ينص الاتفاق بين تركيا وروسيا على وقف المعارك في جميع أنحاء الأراضي السورية اعتباراً من منتصف ليل 29 كانون الأول/ديسمبر باستثناء المناطق التي تتواجد فيها عناصر «جبهة فتح الشام» («جبهة النصرة» سابقاً) وتنظيم «الدولة الإسلامية». ويقضي كذلك ببقاء الرئيس بشار الأسد في السلطة إلى حين انتهاء ولايته الرئاسية في حزيران/يونيو 2021. وقد دعيت الأطراف المتنازعة الأخرى في الصراع (الولايات المتحدة ودول الخليج العربية) وكافة القوى المعارضة السورية إلى المشاركة في المفاوضات التي ستعقد في مدينة أستانة الكازاخستانية، والمخطط لها في الشهر المقبل.
يشار إلى أن الاتفاق لقي الترحاب من كلٍّ من الأمم المتحدة والولايات المتحدة وحتى «التحالف الوطني السوري» الذي يضم القوى المعارضة. ولكن لا يخطئنّ أحدٌ الظن بهذا الشأن. فإدراج إمكانية رحيل بشار الأسد عن السلطة في النهاية هو مجرد وسيلة لجذب المعارضة السورية إلى طاولة المفاوضات والسماح لدول الغرب والخليج في الوقت نفسه بحفظ ماء الوجه من خلال التزامها بعملية السلام هذه. ولكن ما هي الضمانات الروسية التي تكفل رحيل بشار الأسد عام 2021؟
الأكراد يخاطرون بالوقوع ضحية للاتفاق الروسي – التركي
يعكس اتفاق وقف إطلاق النار، قبل كل شيء، توطيد التعاون بين روسيا وتركيا. فهو يعزز دور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كالمهندس العظيم الذي يصمم عملية السلام في سوريا بينما يزيد تهميش الولايات المتحدة. ومن جانبهم، يبدي الإيرانيون تحفظهم ويفضلون ترك الأضواء مسلطة على فلاديمير بوتين. صحيحٌ أن التدخل الروسي سمح بقلب موازين القوى في الميدان العسكري، إلا أن ذلك لم يكن ممكناً لولا الدعم الذي قدمته القوات البرية الموالية لإيران التي تخوض القتال إلى جانب الجيش السوري. كما كانت الجمهورية الإسلامية الداعم الاقتصادي الرئيسي لحكومة الأسد منذ بداية الصراع.
أما على الجبهة الداخلية، فلا يستبعد الاتفاق إمكانية شن الجيش السوري هجوماً مستقبلياً على محافظة إدلب، التي تسيطر عليها «جبهة فتح الشام». أما بالنسبة لتركيا، فبإمكانها مواصلة حصارها على مدينة “الباب” التي تخضع لسيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية». ولا يذكر الاتفاق شيئاً عن قوات «حزب الاتحاد الديمقراطي» (الأكراد السوريين)، الذي تعتبره تركيا تنظيماً سورياً إرهابياً متفرعاً عن التنظيم الكردي المسلح في تركيا، أي «حزب العمال الكردستاني». وهذا يعني أنه بعد الحصار على مدينة”الباب”، سيكون بوسع تركيا توجيه أنظارها نحو بلدة “منبج” التي تخضع حالياً لسيطرة «حزب الاتحاد الديمقراطي». ومن المحتمل أن يدفع الأكراد ثمن التعاون بين روسيا وتركيا، وهذا أمر لا يزعج الأسد على الإطلاق، لا سيما وأنه يعارض قيام إقليم كردي مستقل. والدليل الإضافي على أن النظام السوري مستعد للتعامل بقسوة مع الأكراد هو أن الجيش السوري طلب من ميليشيا «حزب الاتحاد الديمقراطي» إخلاء حي الأكراد المعروف بـ”الشيخ مقصود” في حلب الخاضع لسيطرتها منذ تموز/يوليو 2012، وذلك قبل الأول من كانون الثاني/يناير 2017.
وقف إطلاق النار يُحدث انقساماً بين المتمردين
أصدرت وزارة الدفاع الروسية قائمة بالتنظيمات الثورية “المعتدلة” المشمولة باتفاق وقف إطلاق النار («فيلق الشام»، «أحرار الشام»، «جيش الإسلام»، «كتائب ثوار الشام»، «جيش المجاهدين»، «جيش إدلب»، «الجبهة الشامية»)، التي يبلغ عدد قواتها65,000 مقاتل. ولكن حتى الآن لم تؤكد جميع هذه التنظيمات رسمياً مشاركتها في الهدنة. ولم تُشمل الفصائل التي تنتمي إلى «الجبهة الجنوبية» (23,000 مقاتل) في القائمة، علماً بأن الأعمال العدوانية في محافظة درعا (حيث تنشط «الجبهة الجنوبية») كانت قد توقفت منذ أكثر من عام، بفضل اتفاق بين روسيا والأردن.
