«ثورة، ثورة حتى النصر!». ثم لازمة سريعة حماسية من بعدها: «ثورة! ثورة! ثورة!».
للذين تجاوزا الخمسين من العمر، هذا الشعار ولازمته، الرائجّان بين متظاهري شباب الثورة هذه الأيام، يحيلاننا الى أربعة عقود خلتْ: كانت قيادة الثورة العربية آنذاك هي الفصائل الفلسطينية، الخائضة حرب تحرير شعبية ضد اسرائيل؛ وبالنسبة لكل أنصارها والمنضوين تحت جناحها، كان هذا الشعار يلخّص قراءتهم للصراع، «المركزي»، الدائر آنذاك، ضد اسرائيل. الثورة حتى النصر هي بداهة ثورة ضد اسرائيل.
الآن يسمع هؤلاء الكهول شعار الثورة في التظاهرات العربية؛ فيقعون، للوهلة الاولى، على شيء من الالتباس. فالثورة الآن تعادي أنظمة الحكم، تريد اسقاطها. من أين لها اذن بشعار كان مخصصاً لاسرائيل؟ تمر الوهلة الاولى، ويتبدّد الالتباس: فالشعار، وبالمعاني التاريخية التي ينطوي عليها، يريد القول إن أنظمة الحكم العربية القائمة الآن هي أسوأ من اسرائيل، أكثر خطراً على حياتنا ومستقبلنا من اسرائيل، وإن لا خلاص إلا بثورة، كالتي رُفعت بوجه اسرائيل، تطيح قواعدها وأسسها.
هذه الفكرة الاخيرة، أي تغيير الأنظمة السياسية وقيام أنظمة ديموقراطية تداولية، لم تكن غائبة عن العقل العربي عشية الثورة الراهنة. كانت متداولة، ولكن كانت فكرة اخرى تنافسها بشدّة، وتطغى عليها غالبية الاحيان: انها فكرة مركزية الصراع مع اسرائيل واميركا، على اساس انهما «شرّ مطلق». ونتيجة تفوق هذه الفكرة الثانية، على فكرة بناء الدولة الديموقراطية، رسخت انظمة استبدادية مستقوية بما منحته للفكرة الثانية من رصيد؛ فيما أنظمة أخرى، لم يحل حرمانها من هذا الرصيد «الممانع» دون ممارستها قسطها المقدور عليه من الاستبداد.
والحال ان كلا الاتجاهين، «المعتدل» و»الممانع»، ظهر مع الثورة، مع انتصار بعضها، وتعثر بعضها الآخر وتأخر انطلاق بعضها الأخير، ان انظمة الحكم العربية أخطر من الصهيونية والامبريالية مجتمعين، أكثر قدرة على زرع الموت والخراب.
في النهب اولاً: أجيال الستينات والسبعينات الخوالي، كانت منكبّة على كتاب بيار جالي «نهب العالم الثالث»، الكتاب الايقونة؛ وقد أُشبعته هذه الأجيال قراءةً ونقاشاً ورواجاً. الكتاب يتحدث بالارقام عن النهب الذي تمارسه الامبرياليات لخيرات دول العالم الثالث، وكيف ان هذه الدول تصدّر موادها الأولية لتعود وتشتريها مصنّعة بأسعار استغلالية الخ. الآن، ماذا بوسعك قوله عن نهب ثروات الشعوب على أيدي حكامها؟ والذي يترجم بلغتنا العصرية بكلمة «فساد»؟ الفساد صنو النهب. الامبريالية كانت تنهب متسلحة بقانونها تفوقها وانظمتها. والانظمة العربية تنهب متسلحة بجهازها الامني وحصانتها و»وطنيتها».
