يبدو لي أن مصطلح التمامية (integrisme)، من (integral/تام، كامل، متكامل)هوأكثر دقة وتطابقاً من مصطلحي السلفية والأصولية، مع مضمون المنهج الذي يقوم على تجميد منظومة فكرية محددة من موروث الماضي(دينية أو غير دينية) بكامل مفاهيمها وأدواتها، ويعتبر هذه المنظومة كاملة مكمَّلة، صالحة لكل زمان ومكان، ويجعلها فوق أي نقد بصرف النظر عن تغيرات الواقع.
بينما الأصول الفكرية (دينية أو غير دينية)، هي مخزون فكري وثقافي للإنسانية جمعاء، يمكن العودة إلى بعض مفاهيمه وأدواته في الحاضر و في المستقبل، ويمكن في لحظة تاريخية أن يكون أحد هذه المفاهيم الموروثة ذات مضمون إصلاحي وثوري، والعودة إليه في هذه الحال مشروعة. ومشروعية استخدام بعض المفاهيم من ميرةِ الفكر المنتج في الزمن الماضي لا تغلق الأبواب والنوافذ أمام فكر الحاضر، ولذلك لا يمكن قطع العلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل. وهذا يعني أنه لا يمكننا إلقاء المخزون الفكري الإنساني في البحر.
لكن من جانب آخر، إن الواقع المتغير دائماً لا يمكن أن يكون ملزماً بمنظومة فكرية كاملة، فهو يرفضها موضوعياً على أساس أنها وحدة متكاملة، فشرط التكامل هنا، يجعلها متناقضة مع الواقع. وهذا نراه في شعارات بعض الأحزاب والفصائل السياسية التمامية وموضوعاتها(الإسلام هو الحل، أو إذا قلنا لا حل إلا بالماركسية/اللينينية، أو لاحل إلا بالقومية العربية، أو أن نقول دستورنا هو القرآن أو الإنجيل). فشرط الحل لدى التمامية، العودة إلى رزمة فكرية متكاملة دون زيادة أو نقصان وليس إلى بعض الأصول الفكرية. فحل قضايا المجتمع هنا ايديولوجي وليس سياسياً بينما هذا الحل يحتاج إلى برنامج سياسي له علاقة بواقع المجتمع وظروفه وبنيته السياسية والاقتصادية والديموغرافية والدينية والإثنية، ولم يكن البرنامج السياسي تقليداً أصيلاً ومتواتراً في حياة الأحزاب العقائدية السياسية العربية، بل كانت المنظومة الفكرية المعتمدة لدى الحزب(بتمام بدرها الساطع) هي البرنامج السياسي. بهذا المعنى يمكننا التفريق بين الأصولية والتمامية. وفق هذه الرؤية يمكننا النظر إلى الفكر الديني، وإلى الفكر غير الديني. فأفكار (سقراط وأفلاطون وأرسطو وابن رشد وابن ميمون وابن خلدون وديكارت وسبينوزا وكانتْ وهيجل وفيورباخ وآدم سميث وريكاردو وماركس ولينين وماو تس تونغ وآخرين كثر..). هي ملك للإنسانية، من المشروع العودة إلى بعضها للا ستفادة منها في حل قضايانا السياسية والاجتماعية. وهذا المنطق يقودنا إلى أن التمامية ليست دينية فقط، وأنها لا تقتصر على الإسلام، فإلى جانب التمامية الإسلامية هناك تماميات ومنها التمامية المسيحية والتمامية القومية والتمامية الماركسية وغيرها…
من أهم تناقضات التمامية مع الواقع، أنها ترفض الجدل بين الموضوعي والذاتي، وإمكانية تحول الموضوعي إلى ذاتي وبالعكس. وكذلك ترفض الجدل بين التحديث والحداثة، وتحاول القطع بينهما وكأنهما من زمنين تاريخيين مختلفين، وبمعنى آخر تقطع العلاقة بين المكتشفات العلمية والصناعية والمعلوماتية ومنظومة(الحرية والديموقراطية والعلمانية والمجتمع المدني والتعددية ومساواة المرأة بالرجل…إلخ)، و(تسخِّر) هذه المكتشفات باعتبارها غنيمة وملكا لمنظومة فكرية وثقافية وحقوقية وقانونية ماضوية، باعتبار هذه المنظومة مقدسة لايمكن مسها ومحرم نقدها. هذا هو التناقض الكبير في التمامية، نفي تغير الفكر رغم التغير الموضوعي للواقع، والقبول بالتحديث وعدم القبول بالحداثة. هذا هو الاستبداد الإيديولوجي(التكفير والتحريف). ولكن ذروة الاستبداد الاجتماعي حينما ينشأ التواطؤ والتحالف بين التمامية و (الدولة)، وقد ساد هذا التحالف تقريباً كل الحقب التاريخية السابقة للدولة الرأسمالية الليبرالية الحديثة، باستثناء فترات قصيرة كانت تحدث هنا وهناك.
