النبطية ـ بادية فحص
قضية إغلاق محلات بيع الكحول في النبطية تشبه أزمة الشرق الأوسط1 هكذا يصفها سكان المدينة، لأنهم أيقنوا بعد كثير من الجدل والأخذ والرد أن لا أمل في حلها ولو بعد حين، أو لا حل وسطاً يرضي طرفي النزاع فيها.
تاريخيا…حملت النبطية اسم “مدينة الحسين”،منذ بنى فيها آل صادق العائلة الدينية القادمة من بلدة “الخيام”، أول حسينية في بلاد الشام عام 1909. لكن التسمية لم تغير كثيرا في عادات المدينة المتوارثة، ومنها عادة تعاطي الخمور.
فمجتمع النبطية “حسيني” في ظاهره، وله الفضل في الحفاظ على الشعائر الحسينية ونقلها من جيل إلى جيل، وفق كلاسيكيات خاصة تتفرد بها المدينة عن غيرها من المناطق الشيعية الأخرى، التي يشارك فيها الملتزم دينيا وغير الملتزم، التقي والسكير على حد سواء، لكنه متحرر في باطنه، خاصة وأن مجتمع المدينة فيه اختلاط شيعي- مسيحي، إضافة إلى وجود شريحة كبيرة من المغتربين الذين اعتادوا على تناول الكحول في مهاجرهم وعادوا بها لاحقا إلى مساكنهم ، لذلك بقيت النبطية محتفظة ببعض الخصوصيات والعادات المنافية لمظهرها الديني، كما بقيت المرجعيات الدينية فيها متحفظة تجاه هذا الموضوع، فلم تهادن ولم تتهاون، إنما نهت بكثير من الصبر والحكمة، انطلاقا من احترام القناعات الشخصية والحريات الفردية.
بالعودة إلى قرار منع بيع الكحول، الذي هزّ مجتمع المدينة حين صدوره منذ شهور، وما زالت ارتداداته مستمرة إلى الآن، والصدى الثقيل الذي تركه في نفوس سكانها، ما زال المتضررون والمعترضون على القرار يحاولون بين الحين والآخر، البحث عن ثغرة ولو بسيطة ينفذون منها للإنقلاب عليه. لكنهم لم يحققوا إلى الآن أي تغيير يذكر، سوى بعض الشائعات المتفرقة عن عودة محلات الخمور إلى البيع، التي تنتشر من وقت إلى آخر، ثم لا تلبث أن تخبو تحت سطوة القرار الحازم والحاكم.
وتطبيقا للقرار الصادر عن جهة سياسية دينية رغم نفيها ذلك، والذي تبنته بلدية النبطية باسم الأهالي وأيدته الطبقة الدينية المتزمتة في المدينة، التزمت كل مقاهي ومطاعم المدينة بالإمتناع عن تقديم الكحول على موائدها، حتى في الحفلات والمناسبات الخاصة والأعراس، وتحولت مدينة النبطية بقعة “نظيفة” من الكحول. غير أن بعض قرى الجوار تفلتت مما التزمت به المدينة. فالخمور عادت إلى بلدة “كفررمان” المجاورة وبلدة “أنصار” البعيدة نسبيا، ولم تختف أساسا من بلدة بفروة” المسيحية القريبة، فنقل تجار الكحول في المدينة محالهم إليها، وصارت هذه القرى مقصدا لطالبي الخمور” .
تشهد شوارعها في ساعات ما بعد الدوام زحمة على الخطين، في حركة لا تهدأ جيئة وذهابا.
الجهة التي أصدرت قرار المنع ما زالت متمسكة به، والرافضون له ما زالوا متمسكين برفضهم، بصيغة جديدة “غالب غير منتصر ومغلوب غير مهزوم”! وبما أنه من “سابع المستحيلات” أن يجتمع ضدان مختلفان أشد الإختلاف دينيا وثقافيا واجتماعيا على رأي واحد، فوق بقعة أرض صغيرة، لا تحتمل تناقضات كبيرة بهذا الحجم، لذلك فإن المواجهة شر لا بد منه، لكن من يواجه من؟ الأهالي اعترضوا قليلا ثم أذعنوا، بائعو الكحول رضخوا منذ البداية، الجمعيات والأندية أرغت وأزبدت ثم تناست وانصرفت إلى أمور أخرى…ولم يبق في الميدان غير “حديدان” كما يقول المثل الشعبي. و”حديدان” في قضية كحول النبطية هو مجموعة من هامشيي المدينة: سائقي تاكسي وبائعي الفول والترمس، وعمال مهن متواضعة وعاطلين عن العمل.