الآن، أيضاً، حساب بسيط ولكن ضروري: اذا ما قارنا بين النهب الاستعماري، أو النهب الاسرائيلي للغاز المصري، مثلاً، وبين نهب رأس النظام المصري وأركانه لثروات مصر، من يكون السارق الأكبر؟ الانطباع حتى الآن، عن الرؤساء الذين سقطوا، وتعدّ لهم محاكمات عملاقة، أو الرؤساء المقبلين على الرحيل، إن ارقام سرقاتهم الفلكية تقزّم سرقات الصهيونية والامبريالية.
«فرّق تَسُد». كنا نقول ان هذه سياسة أعدائنا التقليديين: نصرخ بملء حناجرنا ان الذي أوجد الفرقة بيننا، الذي خلق التمييز الطائفي، المذهبي، الاثني، وربما الجنسي ايضاً، هم اعداؤنا هؤلاء. نصرخ مثلاً ان العراق لم يعرف الانقسامات المذهبية قبل صدام، أو ان القبائل كانت موحّدة في ظل السطوة الشاملة للقذافي، أو ان النظام المصري كان الضامن للدولة المدنية ضد دولة دينية يهدد بها الاخوان وتهدد حقوق الاقباط الخ. اما الآن، فنحن امام نهر من المعلومات التي تقول العكس تماماً. «فرّق تًسُد»، هو النهج السياسي المعتمد لدى أنظمة الحكم تجاه شعوبها. تعلمت الدرس من الثعالب المستعمرين الامبرياليين، وأخذت على عاتقها التمتّع بتحويل الاختلافات والتنوّعات الى انقسامات خطيرة، تهدّد الكيان الوطني نفسه.
«أقتل!»؛ القتل المباشر الذي يمارسه الاسرائيليون تجاه الفلسطينيين، والذي يغضبنا بمدى وقاحته واستباحته لأرواحهم… فلنقارنه بالقتل الذي يمارسه حكامنا. الرصاص الحي، تطلقه الشرطة بوجه متظاهرين عزل، هي كالنسمة امام قذائف وصورايخ القذافي المنهالة على الليبيين، مشاهدها كأنها مستعارة من شرائط القصف الاسرائيلي على أهالي غزة. الثوار الليبيون، بدورهم، ذوو اللباس غير الموّحد والسلاح الخفيف، يستعيدون، بشجاعتهم وركضهم المتواصل، مشهد «الفدائي» الفلسطيني في اول طلّته، عندما كان يقاتل الاسرائيلي من دون تأطير، ولا بيروقراطية، ولا راتب شهري وامتيازات.
من غير قتل، يتبيّن ان هذه الانظمة لا تستطيع الاستمرار في الحكم. والمقارنة بين انفلات الجنون الدموي للقذافي وبين «حضارية» تنحي كل من مبارك وبن علي، لا تُلبس الأخيرين ثياب العفّة والضمير الانساني. فلو كانت الأرض المصرية أو التونسية صالحة لنوعية ردّة الفعل القذافية، لما قصرا. وهما على كل حال، أعطيا أوامر بالقتل… ولو نفذ القتل بمواطن واحد، فهما عرضة لحساب الآن.
يؤخذ على الصهاينة والامبرياليين عدم اكتراثهم السياسي الا بـ«مصلحتهم» أو «مصالحهم الاستراتيجية» فحسب؛ وهم لا ينكرون ذلك، ولا يخجلون منه. اما الأنظمة العربية، فما هي المصالح التي تدافع عنها، وتستميت من أجلها؟ هل تستطيع هذه الأنظمة مكاشفة رأيها العام، والإفصاح عن هذه المصالح؟
الثورة العربية، بما حققته، أو هي في سبيلها الى تحقيقه، كشفت عن ان المصالح الوحيدة التي تقدّسها هذه الانظمة هي استئثارها بالسلطة المطلقة، وتوسيع هذا الاستئثار «عائلياً» وتمديده الى ان تحين الساعة، فتورّث الغنيمة الى الأبناء، بعدما كانوا قد أعدّوا لذلك منذ نعومة أظفارهم. يدافع الصهاينة والامبرياليون عن تفوّقهم، عن تحكّمهم بالمصائر، عن بقائهم على عرشهم العالمي أو الاقليمي. العروش الادنى، في ظلهم، التي تحتلها الانظمة الحاكمة، محكومة بالتشبّث نفسه، وبحرية يحسدهم عليها أعداؤهم المفترضون. ومع اننا كنا نعرف ونحدس الكثير، الا اننا كلنا مذهولون امام الجرائم والسرقات والتربيطات والحبكات التي نسجتها الانظمة الساقطة او الآيلة الى السقوط، وكلها تأتي على النقيض التام من مصالح شعوبها وأرواحهم وأرزاقهم وكرامتهم.
