كتبَ الصحافي اللبناني قاسم قصير في مجلة “الأمان” (12-8-2011) مقالا تناول فيه ما وصفه بالـ”أصوات الشيعية المستقلة” الداعية الى دعم الشعب السوري، وأعلن عن سعي هذه الاصوات الى تشكيل إطار جديد لها، مستقل عن “أمل” و”حزب الله”، واسم هذا الاطار هو “التجمع المدني اللبناني”. ويتابع قصير، واصفا الافكار الثلاث التي تحرك عقول افراد هذا التجمع، وقوامها: أولا انه “لا يمكن ان يكون هناك موقفان من الثورات العربية”، دعم لتونس ومصر وليبيا والبحرين واليمن، والوقوف “مكتوفي الأيدي” امام مطالبة الشعب السوري بإقامة الديموقراطية. ثانيا، ان المطلوب هو “عدم ربط الموقف الشيعي بالنظام السوري، رغم دعم هذا الاخير للمقاومة”. ثالثا، يجب عدم التخوّف من حصول “أحداث طائفية أو مذهبية”…
هذه مبادرة محمودة. فالثورة السورية بالذات، أكثر من أخواتها العربيات الاخرى، تهزّ قواعد التفكير في منطقتنا، لدى جماعة المقاومة والممانعة، كما وسط خصومهم. لكننا الآن بصدد الجماعة الاولى؛ بصدد مناقشة بوادر “مراجعة فكرية” يقوم بها مثقفون وكتاب “شيعة”، والأرجح ان المقصود هنا مثقفون وكتاب كانوا على هذه الدرجة او تلك من التأييد للـ”مقاومة”. والسؤال الذي تطرحه مبادرتهم هذه هو عن مدى عمق مراجعتهم هذه للأفكار التي تأسست عليها المقاومة وجاء الحدث السوري ليهزّها، ليصدمها.
صحيح ان الافكار الثلاث الأولية المطروحة تنطوي على إرادة في المراجعة، أقله في ما يخص الكيل بمكيالين في ما يتعلق بالثورات العربية، والاقرار بأن الشعب السوري إنما يطالب بالديموقراطية، والدعوة الى معاملة الخطر الطائفي كتهويل يغذّيه النظام السوري بدأب، من دون إنكار استجابة بعض المعارضة لصداه.
ولكن هذه الأفكار هي مثل التحليق السريع فوق كومة من الافكار الاخرى، يبثّها سياسيو المقاومة ومثقفوها واعلامها. وهنا عينة مما يمكن استخراجه من هذه الكومة، والمطلوب معالجته من قبل هؤلاء المثقفين المبادرين.
حول مفهوم العدالة: المقاومون، بعمومهم، يرفضون العدالة التي يطالب بها الشعب السوري، كما يرفضون العدالة التي يطالب بها، على الاقل، قسم من اللبنانيين، ربما نصفهم، في ما يخص جرائم ارهابية ارتكبت بين الاعوام 2005 و2007 في لبنان. في رفضهم الأخير هذا، اللبناني، يحاججون باستدعاء جرائم اسرائيل: “كيف تطالبون هنا بالعدالة ولا تطالبون بالاقتصاص من اسرائيل على جرائمها؟”.
طبعا لا أحد يمتنع عن المطالبة بهكذا اقتصاص، ولكن هل نرفض عدالة نسبية باسم تعلقنا بعدالة مطلقة، يعلم الجميع، ومعهم “المقاومون”، انها لا تتحقق الا في السماء؟ هذا اذا افترضنا طبعا ان رافضي العدالة اللبنانية المحلية عاملون بجدية على استرداد كل الحقوق المسلوبة، لا توظيفها…
في الموضوع السوري، الموقف نفسه: يرفضون عدالة نسبية في سوريا بذريعة الظلم الفادح الذي لحق بالثورة البحرينية. واحيانا يضيفون اسرائيل وحقوق الفلسطينيين المسلوبة (هل يكررون الآن هذه الحجة بعد تعرض مخيم الرمل الفلسطيني للقصف والتشريد؟ وبعدما وجه جيش النظام نداءات الى اللاجئين باخلاء مخيمهم واعتبار كل من يبقى فيه “مقاوما”؟).
يعمل السياسيون “المقاومون” على تأمين “حياد” الحكومة اللبنانية تجاه الحدث السوري؛ وحجتهم “عدم التدخل في الشؤون السورية”. وهم يعلمون أكثر من غيرهم ان سياسة النظام السوري “البرانية” والتي أدامت حياته كل هذه المدة هي تلك “الاذرع”، أو “الاوراق” التي خلقها في محيطه الاقليمي، وحولها الى نقطة ارتكازه الاستراتيجية، وقلعته الحصينة تجاه شعبه.
