إنه لمن دواعي سروري أن يحلّ الجولان ضيفاً على “منتدى جمال الأتاسي للحوار الديموقراطي”. وبداية، لا بدّ لي من تسجيل خالص امتناني للعزيزة سهير الأتاسي، على اهتمامها ونشاطها، ثم لفتتها الكريمة بدعوتي تقديم هذه الورقة، والمتضمّنة اقتراح فكرة موضوع يتمّ التحاور فيها، تتعلق بهموم أبناء الجولان المحتل، بانتظار عودتهم إلى وطنهم، أو عودة وطنهم إليهم، إذا استقام القول.
ما سأطرحهُ، ليس بحثاً علمياً ولا هو دراسة، إنما أشبه بمجموعة خواطر وهواجس وتساؤلات تدور في ذهن جَولاني، كان قدره الاغتراب ثلاث مرّات. أولى، أنه خُلِق والاحتلال فوق رأسه وعاش معظم حياته تحت حكمه، وثانية في وطن عايشه عن قرب ليجدهُ يشبه كل الأشياء إلا الأوطان؛ وثالثة اختيارية في رحلة بحث عن الذات.
قضية الجولان، رغم كل ما كُتِب عنها، تبقى بِكرا وأكبر مِن أن تُختصر بهذه العجالة. إنها مرتبطة في الدرجة الأولى بطبيعة وأرض ومياه وتهجير، وبأجيال كاملة، خُلِقت تحت الاحتلال، وكبرت بعيداً عن وطنها، في ظل قطيعة شبه كاملة. أجيال، يحمل كثيرون منهم أسماء مدن وطنهم وقراه وأنهاره. وطن، يهتفون باسمه ليل نهار، ويتغنّون بانتمائهم إليه، لكنهم مدركون في أعماقهم حجم مأساته وكبر فجيعته.
أسئلة واستفسارات لا حصر لها، أثيرَت، وتُثار، وسوف تُثار حول ما لفّ قضية الجولان، بكل تشعّباتها، من غموض…؛ دفع أهالي الجولان خلالها، سواء مَن بقوا في أرضهم، أو مَن هُجِّروا إلى الداخل السوري بعد هزيمة حزيران، دفعوا أغلى التضحيات وأعز ما يملكون من أرواح وممتلكات.
وعودُ التحرير المؤجلة، واستمرار التعامل مع الاحتلال على أنه ظاهرة موقتة، دون القيام بأي تحرك فعلي أو ذي جدوى على الأرض، كان لها آثارها المدمرّة على الساحة الجولانية. فجثوم الاحتلال فوق صدور الأهالي لأكثر من اثنين وأربعين عاماً متواصلة، لم يولّد فقط صموداً ورفضاً ومقاومة، بل أفرز مشاكل وهموماً ينبغي أخذها في الحسبان وإعادة النظر في كيفية التعامل معها.
ونظراً لضخامة ملف الجولان وكثرة تفرعاته، ارتأيتُ أن تكون البداية مع ملف التهجير، على أن يُستكمل الحوار لاحقاً، أو ربما يمتدّ إلى الداخل الجولاني عبر التواصل مع الأهل هناك، ليشمل جوانب أخرى تحاكي هذا الجرح النازف منذ أربعة عقود ويزيد.
إشكالية التهجير هذه، كما أراها، تبدأ من التسمية، بعد أن اصطُلِح على تعريف ضحاياها بـ “نازحي الجولان”. والحقيقة والإنصاف يقتضيان تصحيح هذا الخلل؛ فما حصل هو عملية تهجير فعلي وقسري وليس نزوحاً اختيارياً أو طوعياً. فكلمة “نازح” ظلّت على مدار كل هذه السنوات الطويلة، لعنة تلاحق مهجّري الجولان المحتل وسط أهليهم؛ فوق كل ما حلّ بهم مِن هلاك جرّاء إجبارهم على ترك أرضهم، في واحدة مِن أشنع الهزائم وأكثرها غموضاً والتباساً وضبابية!!!
وبالعودة إلى المعجم للتفريق بين المُهجّر والنازح، نرى أن المُهجّر هو مَن هُجِّرَ، أي أخرِجَ من البلاد أو الدار وأبعِد قسراً عن أرضه وأهله وناسه.. وهو يختلف عن المُهاجِر الذي ترك بلده إلى آخر غيره بقصد الاستقرار لأمر أو سبب دفعه للهجرة.