مثل هذا التواطؤ بين تمامية المستوى الفكري في البنية الاجتماعية و(الدولة) شهدناه في القرن الماضي في الاتحاد السوفييتي السابق ودول أوربا الشرقية، وفي ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، وهو لا يزال مستمراً في بعض الدول الشمولية مثل كوبا وكوريا الديموقراطية، وكذلك لا يزال موجوداً بنسب متفاوتة في معظم بلدان العالمين العربي والإسلامي. وما يجري الآن في إيران ليس إلا انتفاضة شعبية على التواطؤ والتحالف القائم بين التمامية الإيرانية(ولاية الفقيه المطلقة) والدولة التي يسيطر عليها الحرس الثوري.. وإلا كيف يمكننا أن نفسر تكفير (نصر حامد أبو زيد) وتطليقه من زوجته دون تواطؤ ما بين السلطة المصرية والتيار التمامي الذي مثله في دعوة التكفير(عبد الصبور شاهين)، وكذلك كيف يمكننا أن نفسر إنزال مشروع جديد للأحوال الشخصية في سورية هو أكثر تخلفاً ورجعية من الذي كان سائداً أيام الدولة العثمانية.
لكن من أخطر الأمور في نقد التمامية، اللجوء إلى التعميم، واعتبار الإسلام إسلاماً واحداً، في الوقت الذي هو على أرض الواقع إسلامات. ليست كلها تمامية ومتطرفة معادية للفلسفة والعلم والحداثة. فهنالك إسلام وسطي شعبي عرفناه وعايشناه منذ قرون في قرانا وبلداننا ومدننا وأحيائنا، و في التاريخ كان هنالك إسلام رُشْدي صديق للفلسفة والعلم والبرهان، ويمكننا العودة إلى رجالات إسلاميين كبار مثل أبي العلاء المعري ومحي الدين بن عربي وآخرين من الذين كانوا يساوون بين الأديان السماوية. وإننا نشهد بين ظهرانينا الآن إرهاصات إسلام تقدمي عقلاني، يدعو للتعايش والتسامح مع الآخرعبر دولة حديثة قائمة على المواطنة. وهنالك العشرات وربما المئات من المفكرين الإسلاميين التقدميين المنهمكين في ورشة نقد الفكر الديني وإصلاحه. وكذلك نشهد إسلاماً سياسياً ليبرالياً على رأس الحكم في تركية الآن.
وفي السياق ذاته لا يمكننا الكلام على مسيحية واحدة فهنالك مسيحيات، فهنالك أيضاً مسيحية تمامية متزمتة، تؤمن بالصراع السرمدي والأزلي مع الآخر الغريب الكافر(الغوييم) بانتظار الانتصار عليه في معركة (هرمجدون)، وهذه المسيحية كانت الحاضنة للرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن. وفي المقابل هنالك مسيحية معتدلة تدعو للسلام والتعايش والانفتاح على الآخرين، وقد شهدنا في أميركا اللاتينية مسيحية لاهوت التحرير التي قامت بنقد موقف الكنيسة التاريخي حينما انحازت تاريخياً للمضطهٍدين ضد المضطهَدين والمظلومين والفقراء. وأيضاً في المذهب الشيعي هنالك شيعية متطرفة(ولاية الفقيه المطلقة) و شيعية عقلانية تعتبر الولاية المطلقة للشعب وهذا ما كان يؤمن به الشيخ موسى الصدر والشيخ محمد مهدي شمس الدين في لبنان، وما نراه في ايران اليوم من صراع بين المحافظين والإصلاحيين يعطي مثالاً حياً لهذه اللتعددية الشيعية.
