يثير التدخل السافر لحزب الله في سورية مسائل تتعلّق بفكرة الدولة الوطنية، والسيادة، وإدارة الصراع الاجتماعي والسياسي، ضمن الحدود المعترف بها لدولة مستقلة. من حيث المبدأ: الدولة صاحبة الحق الحصري في امتلاك السلاح، واحتكار العنف، وإدارة الصراع. وفي هذا الحق مبرر وجودها، ومبرر تمييزها عن دولة الحق الطبيعي (أو قانون الغاب حيث البقاء للأقوى).
لكن النظرية شيء، والواقع شيء آخر، خاصة في المستعمرات السابقة، التي تحوّلت إلى دول مستقلة، وأسهمت القوى الكولونيالية في رسم حدودها السياسية. علاوة مناطق شاسعة في الجزيرة العربية لم تعرف الاستعمار المباشر، لكنها اتسمت بتكوينات قبلية، وتمركزات جهوية، نجحت الأقوى بينها في دمج بقية التكوينات، بالقوّة، وتحويل الإقليم إلى دولة مستقلة. ولم يكن ذلك ليتحقق خارج إرادة القوى الكولونيالية نفسها.
في الحالتين، حُشرت أقوام، وقبائل، وإثنيات، وطوائف، ومجتمعات مختلفة ومتباينة، في إطار الحدود السياسية للدولة المستقلة. وكان على النخب الحضرية، التي سعت إلى الاستقلال، وقادت معاركه، وتفاوضت عليه، تحقيق أمرين: تحويل بيروقراطية الحكم الكولونيالي (أو التكوينات القبلية) إلى دولة وطنية، وصهر كل قطع الفسيفساء المذكورة في هوية واحدة، وموَّحدة، تُستمد مِنْ، وتقوم على، الحدود السياسية لإقليمها الجديد.
بدا، للوهلة الأولى، وكأن الدولة الوطنية نجحت في احتكار السلاح، والعنف، وإدارة الصراع الاجتماعي والسياسي، وتبلورت في وزارات، وقوات مسلحة، وأعياد وطنية، ومناهج تعليم مركزية، وبعثات ديبلوماسية. الخ. وبدا، للوهلة الأولى، وكأن عملية الاندماج والصهر نجحت، عن طريق الثقافة، والتعليم، والجيش، والوظيفة العمومية، في توليد هوية وطنية جامعة.
واليوم: في العراق، وليبيا، والسودان، واليمن، وسورية، ولبنان، نعثر على ما يبرر القول إن العملية تعثرت، ووصلت إلى طريق مسدودة. ولعل في وصفها بالدول الفاشلة ما يمكن تبريره بأمرين: أولاً، فقدان الدولة حق احتكار السلاح والعنف، إما نتيجة ضعفها، أو إفلاسها بالمعنى السياسي والأخلاقي، وتآكل مصادر شرعيتها. وثانياً، انفجار الهوية الوطنية، الدولانية، الجامعة، وتشظيها في هويات جهوية، وطائفية، ودينية، وإثنية. وبين الأمرين علاقة جدلية، وهما في حراك دائم.
يتجلى الأمر الأوّل في ظهور ميليشيات مسلحة، تستند إلى عصبيات طائفية وجهوية، وإثنية. ومنها مَنْ يملك عشرات الآلاف من المقاتلين (كما هو الأمر في لبنان)، وفي ترسانتها أسلحة متطوّرة تفوق، أحياناً، قدرة الدولة نفسها، ولدي بعضها بيروقراطية موازية لبيروقراطية الدولة، وربما تفوقها كفاءة.
ويتجلى الأمر الثاني في تغليب المصلحة الطائفية، والقبلية، والجهوية، والدينية، والإثنية، على المصلحة الوطنية العامة: إما اختزالها في مصلحة هذه الجماعة أو تلك، أو رؤيتها بعيون هذه الجماعة أو تلك.
وفي هذا الصدد تتفاوت آراء المعلّقين العرب والعجم. يعيد البعض فشل عملية الاندماج والصهر إلى لحظة الولادة، أي ولادة الدولة. بينما يعود البعض الآخر إلى تحوّلات مفصلية في تاريخ تلك الدول للعثور على ما يبرر الفشل. تبقى فكرة يجب استبعادها من كل محاولة جدية للتفسير. وأعني فكرة الجوهر الثابت للجماعات (دينية كانت أم إثنية) باعتباره موّلداً لهويات فوق التاريخ، والحدود، والقوميات، والدول. فلا وجود، في الواقع، لجوهر كهذا.
لا يمكن، بالتأكيد، تفسير النجاح أو الفشل في كل تاريخ الدول الناجحة أو الفاشلة في العالم، استناداً إلى سبب واحد ووحيد. وإذا كانت ثمة إمكانية لتعميم سبب (أو أسباب) الفشل، ينبغي التذكير بحقيقة أن لكل تجربة خصوصيتها. وبالتالي، لا يمكن سحب تجربة لبنان على تجربة اليمن أو السودان.