فيما النازح تعني، بُعد الشخص عن داره أو أرضه. ويقال، نزح من الريف إلى المدينة، أي انتقل إليها. ومقاومة النزوح تكون بتوفير فرص عمل وخلقها. والفعل نزح لا يتحدث عن الفرد كما تجمهُر القوم، إذ هو رحيل قسري بقصد ترك حال سلبية لحال أفضل، وهو ترك يعني ألا عودة إلا بتغير الشروط والظروف التي دفعت للنزوح مع متغيرات جدية مشجعة.
هم مهجّرون إذن وليسوا نازحين!
بعد اتفاقية فصل القوات الموقّعة بينهما عام 1974، بقي لسوريا في ذمّة إسرائيل ما مجموعه 1250 كم2 من مساحة هضبة الجولان الكلّية المقدّرة بـ1860 كم2. ما تبقّى من المواطنين السوريين في الجزء المحتل، كانوا يقدّرون بـ7000 نسمة، يتوزعون على ست قرى هي: مجدل شمس، مسعدة، بقعاثا، عين قنيا، الغجر، وسحيتا. لاحقاً، قامت إسرائيل بتدمير قرية سحيتا وتهجير سكانها إلى قرية مسعدة المجاورة، وهؤلاء يتركّزون فقط على خمسة بالمئة من مساحة الجزء المحتل من الجولان.
المُلفت، أنّ معظم مَن كتبوا عن الجولان وتعرّضوا لقضية هؤلاء المهجرين، تناولوا أسباب بقاء أهالي هذه القرى، والذين يبلغ تعدادهم راهناً حوالي 20 ألف مواطن. فيما المنطق كان يقتضي عدم التركيز على هذه المسألة، على أهميتها، وحسب، كون بقائهم في أرضهم هو الطبيعي والقاعدة، بينما التهجير هو الاستثناء، وهو ما يستحق البحث والتنقيب في أسبابه. وخلا محاولة يتيمة بادر إليها الباحث والناشط الجولاني بشار طربيه، في دراسة له بعنوان “التطهير العرقي في الجولان”، في مؤتمر انعقد في مدينة حيفا /حزيران 2008/ لأجل حق العودة والدولة العلمانية في فلسطين، فإنه لم يتمّ التطرق إلى هذا الأمر بشكل جدّي حتى الآن، وإيلاؤه الأهمية التي يستحق.
مأساة التهجير هذه تنقسم إلى نوعين:
الأولى، تمثلت بعملية التهجير الجماعي التي طالت أكثر مِن 130 ألف نسمة، حيث أزالت قوات الاحتلال الإسرائيلي أماكن سكناهم عن بكرة أبيها وأقامت المستعمرات اليهودية على أنقاضها. وتعدادهم راهناً يقارب نصف مليون يشكلون أحزمة فقر حول العاصمة دمشق وغير مدينة سورية، وأعتقد أن ذلك يرقى إلى مرتبة جريمة ضد الإنسانية.
والثانية، تمثلت بالتهجير الفردي لبعض المواطنين من القرى الخمس التي بقيت آهلة بسكانها. وهؤلاء، إما كانوا يؤدون خدمة العلم في الجيش السوري، أو موظفين في محافظات أخرى، أو لأسباب متفرقة، حيث نتج عن ذلك تشظي قسم من عائلات الجولان بين شرقي خط وقف النار وغربه، والذين يتواصلون راهناً عبر الميكروفونات على خط الفصل المزروع بالألغام والأسلاك الشائكة أو ما يُعرف بـ “تلة الدموع”.
فيما يتعلق بمَن ثبتوا على أرض الجولان، فإنه رغم الإحكام المطبق الذي مارسته سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وانعدام أي نوع مِن الدعم العسكري أو اللوجستي، أو حتى المادي، مِن الوطن أو سواه، لبضعة آلاف لا يتجاوز تعدادهم عشرين ألف نسمة، راهناً، فهم قاموا بواجبهم على أكمل وجه، وأثبتوا كفاءة عالية قَلّ نظيرها في الحفاظ على أرضهم وهويتهم السورية في زمن الانكسارات والخيبات العربية، سواء في إضرابهم الشهير عام اثنين وثمانين ورفضهم قانون ضم الجولان والجنسية الإسرائيلية، أو عبر تعاملهم مع الاحتلال طوال أكثر مِن أربعة عقود بمقتضى الضرورة وانعدام البديل، لا النفع والمصلحة.
الأمر المستهجن هنا، أن النظام السوري لم يعمل على استثمار قضية المهجرين هذه، لا محلياً ولا حتى على صعيد طرحها في المحافل الدولية رغم ما تمثّله من ثقل، كونها تُعتَبَر بمثابة فَرَس رابح في جميع الميادين والاتجاهات، حتى أنه لم يُسمح لأصحاب هذه المأساة التعبير عن وجعهم؛ وأكثر ما ميّز هذه القضية الخطيرة، هو التعتيم ثم التعتيم ثم التعتيم…! مجرّد احتشاد مئات الألوف من هؤلاء المهجرين على خط وقف النار مع إسرائيل، ولو مرّة واحدة، في ذكرى اقتلاعهم مِن أرضهم لم يتم! رغم ما قد يحمل ذلك مِن رسائل ودلالات.
في ظل وجود نظام (صنديد ممانع) في دمشق، وضعَ نصب عينيه (وحدة العرب وحريتهم واشتراكيتهم، إضافة إلى دكّ معاقل الإمبريالية والصهيونية وحصونها حيث وُجِدَت؛) يلحظ أي متابع أن قانون الطوارئ عُدَّ مِن (موجبات الصراع مع العدو؛) وأنّ تُهم (دَبّ الوهن في عزيمة الأمة والتحريض الطائفي ودسّ الدسائس على الوطن) تقف بالمرصاد لكل دعاة تحرير هذا الوطن مِن منظومة الهلاك والقمع والفقر الذي يرزح تحته، وأن الشعب السوري أجبِرَ على ابتلاع هذا الطعم المسموم؛ لكنه مِن الصعوبة بمكان إيجاد مسوّغ أوعذر لمسألة الإحجام عن الاحتجاج، داخل الوطن، على عدوّ هجّر بعض الشعب مِن أرضه وسلبه ما يملك، ولو استعراضياً!
مِن هنا، فإنه مِن الضرورة العودة إلى دراسة ما حدث آنذاك، منذ ذلك البلاغ الشهير (66) والإعلان عن سقوط مدينة القنيطرة قبل أن تطأها أقدام جنود الاحتلال، وإعطاء الجيش السوري قرار الانسحاب الكيفي من المعركة، والمقدمات التي هيّأت لتلك القرارات الملتبسة.
حتى نتمكن مِن فهم ما جرى، والكل مدعو لذلك، لا بد لنا من العودة إلى تلك الأصول، أو الاستعانة بشهود أحياء من تلك المرحلة، سواء من أصحاب المأساة أنفسهم، أو الجنود والضباط الذين عايشوا تلك الأيام السوداء. أو بما أورده، على سبيل المثال، كل مِن الضابط السوري خليل مصطفى (المُختفية آثاره)، صاحب كتاب “سقوط الجولان”، أو سامي الجندي في “كسرة خبز”، أو سعد جمعة في “المؤامرة ومعركة المصير”، وذلك ريثما يفرج لاعبو تلك المرحلة، السياسيون والعسكريون، في إسرائيل وسوريا، على حد سواء، عما في أدراجهم من وثائق ومعلومات.
مِن دون أدنى شك، أنّ مسؤولية ما حصل، إضافة إلى الآلة الإجرامية الإسرائيلية تقع، بالدرجة الأولى، على عاتق مَن خسروا الأرض ويتحمّلون، في أضعف تقدير، جزءاً كبيراً من المسؤولية الأخلاقية والتاريخية، سيّما وأنهم ما زالوا يمسكون بناصية الحكم منذ ذلك التاريخ، ويجلدون الشعب السوري بحجّة تحرير الأرض، ويحكمونه بقوة قانون الطوارئ، دون أن يُخضعوا أنفسهم لأي نوع من المراجعة أو المحاسبة.
والأخطر مِن هذا وذاك، هو التفريغ المنّظم والممنهج الذي حصل بعد ذلك، وعلى امتداد أكثر من أربعة عقود، لمفهوم الدولة مِن كل محتوى أو مضمون دولتي، لدرجة صار من المستحيل معها لكل علوم السياسة والاجتماع اجتراح تعريف علمي لهذا الكيان السياسي أو الجغرافي الذي يدعى سوريا. فعندما يكون القانون معلقاً عبر حالة طوارئ مستمرة إلى ما شاء الله، فإنها توفر أرضاً خصبة لفساد الطبقة الحاكمة، وهذا الفساد يصبح قاعدة ويحوّل الدولة إلى كيان عشوائي ومتآكل من الداخل، وهذه كارثة وطنية بكل مقياس.
المطروح هو:
هل تشكّل، حقاً، قضية الجولان أولوية للمواطن السوري الذي يرزح تحت نير أحكام الطوارئ منذ ما يقارب الخمسة عقود؟
هل بمقدور الشعب السوري وقواه الحية كسر احتكار السلطة قضية الجولان، في وقت يعجزون فيه عن تسيير مسيرة سلمية، بالعشرات، حتى لو كانت لغرض مطلبي أو معيشي؟ وتالياً، هل يستطع، مِن الأساس، شعب مغيّب محتل مِن الداخل العمل على تحرير جزئه المحتل في الجولان، أو حتى البتّ في قضاياه، الكبرى منها والصغرى؟
وبكثير مِن المرارة واللوعة، انتقل هنا إلى التساؤل: هل مِن العادلة والنزاهة أن يرمي الشعب السوري همومه وأوجاعه على ثلة قليلة مِن أبنائه البررة، يستفرد بها النظام ويشبعها قمعاً وتنكيلاً، فيما الشعب هانئ بذلّه كما لو أنه حجز لنفسه مقعداً لدى مجموعة عدم الانحياز!؟ فهل العلّة تكمن في خمول الشعب، أو هل هناك، مِن الأساس، شعب حيّ وشعب خامل، أم أنّ ذلك مردّه إلى قصور رؤية لدى مَن يُفتَرض أنهم يحملون مشروعه التغييري أو يقودونه وعجزهم عن إقناعه؟
التهجير الذي حصل بحق أكثر من 130 ألف سوري في الجولان لا يختلف بمضامينه وأبعاده عن تهجير الفلسطينيين إلا بتفاوت العدد. كيف السبيل إلى استثمار هذه القضية (المهجّرين) الحساسة، الحيوية، الهامة والرابحة والتعامل معها؟
هل مِن المنطق التعامل مع النظام على أساس أن مَن خسر الأرض تقع عليه مسؤولية استرجاعها، وبالتالي بقاء المعارضة السورية مستقيلة عن مقاربة كل ما خصّ قضية الجولان واحتلاله إلا خشوعاً؟
هل صحيح أنّ تحرير الجولان مِن محتليه مشروط أولا بتحرير دمشق مِن طغاتها أم العكس؟ بمعنى، هل مِن الأفيَد لنا تجميد الصراع مع العدو الإسرائيلي، ريثما نتمكن من بناء دولة علمانية ديموقراطية؟ وفي هذه الحالة، ما هو السبيل الأمثل لتوسيع دائرة التواصل مع أهالي الجولان المحتل ومدّهم بأسباب البقاء والصمود لو طالت سنوات الاحتلال أكثر؟
والسؤال الأخير برسم الجميع، شعباً، مثقفين، قوى حيّة، معارضة، وحتى نظاماً: اثنان وأربعون عاماً مضى على احتلال الجولان. أكثر مِن ثلثي سكانه وُلدوا تحت الاحتلال لِمن بقوا، وفي الشتات لِمن هُجِّروا. إلى متى يبقى الجولان وأهله، المقيمون منهم والمهجّرون، متروكين لمصيرهم؟
* صحافي من الجولان السوري المحتل
الولايات المتحدة
يمكن مطالعة هذه المداخلة على “منتدى جمال الأتاسي للحوار الديمقراطي”
هواجس جَولانية.. مأساة المهجّرين، مثالاً..
تساؤل لا يكلّ في الذهن، رغم انعدام الإجابات أو انعدام المروءة لصوغها : أيننا، نحن لبنانيي المهجر من عالم ذوي المهجر السوري؟ والاتجاه المعكوس جائز طبعاً. الحق المشهود يقول لا وجود لعلاقة، رغم بديهية ساحات التفكير والتبادل والعمل المشتركة. وللتدقيق، فالسرطان واحد، وفتكه متقاسم. إذاً، لماذا وإلامَ هذا الإتعدام؟ بالمناسبة، لربما هنا أبرز دواعي النقد المشروع لقادة حركةالاستقلال اللبنانية، إلى جانب غيره.