ماذا يقول الراهب هيبا؟
أن للعنف جذوراً في كل لاهوت؟ وأن الحرب وليدة المعتقدات أو أن المعتقدات مبرر لكثير من الدماء. مثلما الشيطان مبرر لكل الخطايا.
في رواية “عزازيل” التي هي ترجمة يوسف زيدان لمجموعة رقوق قديمة، يقول الأسقف كرلس على لسان المسيح: “ما جئت لألقي في الأرض سلاما بل سيفاً” تسمعه الجموع المحتشدة في الكنيسة فتهيج وتجن لتسحل بعدها أستاذة الزمان عالمة الرياضيات الجميلة هيباتيا (الكافرة) في شوارع الإسكندرية. تجرد عنها ملابسها وتمزق أعضاءها حتى تصل لمثواها الأخير، كومة حطب تضرم بها النار فتحرقها حية وصراخها يجلجل في أنحاء المدينة..
أحكام هدر الدم السائرة اليوم لا تفرق كثيرا عما حدث لهيباتيا سنة 415 م.
قرأت لأحد المهووسين مقالا يحلم صاحبه أن يحل البابا بندكتس السادس عشر دم يوسف زيدان!
في حرم المؤسسات الدينية يغدو الدم سهلا، ربما ترياقا.. كثيرة هي الأضحيات والقرابين التي قدمت لمختلف أنواع الآلهة منذ الأزل. عذارى.. حيوانات.. رجال ونساء.. كفرة.. علماء هراطقة. دماء. لكم تلوثت الآلهة بالدماء. فهل نقتصّ حقّنا البشري من صناع التراث الديني أم من الآلهة؟
ويعيد التاريخ الديني نفسه، الأسطورة تعيد نفسها بطرق مختلفة..
المتحدث باسم الإله سأل الراهب هيبا عن أعظم الأطباء فأجابه: أمنحوتب، أو أبقراط..
رد: بل هو ربنا يسوع المسيح..
نفس ما نشهده عند المتحدثين باسم الإله من المسلمين.
وهو ما يتبين من قراءة مؤلف لجورج طرابيشي عنوانه (مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام) حيث ذكر مصطلح الأرثوذوكسية الإسلامية على غرار الأرثوذوكسية المسيحية في أثناء شرحه لموقف الحضارتين من مسألة العقل.
عبارات رجال الأديان تتردد هي ذاتها منذ أكثر من ألف.. أكثر من ألفي عام “نحن نعيش زمن الفتن، زمن الجهاد..”، “طهروا الأرض من أعوان الشيطان”..
كل من خالف المؤسسة ليس مخطئاً فقط بل نجساً. حتى داخل الدين الواحد هناك نزاعات طائفية تفرق بين الطاهرين والنجسين، نزاعات خالدة لا تنتهي. الدعوات إلى تطهير النفس والجسد لا تنتهي. لكن من بيده بيان لنص الطهارة؟
تسجل الرقوق التي لاقت ضجة هائلة مع نشرها، صراع أساقفة الكنيسة في القرون المسيحية الأولى حول طبيعة المسيح، بين مؤيدي مجمع نيقية القائل بأن المسيح هو الله وبين أتباع آريوس القائلين بأن المسيح كان بشراً.. والذين حكم عليهم بالحرمان والطرد.
وتروي المذكرات رحلة دينية نفسية فلسفية عميقة.. يصف بها الشاعر أو الطبيب هيبا بعض الفكر الخرافي آنذاك، كالإيمان بأن بئر الشيطان تقتل من يشرب منها، فيكشف لهم الراهب الطبيب ساخرا أنها مسكن للدود ولا علاقة للشيطان بها.
ورغم سخريته فرقوقه تجسد الصراع الدائر بين الإنسان والشيطان.. يلومه هيبا لأنه سبب كل خطيئة اقترفها. حتى ألبسه غوايته للكتابة عن خطيئته مع أوكتافيا.
لكن عزازيل (الكلمة العبرية للشيطان) يدافع عن نفسه فينقذ هيبا من تناقضاته وأوهامه..
ماذا يقول عزازيل؟
أنه ليس محرضا على الآثام ؟
ما يعتبره البعض إثماً من صنع الشيطان يعتقده آخرون عملاً من صنع الرب. قال عزازيل لهيبا يوماً: هذا ليس صوتي بل صوتك انت؟ أنا مبرر للخطايا ليس إلا. الإله لا يصنع الإنسان بل العكس.. وأنا أيضا من صنع الإنسان..