وهكذا، سيطال اتفاق وقف إطلاق النار بالدرجة الأولى المناطق المحيطة بدمشق حيث أن تواجد «جبهة فتح الشام» في هذه المناطق ليس قوياً. وبما أن معقل التمرد في الرستن شمال حماه لا يمثل تهديداً كبيراً للنظام، فإن مفعول وقف إطلاق النار سيسري بالتالي في تلك البقعة أيضاً. أما المتمردون الموالون لتركيا في محافظة حلب الشمالية الشرقية، فلا دافع لديهم للهجوم على الجيش السوري، إذ تدفع لهم تركيا المال للسيطرة على مدينة “الباب” واحتواء «القوى الديمقراطية السورية» – وهي عبارة عن تحالف عسكري مدعوم من الولايات المتحدة بقيادة «حزب الاتحاد الديمقراطي»، الذي يحاول توحيد الأقاليم الكردية على طول الحدود التركية.
والآن يجدر باتفاق وقف إطلاق النار أن يتيح للحكومة السورية ضمان استسلام جديد للثوار. فالانتصار الذي حققه النظام في حلب سرّع عملية “المصالحات” التي يتم بموجبها تأمين ممر آمن للمتمردين من معاقلهم نحو المناطق الآمنة. ومن الأمثلة على ذلك خروج المتمردين من “التل و”قدسيا” في ضواحي دمشق. وقد عادت هاتان البلدتان إلى أحضان بشار الأسد. غير أن الانتصار الأنجح الذي يمكن للجيش السوري تحقيقه هو استسلام “دوما”، معقل «جيش الإسلام»، إذ سرعان ما سيؤدي ذلك إلى سقوط الغوطة الشرقية بكاملها.
والجدير بالذكر أن الاتفاق الروسي التركي قد سبب انقسامات في صفوف الجماعات المتمردة. فتنظيم «أحرار الشام» القوي بات على وشك التفكك، إذ أن فرعه المتطرف يريد الاندماج بـ«جبهة فتح الشام» في حين يحافظ فصيل آخر على ولائه لداعميه الأتراك. وقد أضعفت هذه الانقسامات الداخلية العديد من الفصائل وأدت إلى تفاقم التوتر بين «جبهة فتح الشام» وسائر أطراف التمرد. فهيمنة «جبهة فتح الشام» على محافظة إدلب تلقى دعماً طفيفاً من عدد من الجماعات المتمردة التي قد تنشق عنه إذا ما حظيت بحماية روسية- تركية. والواقع أن تفكك «جيش الفتح»، أي التحالف الذي تقوده «جبهة فتح الشام»، يعتبر شرطاً أساسياً للهجوم الذي يستعد الجيش السوري وحلفاؤه شنه على إدلب.
يجري الإعداد للهجوم المقبل
هناك بعد تكتيكي واضحاً لاتفاق وقف إطلاق النار، شأنه شأن سابقاته. ففي أعقاب قيام روسيا بشن هجوم قوي، أعلنت هدنة من جانب واحد، وبذلك أتاحت للقوات البرية المسلحة تأمين المناطق المكتسبة بوجه أي هجوم مضاد من المتمردين. والآن يمكن الاستفادة من الهدوء على الجبهة الغربية لاستعادة الأراضي من يد تنظيم «الدولة الإسلامية» في شرق سوريا كما حدث خلال شهر آذار/مارس الماضي حين استُعيدت مدينة تدمر بعد اتفاق لوقف إطلاق النار. وقبل الهجوم على تدمر، كان فلاديمير بوتين قد وعد بسحب “بعض الجيوش الروسية” ولكن “إذا كان وقف إطلاق النار ناجحاً”. وفي الحقيقة ربما يعني ذلك أنه يعمل على إجراء تناوب بسيط للجنود والمعدات تمهيداً للهجوم الكبير المقبل.
فابريس بالونش، هو أستاذ مشارك ومدير الأبحاث في “جامعة ليون 2″، وزميل زائر في معهد واشنطن. كما يدير “مجموعة الأبحاث والدراسات حول البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط” (GREMMO)، وأمضى عشر سنوات في لبنان وسوريا – المجالات الرئيسية لدراسته – منذ انخراطه للمرة الأولى في العمل الميداني في المنطقة في عام 1990. واليوم، كثيراً ما يُدعى كمستشار متخصص بشأن قضايا التنمية في الشرق الأوسط والأزمة السورية.