“الذراع” اللبنانية هي الأقوى، أو الأضعف، من بين الأذرع الاقليمة الاخرى، أقوى من الذراع الفلسطيني الذي يفترض فيه الضعف، نتيجة التشتت والانقسام والاحتلال. هي الذراع التي تجاوزت الانسحاب العسكري عام 2005 وعادت وامتدت عبر قنوات أمنية سياسية شبه معلنة، يفهمها من الِف الكودْ السياسي اللبناني. تدخّل سوري في أدق تفاصيل الحياة اللبنانية، وبديناميكية عدوانية، مقابل العمل الحثيث على إنكار ما يحصل في سوريا؛ ولا نقول هنا “عدم تدخل لبناني”… فالكل يدرك ان لبنان دولة لا تطلب غير “الستر”، حتى مع القوة الجبارة لـ”حزب الله”، أو ربما بسبب هذه القوة احيانا.
الدعوة الى “الحوار”، النظام السوري يلحّ على الحوار، وكذلك “حزب الله”. والاثنان يعلمان بأن التحاور مع من وضع مسدسه على الطاولة، ليس بحوار، انما هو دعوة الى ترجمة القوة العسكرية او الامنية التي هي على الارض الى موقف سياسي مذعن. تعالوا الى الحوار، يقول “حزب الله”، ولكن بشرط ان لا تفتحوا سيرة هذا المسدس الذي على الطاولة، أي تعالوا لنصوغ السطوة النهائية لـ”حزب الله” على لبنان من دون الاشارة الى ان هذه السطوة اساسها السلاح.
هل يفعل النظام السوري غير ذلك؟ انه يعلنها بوضوح، وبلا أية اضافات تجميلية جراحية. يضع الشعب السوري أمام معضلة استثنائية: إما ترفضون الحوار ونستمر بالقتل، أو تقبلون الحوار ونستمر، أيضا، بالقتل. الاختلاف هو في درجات القوة بين حزب الله والنظام السوري، لكن النتيجة هي التشابه المطبق بين منطق النظام ومنطق الحزب.
انها معركة ضد “الامبريالية والصهيونية”، “مؤامرة” حاكها الاثنان. وهذه الفكرة هي الأكثر رواجا في الاعلام السوري الرسمي والاعلام “المقاوم” على حد سواء. وهي تعاني من عيبين: الاول انها سينيكية محضة، لا تخفي ابدا ما يدحضها. فالامبريالية الاميركية الغربية لم تصل يوما الى العجز الذي نعرفه عنها اليوم. والنظام السوري واصدقاؤه المقاومون يسخرون علنا من هذا العجز من دون ان يرف لهم جفن. يقهقهون لعلمهم ان ازاحتهم سوف تضر الامبريالية. ولا يسلكون دربا مغايرة مع الصهيونية، وتصريح رامي مخلوف ما زال ماثلا في ذاكرة الجميع….
وهم فوق ذلك، يستلذون بالموقف الصيني والروسي الرافض لإدانة جرائم النظام، ويحسبونه دعما للقضية القومية والممانعة الخ. من دون ان يبذلوا جهدا في التقاط ما يتراءى من تلك المواقف من مصالح لهذه الدول (هم دائما لا يحبون التكلم الا عن “مصلحة” الامبريالية والصهيونية، لا عن “مصالح” الحلفاء والاصدقاء)، ولا ما يقف خلفها من احتقار رسمي لمسألة حقوق الانسان. صحيح ان الامبريالية تبيع وتشتري في هذه المسألة، ولكن حسابها يختل عندما تبلغ انتهاكات حقوق الانسان حدود الفضيحة…. حقوق الانسان هي ايديولوجيتهم الرسمية. اما الصين وروسيا…
العيب الثاني في هذه الفكرة، العتيقة، انها تحجب تبدلات المعطيات الدولية. ليس فقط الضعف الذي أصاب المركز (الامبريالية) واستعداد الصين نفسها لأن تكون الامبريالية القادمة، بل ايضا في اسرائيل نفسها؛ وقد رفع متظاهروها، أو المنتفضون ضد نظامها كما يعلن المشتركون فيها، شعارات منسوخة من الثورات العربية. شعاراتها “إرحل” (بالعربية) و”الشعب يريد العدالة الاجتماعية”، لا تخفي نقدها القاسي للدولة الاسرائيلية التي تنفق على الاحتلال وعلى المستوطنات والمتدينين ما يجب ان تنفقه على بناء المنازل لأبناء الطبقة الوسطى، كما يقول المتظاهرون الاسرائيليون.
أعجب ما صدر عن أدبيات “المقاومة” في هذه الايام السورية، هو مقارنة بين حرب تموز 2006 وبين الثورة الشعبية الثورية: بمعنى ان الذي يحصل الآن في سوريا هو اعتداء شرس على المقاومة. طبعا هنا المعتدون هم المتظاهرون و”المقاومة” هي آلة القتل التي تفتك بهم… وهي واقعة يشبّهها “مقاومونا” بالاعتداء الذي شنته اسرائيل على لبنان في حربها الثالثة ضده. حسنا، ماذا لو تغلّب النظام على شعبه الذي ينوب عن الصهيونية والامبريالية؟ هل يكون انتصاره هذا شبيها بـ”انتصار” حزب الله، “التاريخي والاستراتيجي والالهي” عام 2006؟ وهل يكون الإطباق على الشعب السوري في هذه الحالة شبيها بإطباق “حزب الله” على الشعب اللبناني، بكافة طوائفه الحاضنة منها والمعادية؟ أم ماذا…؟
كاتبة لبنانية
نوافذ “المستقبل”