وإن العالم العربي الآن لا يعاني فقط من التماميين الإسلامين، وإنما يعاني من التماميين القوميين الذين مازالوا يقدسون المشروع القومي العربي المنتج في النصف الأول من القرن الماضي، ويقدسون تجاربه العملية والتاريخية التي فشلت فشلاً ذريعاً، ويعلقون هذا الفشل فقط على مشجب الاستعمار والأمبريالية والصهيونية، ولا تزال مشاجب العوامل الداخلية والذاتية فارغة تماماً إلى الآن.
وكذلك يعاني عالمنا العربي من التماميين(الماركسيين/اللينينيين) الذين لم ينبسوا حتى الآن بكلمة واحدة في نقد التجربة السوفياتية التي انهارت في أوائل تسعينات القرن الماضي، و يعلقون فشلها على مشجب الولايات المتحدة والصهيونية العالمية واليهود السوفييت وعملاء الغرب، وكذلك الحال بقيت مشاجب العوامل الداخلية والذاتية نظيفة، ويبدو أنهم تنكروا تماماً لمقولة: الذاتي يتحول إلى موضوعي. كان يقول الياس مرقص في هذا السياق عن الخرافات ،أنها مع الزمن يمكن أن تصبح أكبر من جبال هيمالايا. والمفارقة، أن هؤلاء قد دفعتهم تماميتهم، إلى تأييد التماميات الإسلامية المتطرفة(تحت يافطة العداء لأميركا)، وقد تحول في إعلامهم على سبيل المثال مليون متظاهر إيراني إلى عملاء لأميركا!!……
zahran39@gmail.com
دمشق في 5/1/2010
هل من فرق بين الأصولية والتمامية؟
السيد الاستاد :riskability المحترم .
هل من الممكن ان تتطرق من جديد بشرح واسع عن المثلث والمربع …(محمد الخوارزمي) ونظرية بيتاغورس .
مقدما شكرا لكم
هل من فرق بين الأصولية والتمامية؟ صاحب التوفيق الكاتب في الموضوع اعلاه باستخدامه الموفق للنقد (Criticism) فالنقد والمنهج العلمي(scientific method) والسببيه (Reason) والمعرفة (knowledge) يشكلون الاسس لأي (اصلاح , نهضة , عصرنة) لأي (ثقافة , حضارة , خطاب) في اي زمان ومكان , مع التنويه الى ان الخطاب العربي المعاصر يحفل بادعائية تمثله لها او مزيج منها كغلاف وقشرة لموقعة ذاته على حساب الآخر المحلي . وجانب التوفيق الكاتب في (التسمية) فاذا استبدلنا “التمامية” ب (الشمولية) و”integrisme” ب (totalitarianism) واذكر ان المكتبة العربية ترجمت مؤلف (حنه آرندت) – المهم والمرجعي- والذي يحمل نفس العنوان ويحلل الظاهرة بشكل متميز ب (التوتليتارية)… قراءة المزيد ..
هل من فرق بين الأصولية والتمامية؟
ومن قال لك يا لوذعي إن التعبير (integral) يعني: تام، أو كامل؟؟؟؟
إذا كان هذا مدى فهم العرب للمصطلحات فهذا أكبر دليل على الانحطاط.
بعد الجملة الأولى لم استمر في القراءة، فلا حاجة إلى كل ما قيل بعد هذا الخطأ الجوهري في رأس المقالة.
وفي مثل ذلك قيل في المثل الشعبي:
من أول غزاتو كسر عصاتو.