ماذا يريد الخارج من الدير للأبد، الحر الذي تفاهم مع شيطانه أن يقول:
أن الإله وعزازيل يتحكمان بالإنسان وفق السائد؟ يسيران خطوط حياتنا دون تدخل منا؟ أهذا ما نفهمه منك يا هيبا؟
تجرأ الراهب في موضع آخر، فتجاوز وصف تفاصيل علاقة حميمة جمعته بامرأة وثنية، ليصف طيور الحمام وصفا رومانسياً رائعاً. ” لا تفرق ذكوره بين أنثى جميلة وقبيحة، ولا يعرف الفرد منه أبا أو أما بل يعيشون في شركة كاملة لا تعرف أنانية ولا فردانية…كحال الإنسان أول الأمر…. يختار الرجال من النساء والنساء من الرجال ما يناسب الواحد منهم للعيش حينا في محبة مع الآخر ثم يتركه إذا شاء ويأنس لغيره… ويصير نسلهم منسوبا لهم جميعاً…”
تمنى مرة لو يكون مثل ذكور الحمام ” أحظى لحظة بمن اقترب مني ثم نطير..”.
اجتمعت التناقضات في شخص واحد. فهيبا راهب استعار اسمه من هيباتيا الكافرة بعرف الكنيسة، وهو شاعر وملحن وطبيب وعاشق.. عشق الحياة والمرح، قبلها عشق أوكتافيا الوثنية الحزينة على ديانتها وعلى معبد هدمه ثيوفيلوس، اعتقد هيبا أنها فاجرة. لماذا يقضي الرجل أوقات مع امرأة يحتقرها ويعتقدها آثمة تذكره بخطيئة آدم الأولى؟
بعد عدة أيام قضاها معها ساورته شكوكه التي تلازمه كظله..من منهما الضال ومن المهتد؟ المرأة الوثنية أم الراهب الزاهد؟ وبعد عشرين عاما كتب يقول ” أوكتافيا الطاهرة”.
حين طلبت منه أوكتافيا البقاء إلى جانبها فكر هيبا الرجل الأناني فردت نفسه عليه. كيف يتخلى عما بناه، عن الطب واللاهوت لأجل امرأة. وحين أحب مرتا وسألته الزواج…
أخبرها أن إنجيل متى يحرم الزواج من مطلقة فذلك كأنه زنى..
أجابت مرتا: وما الذي كان بيننا بالأمس في الكوخ؟ ألم نكن هناك نزني؟
أعادت نفسه ذات الرد الأول.. كيف يتخلى عن كل شيء، عن الطب واللاهوت، لأجل طفلة عشرينية.
لكنه في النهاية تخلى عن كل شيء. أفهمه عزازيل كل شيء. أقنعه أن التجسد خرافة، وأن العالم الحقيقي هو الموجود بداخله وليس في اختلاف الوقائع، تصالح مع أفعاله، بدأ يزهو بشعور الجوع وحاجته إلى الطعام. رحل عن الأوهام والخرافات ليعيش حراً.
هل ذهب إلى حلب ليتزوج مرتا وينقذها من الغناء ؟ أم أنه لم يحب مرتا ولا أوكتافيا؟ أحب فيهما جسديهما العاريين المناقضين (لطهارة) تعاليم الكنيسة؟
*
قال له عزازيل يوماً ليثنيه عن الانتحار:
” تحيا يا هيبا لتكتب، فتظل حيا حتى حين تموت في الموعد ، وأظل حيا في كتاباتك..اكتب يا هيبا فمن يكتب لن يموت”.
وقال يأمره بقول الحق: “لا تكن مثل ميت ينطق عن ميتين ليرضي ميتين”.
Albdairnadine@hotmail.com
• كاتبة سعودية
قرأ أيضاً على “الشفّاف”:
مَنْ يكتب كما قال عزازيل لا يموت..!!
وسف زيدان: “عزازيل” استغرقت منى 30 سنة وحاولت أن أنفض الغبار عن تاريخ مصر المنسي
«عزازيـل» بوكـر.. مـاذا تربـح الروايـة؟
هيبا، هيباتيا وعزازيل الله الله يا ندين .. الله على نعومة اللغة والرشاقة في الأسلوب ؛ والخنجر في المعنى أن الله من صنع الإنسان ؛ والشيطان من صنيعه ايضاً ؛ ليبرر كل جرائمه على الأرض . ناعياً بحق الأول أنه هو من قدر عليه المصير ؛ وأما الثاني فقد أضل عليه الطريق . ولن نجد سلاحاً قذراً ؛ يستخدمه الحكـام ورجـال الدين والمزاحمون لهم . مثل استخـدام المفاهيم الدينية لمحو إرادة الإنسان ؛ بهـدف السيطرة عليه وتسييره؛ منذ الإنسان البدائي وإلى الآن . ونقتل أنفسنا كي ترضى عنا الآلهــة المستبدة والسفيهة ؛ والمخلوقة من خيوط الوهم ؛ والنائمة في رؤوسنا… قراءة المزيد ..
هيبا، هيباتيا وعزازيل
اشكرك، يا نادين، بهذا التعريف الموجز عن رواية “عزازيل”..
لقد وجدت الراوية جد ممتعة.. و يحسن تعميمها..فإن كانت لديلك في شكل ملف انترنتي فتكرمي..
دمت للتنوير و”المساواة” سادنة.
و اسلمي،
ابراهيم