حينما أسس “تشونغ جو يونغ” في عام 1947 شركة “هيونداي للإنشاءات والمقاولات” كمؤسسة خاصة للقيام بتنفيذ المشاريع المدنية داخل كوريا الجنوبية وخارجها، لم يكن يتوقع أنه بذلك يضع حجر الأساس لما سوف يصبح في غضون عقود قليلة أحد الصروح الإقتصادية العملاقة ذي الأنشطة المتعددة والمتشابكة، بل ربما لم يتوقع وقتها أن شركته ستتحول إلى إسم ملازم لإسم بلاده حول العالم. ذلك أن شركة “هيونداي” الأم لم تساعد لاحقا في رفع كوريا الجنوبية إلى مصاف الأمم الناهضة صناعيا فحسب، وإنما، من خلال عمليات الإستثمار في البشر تدريبا وتأهيلا ورعاية وغرسا لقيم الولاء والطاعة، خلقت أيضا لكوريا الجنوبية جيشا من العمالة الماهرة في مختلف الحقول والقطاعات التي دخلتها الشركة، إبتداء من قطاع بناء أحواض السفن والسكك الحديدية، وصناعة المركبات والإلكترونيات، وإنتهاء بقطاعات الترفيه والسياحة والفندقة والمجمعات التجارية الكبرى، والزراعة وإستصلاح الأراضي، والتعليم العالي. وبذلك أمنت “هيونداي” الفرص الوظيفية والتأهيل المتقدم لمئات الآلاف من البشر، فضمنت لهم الحياة الكريمة.
في عالمنا العربي، الذي لا يريد أن يتعلم أو يقتبس من تجارب الآخرين، لا يذكر إسم “هيونداي” إلا وتتجه الأنظار حصريا إلى ما تنتجه هذه الشركة من مركبات، فيما الحقيقة هي أن “هيونداي” لم تدخل قطاع صناعة الدراجات والسيارات والشاحنات إلا في عام 1967 أي بعد مرور عقدين على ظهور الشركة الأم المتخصصة في الإنشاءات والمقاولات. والأخيرة هي التي يعود لها الفضل في تعريف بلادنا العربية بمهارات العامل الكوري ومدى إنضباطه ودقته في ما يعهد إليه من مهام وإحترامه للوقت. ففي السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم، وفي ذروة الطفرة النفطية الأولى تمكنت “هيونداي” للإنشاءات والمقاولات من التغلب على كبريات المؤسسات الغربية بالإستحواذ على عقود بناء ضخمة، كان أولها عقدا لبناء حوض لإصلاح السفن في “بندر عباس” الإيرانية، وكان ثانيها عقدا لبناء مشاريع إسكانية ضخمة في المملكة العربية السعودية، وكان ثالثها عقدا لبناء حوض لإصلاح السفن في البحرين، ناهيك عن عقود أخرى لبناء الموانيء والمستشفيات والمجمعات الحكومية والسكنية في العراق وإيران، الأمر الذي تسبب في إستضافة منطقة الخليج في إحدى المراحل لأكثر من مليون عامل كوري جنوبي في وقت واحد.
أما “هيونداي موتورز” للمركبات فكان ظهورها هو ثمرة تعاون فني مع شركة “فورد موتور” الإمريكية، وكانت أولى المركبات التي صنعتها هي “فورد كورتينا” في عام 1968 . لكن طموح الكوريين من ملاك “هيونداي” دفعهم إلى إكتساب الخبرات والتقنيات اللازمة لإنتاج مركبتهم الخاصة، مستفيدين من خطط الدعم الحكومية القوية. وهكذا لم يأت عام 1975 إلا و”هيونداي موتورز” تطرح أول جيل من مركباتها تحت إسم “بوني” مستثمرة في ذلك تصاميم إيطالية ويابانية، ومحركات بريطانية وإمريكية، ومعدات وأجزاء مصنوعة في ألمانيا وبريطانيا. وهي لئن تعرضت لبعض المصاعب المالية كنتيجة للأزمة النقدية الآسيوية في عامي 1997 و1998 ، فإنها إستطاعت سريعا الوقوف على قدميها مجددا، بدليل تمكنها في تلك الظروف الصعبة من الإستحواذ على شركة “كيا” للمركبات.
غير أن تاريخ “هيونداي” لم يكن دوما سلسلة من النجاحات المتوالية، وإنما تخللتها في مرات عديدة المآسي والأحزان والإخفاقات، التي كان أبرزها وقوعها في براثن ديون ضخمة مستحقة لمصرف الدولة ومجموعة من المصارف المحلية، كنتيجة للأزمة المالية التي عصفت بالعالم ما بين عامي 2008 و2009 ، وهو ما دفع الدائنون إلى المطالبة بحقوقهم. وقد كان لهذا الحدث وقع سيء على مجموعة “هيونداي” لأنه أدى إلى تفتيتها إلى مجموعات أخرى أصغر حجما وأكثر تخصصا.
