغرافية ولغوية ودينية (وإثنية، إذا شئت)، وأكباش فداء، بلا سلطة ولا سيادة سياسية، بينما كانت عصابات الروس والبولنديين والأوكرانيين من الأغلبية، ومخلب القط في الصراعات القومية والطبقية، والتحوّلات الاجتماعية، التي عصفت بأوروبا الشرقية والوسطى في القرن التاسع عشر، في سياق تشكّل الدول والقوميات.
فأين نحن، الآن وهنا، من هذا كله؟ أين الاحتلال، وإنكار الحقوق والتطلعات القومية للفلسطينيين، وأين مسألة اللاجئين، والحروب، والصراع في فلسطين وعليها (منذ العام 1897، مثلاً، عندما وصل جد شافيت إلى ميناء يافا)، وأين أوسلو، والمفاوضات، والإغلاق، والحواجز الثابتة والطيّارة، والتمييز، والعزل، والجدار، وأين الحكم العسكري، والإدارة المدنية، والاستيلاء على الأراضي، والاستيطان، والمستوطنين؟
لكل هذه الأسباب تبدو إقامة الصلة بين الفلسطينيين، وعصابات الفلاّحين الروس والأوكرانيين والبولنديين في القرن التاسع عشر: مُفتعلة، فائضة عن الحاجة، مُلفقة، وسيئة النية. وطالما أن الشيء بالشيء يذكر، فلنقل إن حكاية البوغروم ليست حكراً على الليبرالي شافيت، فهي شائعة في تعليقات أعقبت الهجوم على المدرسة الدينية اليهودية. وقد اتخذت بعداً أكثر درامية على يد “خبير” في الشؤون العربية اسمه ناحوم برنيع (يذكرنا بما كتبه غيل إيال في “نزع السحر عن الشرق” عن خبراء الشؤون العربية في إسرائيل).
كتب برنيع في يديعوت: “الهجوم على الكنيس يأخذنا إلى أصعب المواقف في تاريخ الشعب اليهودي، إلى البوغرومز، والاضطرابات، والهولوكوست”. هذا “الخبير” يُحلّق أبعد من شافيت. وما ينبغي، هنا، أن يُقال: إن الأكثر رصانة ومعرفة بتواريخ العداء للسامية، البوغرومز، والهولوكوست، من اليهود، وغيرهم، لن يوافقوا على هذا الكلام. فلنفكر في الصراع بمفردات وأخيلة ودلالات واقعية، تنتمي إليه، تُفسّره، وتصدر عنه، وتُسهم في حله، لا في تأبيده.
ألا يذكرنا كلام المستوطن، والليبرالي، والخبير، بدهشة الأم اليهودية، وسؤالها البريء: ولماذا يقتلك التركي.
khaderhas1@hotmail.com
* كاتب فلسطيني