تاريخيا أيضا.. اشتهرت التلة المعروفة باسم تلة “الصفر تلاتة” في النبطية، التي يرتفع فوقها الصرح الثقافي الأعرق في المدينة، “نادي الشقيف” الشاهد على حقبة مضيئة في تاريخها الثقافي المتحول لاحقا، بأنها تتحول ما بعد منتصف الليل إلى ملتقى للمهمشين من فقراء المدينة، الذين تضنيهم نهارا عملية البحث عن أرزاق لا تأتي، فيحملون فقرهم في جيوبهم وخيباتهم في قلوبهم وزجاجات الخمر في أيديهم، يفترشون قمة التلة المطلة على المدينة، يشربون أنخاب فاقتهم، يغنون ،يرقصون، ويتبادلون النكات والضحكات، في إزعاج لطيف لسكان التلة وجوارها..
هؤلاء قرروا، بعيدا عن السياسة والدين والمجتمع والأعراف والشرائع والقوانين، مواجهة قرار حظر الكحول في النبطية، وظلوا يترددون على التلة كأن شيئا لم يحصل. أو كأن قرار إلغاء مظاهر الكحول في النبطية لا يعنيهم، كما لا تعنيهم مظاهر أخرى فيها، مقتطعين لأنفسهم بضعة أمتار متحررة من عالم مقيد، وفق طقوس خاصة، يجتمع فيها “الشرب” مع النقد الساخر والسخرية المرة، يتبادلون أحاديث وآراء كثيرها عن ضغوط الحياة ومصاعبها، وقليلها سياسي..
كانت السهرة البارحة ما تزال في أولها، كذلك مفعول الخمرة، وحين وصلت التلة بكثير من المشقة والحذر. كان صوت شجي لأحدهم، مرددا بعض المواويل البلدية والعتابا، يخترق العتمة ويرشد القاصد إلى المكان، ترحيب وضحك لسبب وغير سبب ونظرات مريبة وأسئلة لا تنتهي، الجميع رفضوا التصوير كما تمنوا عدم ذكر أسمائهم، ثم بدأوا بالكلام..
“ع” يرى أن في النبطية عالمان، عالم متدين متزمت، وعالم متفلت متحرر، ويضيف: أما نحن فبإمكانك تسميتنا “العالم الثالث”، يتبعها بضحكة مجلجلة.
“ح” مستعد لإراقة الدماء في حال سولت لأحدهم نفسه، كان من يكون، أن يمنع عليه المجيء إلى التلة.
“ك” يسأل عن الجهة المهتمة بـ”سَكَرجيّة” النبطية. وحين يصله الجواب، ينتفض ويقف على طوله، زجاجة الخمر بيد وعلامة النصر ترتسم على اليد الأخرى، يفعل الجميع ما فعله، ويهتفون معا “كلنا مقاومة” و”تحيا سوريا”، ويدخلون في نوبة ضحك وسخرية طويلة. ثم يؤكد “ق” أن حزب الله يقف خلف قرار منع بيع الخمور في النبطية وإن ادَّعوا عكس ذلك، كما وقفت خلفه سابقا “حركة أمل”. لكننا، يضيف “سنتمرد اليوم كما تمردنا من قبل”. هنا يتوقف الجميع عن الكلام المباح، ويرتفع الصوت الشجي مرة أخرى مخترقا عتمة التلة يغني “هل رأى الحزب سكارى.. مثلنا”! وتدوي الضحكات مجددا، ترتفع الأيدي حاملة الزجاجات و”كاسك يا وطن”، بينما يضرب “م” كفا بكف ويقول “الله يسامح بلديتنا، كانت زجاجة الخمر تكلفنا مبلغا معقولا من المال، وصرنا الآن ندفع المبلغ “دوبل” ، لأننا مضطرون إلى شرائها من خارج المدينة، يعني صرنا ندفع حق خمر وبنزين معا” ويوافقه الحاضرون رأيه.
تنتهي السهرة عادة في أولى ساعات الصباح وغالبا ما يبقى رواد التلة نائمين في العراء، توقظهم خيوط شمس الظهيرة، “يكرجون” صوب المدينة بحثا عن يوم آخر وقرش أخر، وينتهي اليوم ولا تأتي القروش كما يتندرون.
* كاتبة لبنانية
المستقبل