طبعاً، لا يعني هذا بأن اسرائيل واميركا هما أرض ميعادنا، كما قد يفكر كل متشبث بأولوية الصراع مع الصهيونية والامبريالية، بل يعني ان التناقض القائم بين مصالح الشعوب العربية ومصالح اميركا واسرائيل هو أقل من التناقض القائم بين هذه الشعوب وبين انظمة الحكم فيها. في التتناقض الاول نهب وقتل وتفرقة وطغيان لا يقلّ عن نهب زعماء هذه الانظمة لخيرات شعوبها، وقتلهم وتأسيس الفرقة بينهم. سبب هذه النسبية ان اسرائيل واميركا ديموقراطيان، مع الشذوذ السياسي الاسرائيلي؛ أي ان لديهما صحافة حرة ومجتمع مدني ومؤسسات، هي التي تكشف شرور أنظمتها وانحرافاتها، الصميمية احياناً؛ وانه لولاها، لما كانت دول الغرب الآن مشغولة بكيفية حماية الشعب الليبي من جرائم القذافي، بناء على طلب من أعدائه الثائرين عليه.
ولإدراك هذا الواقع، علينا التخيّل، مجرّد التخيّل، انه بدلاً من الأسر الاسرائيلي الاميركي، وقعنا في شباك الصين، التي يحكمها نظام شبيه بأنظمتنا العربية. دولة عظمى استبدادية تحكم دولاً أقل منها عظمة، ولكن على نفس درجة استبداديتها.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية
المستقبل
هي أنظمة لا تقلّ شرّاً عن الصهيونية والامبريالية الاستاذة دلال المحترمة تحية واترام انا من الذين عمرهم اكثر من خمسون عاما واتفق معك بان الانظمة العربية لاتقل سوء عن الصهيونية ومع معظم ما كتبتة ولكن مهلا… فانت تحاولين التخفيف من خطر الصهيونية وامريكا على المنطقة العربية والاخطر من ذلك انك تقبلين بالكيان الصهيوني على ارض فلسطين التاريخية ليس صحيحا ان الصراع بين الشعب والانظمة اقل تناقضا من الصراع العربي الصهيوني الصراع بين الشعب والنظام صراع مصالح وفساد مالي واداري وقد يصل حد الخيانة وفي اسوء حالاتة فهو اقل خطورة من طبيعة الصراع العربي الصهيوني والذي هو في الاساس صراع وجود… قراءة المزيد ..
هي أنظمة لا تقلّ شرّاً عن الصهيونية والامبريالية كلام سليم في زمن صدام كانت الطائفيه على اشدها حيث كان يحرم على الشيعي اداء طقوسه او دخول الوظائف المهمه بل حتى البسيطه المتعلقه بالامن مع انهم يمثلون 65 الى 70 من الشعب العراقي حيث ان الشيعه يتوزعون على مختلف القوميات..والعرب كانوا قسمين اما يعرفون ظلم صدام ضد شعبه لكنهم يتناسون الموضوع لاسباب طائفيه وقسم اخر خدعته الاله الاعلاميه الصداميه التي بينت انه لاتوجد طائفيه في الوقت كان فيه اتباع صدام يوميا يستخدمون التمييز الطائفي بالفعل والقول حتى صنعوا فجوه بين ابناء العراق حيث كان فقط ثلاث قنوات يتحكم بها جلاوزه صدام… قراءة المزيد ..