ومع ذلك، السمة الأبرز، والتي يمكن أن تشكّل قاسماً مشتركاً في التجربة الدولانية لكثير من الشعوب العربية، أن النخب الحضرية، التي تفاوضت على الاستقلال، وقادت معاركه، لم تعمّر طويلاً في سدة الحكم، وسرعان ما أطاحت بها القوّة الوحيدة، التي تملك السلاح، والقادرة على احتكار العنف، باسم الدولة، أي الجيش.
في سورية، مثلاً، تدخل الجيش في السياسة، بعد جلاء القوات الفرنسية بثلاث سنوات. والعراق بعد الاستقلال بعشر سنوات، وفي السودان بعد الاستقلال بعامين، وبعد أقل من عقدين في ليبيا بعد توحيد البلاد، وإعلان الملكية. وفي لبنان وقعت أوّل حرب أهلية بعد انسحاب الفرنسيين بأحد عشر عاماً.
وقعت كل تلك التحوّلات الدرامية في ظل، ونجمت عن، رياح الحرب الباردة، التي هبت على المنطقة في مطلع النصف الثاني من القرن العشرين، وخلقت بدورها حرباً باردة عربية، وتأثرت بنكبة الفلسطينيين، ونتائج وتداعيات الحروب العربية ـ الإسرائيلية.
المهم أن النخب الحضرية، التي تفاوضت على الاستقلال، وقادت معاركه، لم تعمّر طويلاً في سدة الحكم. حدث هذا في بلدان ضعيفة، وفقيرة، لم تتبلور طبقاتها الاجتماعية، وتقاليدها السياسية، فاستولى الجيش على السلطة، ووضع على عاتقه مسؤولية مشروع بناء الدولة، وإنجاز مهامها في إنشاء هوية وطنية موّحدة وتوحيدية. وقد فعل ذلك مؤثراً ومتأثراً، بقضايا الإقليم، كما فعله بلغة العصر، وأفكاره، ونماذجه، التي كان أبرزها، وأكثرها جاذبية، النموذج الستاليني.
ومن النتائج البارزة لعدم بقاء النخب الاستقلالية الحضرية ما يكفي من الوقت في سدة الحكم، تآكل السمات الحضرية للدولة. وهذا، مع الزيادة الهائلة في عدد السكّان، ما أدى إلى نتائج كارثية. وفي هذا المعنى يندرج بعض ما وصفه علماء الاجتماع العرب والعجم بالترييف.
وفي هذا السياق، يمكن القبض على لحظة الخلل الأولى: تلاحقت الانقلابات العسكرية، ونُذر الحرب الأهلية، في البلدان المذكورة، مصحوبة بتآكل متسارع للسمات الحضرية، وتزايد هائل في عدد السكّان، فانتفى الاستقرار السياسي والاجتماعي، لتصبح الأولوية في نظر الحكّام الجدد تكريس وحماية النظام. وفي هذا المسعى شطبوا الفرق بين النظام والدولة. ونتيجة هذا الضياع، وفي ظله، تحللت وتشظت هوية دولانية، ما تزال في طورها الأوّل، تعاني من الهشاشة وعدم اليقين، ومعها تحللت وتشظّت فكرة الدولة نفسها.
ونتيجة هذا الضياع والتشظي، وفي أبلغ تجلياته، يقص حزب الله، إلى جانب آل الأسد، الشريط الذهبي لزمن دولة الحق الطبيعي، وقانون الغاب، ويزوّد الباحثين عن حروب الطوائف الوهمية والمُتوَّهمة بكل ما يحتاجونه من بلاغة ومفردات.
فحزب الله يضع نفسه فوق الدولة اللبنانية، ولا يخضع لسلطتها. وآل الأسد أسقطوا، باستخدام كل ما لديهم من قوّة النيران، في الرد على شعب يطلب الحرية، حتى ورقة التوت التي يحرص عليها نظام يدعي تمثيل وحماية الدولة. وبالتالي فقدت الدولة السورية، منذ انقضوا على الشعب بالمدفعية والصواريخ، والطائرات، الشرعية الأخلاقية والسياسية لاحتكار حق العنف. وفي الأثناء، يتدفق محاربون إلى سورية من بلدان مختلفة للقتال إلى جانب هذا الطرف أو ذاك في بلد أصبحت حقلاً مفتوحاً للقتل.
وهذه مسألة لن تقتصر تداعياتها على سورية ولبنان، بقدر ما تهدد العالم العربي بصعود زمن ميليشيات اللاعبين غير الدولانيين وحلفائهم المحليين، في كل مكان تحللت فيه سلطة الدولة، وتهشمت هويته الجامعة. ظهر هؤلاء في العراق، وليبيا، وسورية (يقاتلون مع نظام آل الأسد وضده)، ولبنان، واليمن والسودان. ولا ينبغي استبعاد ظهورهم في أماكن أخرى.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني