فإخراج المسيحيين، أو إعادة صياغة موقعهم على أنهم أقليات محمية، أو وضعهم في ذمة غيرهم، أو غير ذلك من أشكال إنكار مساواتهم الفطرية بغير المسيحيين من المواطنين، كأفراد وكثقافات أصيلة وكطوائف قائمة، هي أعمال تندرج عمداً في إطار استنزاف المكاسب التي أنتجها تراكم عالمي متواصل لتحقيق الحرية والكرامة والعدالة للأفراد والمجتمعات.
ووفق معيار هذا التراكم، مع بليغ الأسف، فإن المجتمعات المشرقية قد ساءت أداءاً. فالعراق قد شهد ما يقترب من تلاشي مكوّنه المسيحي، والذي كان يناهز العُشر من مجموع السكان ليصل إلى حضيض بنسب مئوية لا تتجاوز دنيا الأعداد المنفردة. وحده كردستان العراق قد تمكن إلى حد ما من مواجهة هذا النزيف من خلال تطبيق توجهات هادفة إلى صون الحضور المسيحي. أما سوريا، والتي كانت أعداد المسيحيين فيها تبلغ االعُشر كذلك، فلا تمنح هؤلاء المواطنين اليوم إلا الخيار المرّ بين الاصطفاف مع نظام استبدادي يزداد في طائفيته كما في قمعه، وهو ساقط لا محالة وإن بعد حين، أو الانضمام إلى معارضة يطغو عليها من يَعِد المسيحيين بمنّة الحماية في أحسن الأحوال. فالعديد من السوريين المسيحيين قد اختاروا الرحيل، والأعباء التي يواجهها من لم يرحل تزداد ثقلاً. وكذلك ضمن المجتمع الفلسطيني، فكلام الأمس عن دولة علمانية ديمقراطية كهدف نهائي لجهد التحرير قد انحسر وكاد أن يختفي مع إعادة تشكيل الصراع من مواجهة بين الفلسطينيين والإسرائيليين إلى صدام بين المسلمين واليهود، ذلك فيما المساحة العقائدية والاجتماعية والسياسية للفسلطينيين المسيحيين تزداد ضيقاً. وفي الأردن، يحظى الأردنيون المسيحيون، والذين قد يصل تعدادهم إلى خمسة بالمئة من مجموع السكان، بتأكيد على مواطنيتهم من الأسرة المالكة، ويقيمون علاقات ودية راسخة مع مواطنيهم المسلمين. ولا تزال مقولة التآخي المسلم المسيحي متداولة في الخطاب العام كأساس للأمة الواحدة (أو المجتمع الواحد)، إلا أن تنامي التوجهات القطعية في الشارع الأردني يثير قلقاً متزايداً في أوساط هذه الفئة من الأردنيين، رغم ما تشهده من نجاح ورخاء.
وبيت القصيد في المسيحية المشرقية هو لبنان، حيث العيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين هو أمر ميثاقي يعلو على الأطر الدستورية والسياسية والاجتماعية. غير أن لبنان قد شهد في العقود الأخيرة ضرراً فائقاً في العلاقات بين طوائفه. ولبنان هو الموطن الوحيد في المنطقة لتعبير مسيحي سيادي. والمقصود بالسيادية هنا الخطاب الذي يجاهر بسعيه إلى تحقيق المصلحة المسيحيين كجماعة، سواءاً في إطار التوافق الوطني، وهو المفضّل، أو في التصدي لأية حالة خارجة عن هذا الإطار قد تطال هذه المصلحة.
كانت نسبة المسيحيين في لبنان عند إنشائه عام ١٩٢٠ نقترب من النصف، وهي اليوم قد لا تبلغ الثلث من المواطنين المقيمين. غير أن هذه النسبة تتبدل جلياً لصالح التعداد المسيحي في حال جرت إضافة أعداد اللبنانيين في المغتربات.
وكانت فرنسا، الدولة المنتدبة من عصبة الأمم للإشراف على بعض بلاد الشام، قد أعلنت قيام لبنان ليس كوطناً حصرياً للمسيحيين، بل كدولة جامعة لطوائف عدة متوافقة، مع إيلاء الدور القيادي المحترم للندّية إلى النخبة المارونية. وتاريخ لبنان منذ تأسيسه كان سجلاً متواصلاً من التجاوزات والتحديات لهذه الصيغة. وفي منتصف السبعينات من القرن الماضي، بات واضحاً أن التبدل في الميزان السكاني كما الاعتبارات السياسية في المنطقة تشكل تعطيلاً نهائياً للصيغة الأصلية. واستغرق أمر التوصل إلى بديل عنها عقد ونيّف من الفوضى والحروب. وتمخّض البديل بأن تعتمد المناصفة كمعيار بين المسيحيين والمسلمين، وذلك في مرحلة انتقالية على طريق إزالة الطائفية من السياسة والحياة العامة.
فالهدف كان لا يزال الوصول بلبنان إلى هوية وطنية جامعة تتجاوز الانتماءات الطائفية، يجري من خلالها التعبير عن التوجهات السياسية. أما الواقع، فهو أن لبنان لم يكن مهيأً بنيوياً للسير في هذا الاتجاه، والمنطقة ككل لم تكن حاضنة له لا في الفعل ولا في المزاج. والأخطر أن لبنان ما بعد الحرب الداخلية الطويلة عدا مفتقداً للكثير من أوجه التلاقي بين الطوائف والتي كانت قد تحققت في العقود الماضية. وبعد أن أبدت الأسرة الدولية رضاها على الوصاية السورية على لبنان، كمكافأة على مشاركة نظام دمشق بحرب الخليج عام ١٩٩١ بوجه نظام صدام حسين، وبعد أن نجحت الجمهورية الإسلامية الإيرانية في توطيد حزب الله كموقع دائم متقدم لها، تراجع مفهوم السياسة المسيحية السيادية في لبنان إلى مستوى النظرية البعيدة عن إمكانية التطبيق.
ودخل لبنان، في ظل الوصاية السورية، بدلاً من مداواة الهوية الوطنية الجامعة، مرحلة تكريس المسارات الطائفية المتباعدة: شيعياً، تشارك نظام دمشق مع إيران في تشكيل منظومة شمولية مجنّدة لخدمة الطرفين، وسنياً نجحت دمشق في احتواء التوجه الساعي إلى تغليب النمو على العقائديات، بل تمكنت من تطويع هذا التوجه وتجييره وكبح ميله إلى الاستقلال، ومسيحياً حيث الالتزام السيادي المبدئي بقي مستمراً على المستوى الخطابي، حقّقت دمشق اختراقات عميقة ساهمت في تصديع الرؤية الذاتية المسيحية حول الوجود والاستمرار في لبنان والمنطقة.
وقد تبدلت الساحة السياسية في لبنان، ومعها أدوار القوى الداخلية والخارجية، كثيراً منذ التسعينات. ولكن الرؤية الذاتية المسيحية ازدادت انفصاماً بين توجه يعتبر أن الأكثرية السنية في المنطقة هي مصدر التهديد للوجود المسيحي، ويسعى بالتالي إلى تلاقٍ مع الطوائف والدول التي من شأنها تطويق النهوض السني المحتمل، وبين توجه آخر معاكس يعتبر أن منطق التعبئة والمقاومة والمواجهة، ولا سيما في الأشكال التي تدعمها إيران، هو مصدر الخطر الوجودي، ويسعى بالتالي إلى توجيه المسيحيين نحو الاندراج في الصف الداعي إلى التسوية والتنمية والاعتدال.
وهذا الاختلاف في التقييم قد تحوّل إلى انقسام في السياسة المسيحية اللبنانية إلى صفين، أحدهما متخالف مع السنية السياسية، والآخر مع الشيعية السياسية، بعد أن شهدت الطائفتان السنية والشيعية تشذيباً لقياداتها باتجاه الأحادية. ولكن بدلاً من الحديث عن موقف مسيحي مؤيد للسنة، الأصح الكلام عن موقف مرتاب من الشيعة. وكذلك، بدلاً من الإشارة إلى مسيحيين مؤيدين للشيعة، الأسلم تصنيفهم كمرتابين من السنة. (ويمكن لتجنب التعميم الاختزالي استبدال السنة هنا بالسنية السياسية والشيعة بالشيعية السياسية، إنما المقصود لا يتبدل).
وحتى مع الإقرار جدلاً بأن الريبة بشقيّها لها ما يبررها، فالحقيقة الجلية هي أن الزعامة المسيحية المرتابة من السنة قد اجتهدت لتحقيق الكابوس الذي تخشاه، وذلك من خلال رفض المقاربة الداعية إلى التركيز على النمو الاقتصادي والبنيوي، والتي اعتمدتها الزعامة السنية، واعتبار هذه المقاربة غطاءاً وحسب للفساد، واتهام القيادة السنية بالتواطو مع المجموعات السنية المتطرفة الهامشية. بل عمد إعلام هذه الزعامة المسيحية إلى الترويج للمجموعات المتطرفة من خلال تقديم المنابر لها للظهور والمبالغة في تقييم تأثيرها وحضورها غي المجتمع السني.
وقد يكون من الصعب على هذه الزعامة المسيحية المرتابة من السنة تفسير كيفية الانسجام بين المصلحة السيادية المسيحية والتحالف مع حزب الله، وهو أداة شمولية بيد إيران، ومع نظام دمشق المثابر على قمعه وتقتيله لمواطنيه. ولكن ما هو أكثر صعوبة من ذلك الدفاع عن موقف هذه الزعامة المسيحية المتسبب بحرمان لبنان من رئيس مسيحي لأكثر من عام ونصف. فالرئيس اللبناني، وفق ما ينص عليه الدستور، يجري انتخابه في المجلس النيابي من المرشحين الموارنة للمنصب. والرئيس اللبناني هو بالتالي رأس السلطة الوحيد المنتمي إلى الدين المسيحي في العالم العربي. فمع إدراك زعيم التوجه السياسي المسيحي المرتاب من السنة أنه لن يحصل على الأصوات النيابية الكفيلة بإيصاله إلى موقع الرئاسة، في مقابل قدرته مع حلفائه على تعطيل النصاب في المجلس النيابي كهيئة ناخبة للرئيس، عمد هذا الزعيم، بحجة الدفاع عن حقوق المسيحيين، إلى حرمان لبنان من رئيسه المسيحي. وفي منطقة تعلو فيها قيمة المسائل الرمرية، فإن سابقة جديدة قد تحققت: رأس الدولة في لبنان هو رئيس الحكومة المسلم منذ عام ونيّف.
ولا يزال لبنان يحتفظ بقدر من الحضور المسيحي ما يحيز تصنيفه كمجتمع تعددي. ولكن هذا الحضور مهدّد ليس بضغط التراجع السكاني بل ابتداءاً من جراء مصالح شخصية ضيّقة ترعم أنها سياسة لخدمة رؤية وجودية للمسيحية فيه.
فالقطعية الإسلامية، كما تظهر في بذاءة الدولة الإسلامية، أو كما تبطن خلف دماثة الجمهورية الإسلامية، هي الخطر الجلي الأول الذي يتعرض له الحضور المسيحي في المشرق. ولكن المسؤولية في استنزاف هذا الحضور لا تقتصر على هذه القطعية. وغالباً ما تجري الإشارة إلى العرامل الخارجية: منها تأثير الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ومنها الارتجال الذي أبدته الولايات المتحدة في غزو العراق والسعي إلى بناء دولة جديدة فيه، ثم التخلي عن الجهد في منتصف الطريق. ومنها مؤخراً مباركة الكنيسة الروسية الأرثوذكسية تدخل موسكو لصالح نظام دمشق.
غير أن استدعاء هذه العوامل الخارجية، وكذلك استقدام التاريخ العميق في مراحله الاستعمارية ومطامع القوى العظمى في ثروات المنطقة، غالباً ما يؤدي إلى ضعضعة صلب الموضوع، وهو فشل الدولة المشرقية، في سوريا ولبنان والأردن والعراق وفلسطين (كرؤية لدولة ثم كشبه دولة)، في تحقيق صيغة للهوية الوطنية يتمكن المواطن معها من الانتماء إلى الوطن كإنسان فرد لا كجزء من جماعة، وإن احتفظ بانتماءاته الرديفة الثقافية والدينية واللغوية في خلفية هويته الشخصية. ففي كل من سوريا والعراق، في ظل حكم حزب البعث العربي الاشتراكي، فُرِضت الهوية العروبية الأعلى كعقيدة للدولة لإبطال الوطنية القطرية وتجريم ما دونها من الهويات الفئوية. غير أن هذا للجوء إلى الأعلى المفترض كان تستيراً على توظيف للأقليات لقمع الأكثريات.
ونتيجة لذلك لم يتح للوطنية النجاح، فيما الفئويات ازدادت صلابة، ولم يبقَ سوى الطرح الديني للدعوة إلى الوحدة. غير أن هذا الطرح يُخرُج صراحة من لا يقع داخل الدائرة الدينية المعتمدة، فيما يعجز عن تحقيق الوحدة التي يدعو إليها إذ رؤيته قائمة على افتراضات معيارية للدين والتاريخ لا تتطابق بل تتنافر مع الواقع المعاش والتجرية الدينية المتحصلة . فالطرح الديني غير مؤهل كبديل عن الطرح الوطني، وقد انحدر لتوّه من الديني الجامع إلى الديني المذهبي، فاتحاً الباب العريض أمام التصورات القطعية. وضمان الاستمرارية الصحية للوطن ككل يتطلب خطاباً وطنياً يقرّ بالتعدديات الثقافية والدينية والاجتماعية في السياق الوطني الواحد.وهذا مطلب لم يتحقق فعلياً في أية من دول المشرق العربي.
فالتهديد الذي يتعرض له الحضور المسيحي في المشرق يأتي من أعباء التاريخ، ومن ممارسات أنظمة الاستبداد الهادفة إلى تحقيق مصالح الحكام، وكذلك من عدم استكمال استيعاب الحداثة في الفكر الإسلامي وفي المجتمعات المشرقية، المسلمة منها وغير المسلمة. وهذا التهديد يزداد حدة مع التباعد الذي تغذّيه الطائفية، وإن بدا أن اللجوء إلى الطوائف هو الملاذ الأخير. وفي لبنان، يضاف إلى هذه العوامل الطابع الشعبوي والضيق الأفق لبعض الزعامات. فمع تآمر هذه العوامل، المتعمدة منها وغير المتعمدة، لا يبدو ممكناً استشفاف نهاية نزيف المسيحية في المشرق. والسبيل إلى إيقاف النزيف وإعادة بعض المفقود قد يتطلب اللجوء إلى ما لم يتم تطبيقه بعد في المنطقة، أي اعتماد ممارسة سياسية قائمة على حيادية الدولة إزاء الدين، والتمثيل السياسي الصادق على أساس المساواة بين الأفراد والتي لا تغبن الأقلية، والانفتاح إزاء الآخر المختلف والقبول به على أساس الحرية والكرامة، أي وفق المصطلحات التي يراد لها أن تكون سلبية، العلمانية والديمقراطية والليبرالية، وذلك بغية إعادة المساحة المشتركة للهوية الوطنية. وفي عموم المشرق، فيما تبدو الطروحات الفئوية والدينية هي الغالبة، ثمة إرادة سياسية ضمن المجتمع تحبّذ مقاربة جامعة على هذه الأسس، وإن لم تجد بعد الزعامة الشجاعة القادرة على المجاهرة بها.
حسن منيمنة هو مساهم في تحرير منتدى فكرة.