أما المشكلة الأخرى المشابهة التي سبقت تلك الأزمة بنحو عقد من الزمن فقد كانت تخلي الأب المؤسس للشركة “تشونغ جو يونغ” عن كافة مناصبه الإدارية والتنفيذية لإبنه الأكبر “تشونغ مونغ كو” في عام 1999 ، قبل أن يتوفى في عام 2001، ويقوم ورثته الممثلون في أبنائه الستة بتقسيم ممتلكات إمبراطوريته. حيث إستولى الإبن البكر “تشونغ مونغ كو” على “هيونداي موتورز” التي كانت وقتئذ أنجح أذرعة إمبراطورية “هيونداي”، والمؤسسة الصناعية الأقوى في كوريا الجنوبية بعد نظيرتها “سامسونغ”.
وقد إستثمر الإبن الأكبر أموالا طائلة في عمليات الأبحاث والدراسات الخاصة بالتصاميم والتسويق والجودة وإشتراطات السلامة، وذلك من أجل تقديم مركبات قادرة على المنافسة والصمود في السوقين الإمريكي والأوروبي. كما إستثمر أموالا طائلة أخرى لتعزيز مكانة شركته في الأسواق الجديدة الصاعدة ، والذي نجد أوضح تجلياته في إقامة مركز للتجميع في مدينة “تشيناي” الهندية، إلى ذلك قام الرجل بتأسيس مجموعة تتبع شركته للقيام بأعمال بناء السكك الحديدية في الداخل والخارج. لكن المؤسف هو أنه إضطر للتخلى عن منصبه في عام 2006 لنائبه “كيم دونغ جين”، لتنفيذ حكم عليه بالسجن على خلفية ضلوعه في عمليات مالية مشبوهة.
وفي ما خص ثاني أبناء “تشونغ” المؤسس”، فإنه إستولى على مجموعة “هيونداي” لبيع التجزئة والتي هي عبارة عن سلسلة منتشرة من المتاجر الضخمة متعددة الأدوار. أما سادس الأبناء “تشونغ مونغ جون” فكان نصيبه من ثروة والده هو ملكية “هيونداي” للصناعات الثقيلة التي تعتبر أكبر مصّنع للبواخر في العالم.
فإذا ما أتينا إلى الإبن الخامس” “تشونغ مون هون”، فإننا نجد أنفسنا أمام قصة تراجيدية. فهذا الذي إستولى على “مجموعة هيونداي- آسان” المختصة بإقامة علاقات عمل وأنشطة تجارة ومقاولات وإنشاءات مع الشطر الكوري الشمالي، قرر في عام 2004 أن ينتحر بالقفز من مكتبه في إحدى ناطحات السحاب في سيئول، وذلك كي يضع حدا للتهم التي وُجهت إليه بتحويل مئات الملايين من الدولار إلى نظام “بيونغيانغ” بطريقة غير مشروعة، ومن أجل تقديمها كرشوة مالية إلى زعماء الشطر الكوري الشمالي بقصد نيل موافقتهم السريعة على عقد قمة في عام 2000 في “بيونغيانغ”ما بين الرئيس الشمالي الحالي “كيم جونغ إيل” ونظيره الجنوبي الأسبق “كيم داي جونغ”. وقد أفصح بعض التقارير أن الكوريين الشماليين إستخدموا مبلغ الرشوة (نصف بليون دولار) لتعزيز برامجهم النووية المثيرة للجدل.
وبوفاة هذا الإبن، برزت أرملته “هيون جونغ يون” التي سيطرت بيد من حديد على “هيونداي – آسان”، بل ودخلت في حرب معلنة مع الشقيق الأكبر لزوجها الراحل، متهمة إياه بأنه رجل جشع ويريد الإستحواذ بكل الطرق على تركة شقيقه ليعيد بناء وتوحيد إمبراطورية والده الراحل، خصوصا بعدما نجحت شركته (هيونداي موتوز) في الإستحواذ على الشركة الأم (هيونداي كونستراكشون” المختصة بأعمال البناء والمشاريع الكبرى في الشرق الأوسط. وهي لئن إستطاعت أن تواصل نشاطها الإستثماري في المنطقة الإقتصادية الحرة ما بين شطري كوريا، والتي إعتبرت مقدمة لتطبيع العلاقات ما بين سيئول وبيونغيانغ، ودليلا على رغبة الأخيرة في الإنفتاح على العالم، فإن مجموعتها تعرضت لخسائر جسيمة على خلفية عودة التوتر ما بين الكوريتين بسبب تحرش سفن الصيد والبحرية التابعة للشمال بنظيراتها الجنوبيات من وقت لآخر.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
elmadani@batelco.com.bh