يقول المثل الشعبى :”نصف العمى ولا العمى كله. وبالفعل ينطبق هذا المثل على حاسة النظر ، فالأعور ملك فى وسط العميان ، ولكن عندما نتطلع إلى الحقيقة فلا يصلح إلا الحقيقة الكاملة. وأنا أعلم أن الحقيقة المجردة شئ صعب المنال ولكن فى الحياة اليومية والسياسية توجد الحقيقة وهى وصف الحدث كما حدث بدون زيادة ولا نقصان ، وكأنك أمام القاضى الأعظم يوم القيامة ، ولذلك تجد أنه فى المحاكم يقسم الشاهد بقوله: أشهد أن أقول “الحقيقة ، كل الحقيقة ، ولا شئ غير الحقيقة”. وقد يقول قائل أن الحقيقة نسبية فى بعض الأحيان ، وقد ينطبق هذا على الرأى ولكنه لا ينطبق على الحدث ولا على الخبر. فقد تقول أن غروب الشمس أجمل من شروقها ، ويبقى هذا مجرد رأى ، ولكنك لا تستطيع أن تقول أن الشمس أشرقت من الغرب بالأمس فهذا ليس برأى ولكنه إنكار لحقيقة واقعة على كوكب الأرض .
ولذلك أفضل أن أتابع الأخبار الرياضية أكثر من أى أخبار أخرى ، ويفعل هذا الملايين فى العالم كله، حيث يعرفون تماما أن النتائج الرياضية لا يمكن تحريفها. فإذا كانت نتيجة مباراة الأهلى والزمالك الماضية هى فوز الأهلى على الزمالك بهدف للاشئ ، فلا يمكن أن تقول بغير ذلك. قد تقول رأيك بأن الزمالك كان يلعب الأفضل ولكن الأهلى إستغل الفرص التى لاحت له وفاز بالمباراة. ويظل هذا مجرد رأى. ولكن الحقيقة التى لا يمكن نكرانها هوأن الأهلى قد فاز على الزمالك.
….
أما فى مجال السياسة وأخبارها فالتلاعب ليس له حدود . فمثلا أقرأ عنوان جريدة قومجية يقول:
“مقتل وجرح مائة وخمسون عراقيا فى بغداد” ، وأعتقد أن هذا يمثل جزءاً من الحقيقة. أولا لأن العنوان قد خلط بين عدد القتلى والجرحى ، فقد يكون عدد القتلى عشرة والجرحى مائة وأربعون ولكن خلطهم مع بعض يعطى الإنطباع أن عدد القتلى ربما يكون كبيرا وهذا يعتبر ليس فقط جزء من الحقيقة ولكنه يدخل تحت باب التدليس. والجزء الآخر فى العنوان الذى يقع تحت باب خداع القارئ هو أن العنوان لم يقل لنا أن هذا حدث نتيجة تفجير إرهابى لتنظيم القاعدة مثلا ، ويترك لك الإعتقاد أن الحادث ربما كان بسبب غارة لقوات التحالف على قرية عراقية آمنة. وأحيانا أيضا يخفى العنوان لغرض فى نفس يعقوب أن العديد من الضحايا كانوا من الأطفال والنساء والمدنيين فى سوق الخضار.
وبإستثناء قلة قليلة من أجهزة الإعلام مثل هيئة الإذاعة البريطانية (بى بى سى) فإن أسلوب “نصف الحقيقة” منتشر فى العالم كله بين الساسة وأجهزة الإعلام والصحفيين و كل حسب هواه. فمعارضو الرئيس الأمريكى السابق كلينتون من المحافظين الجدد يصفونه بأنه رجل “بتاع نسوان” ، ويغفلون أنه كان من أكثر الرؤساء ذكاء وثقافة فى تاريخ أمريكا ويغفلون إنجازاته. وبالمثل عندما يصفه مؤيدوه من الحزب الديموقراطى يذكرون أنه من الرؤساء القلائل الذين تركوا الرئاسة وكان هناك فائض كبيرفى الميزانية الأمريكية ، وبالطبع يغفلون أخطاءه عن عمد .
وقد نقبل هذا من رجال السياسة ورجال الصحافة نظرا لإختلاف أهوائهم، ولكننا لا يصح أن نقبله من رجال الفكر ورجال الرأى والذين يجب أن يتخذوا من الموضوعية شعارا لهم مهما كانت صعبة وقاسية.
….
وعالمنا المعاصر وخاصة فى بلادنا العربية الجميلة ينتشر الكذب مثل الهواء الملوث واقل من المياه النقية. أما الكذب الأبيض فحدث ولا حرج فهو مثل سلامو عليكو. وبالمثل نصف الحقيقة. فعندما تبحث عن عروسة وتقول لك الخاطبة =: “بسم الله ما شاء الله سعاد أخلاقها هايلة”، بدون أن تذكر أى شئ عن جمالها ، فإنفذ بجلدك لأنك داخل على مقلب كبير، وعروستك “سعاد” حيكون فيها شبه من الآنسة “حنفى”!!
واكثر ناس فى العالم يحترفون قول نصف الحقيقة هم بلا جدال سماسرة العقارات. جرب أن تشترى عقارا ولسوف تكتشف على الفور المعنى الحرفى لكلمة نصف الحقيقة . لا فرق فى هذا بين الخواجة “جون سميث” سمسار العقار فى قلب نيويورك ، أم عم “زنقل” بواب عمارة فى حى الدقى فى القاهرة والذى يعمل سمسار عقار إلى جانب بيعه للكازوزة على باب العمارة. وسمسار العقارات يعيش ويتكسب من نصف الحقيقة ، المهم إنه “يدبسك” فى العقار بأى شكل، وسمسار العقار يقول لبائع العقار بأن عقاره قديم ولو “حزموه” حيرقص، ويذهب إلى مشترى العقار ويقول له أن هذا عقار أثرى ما فيش منه ، وهدفه الوحيد هو أن تتم الصفقة ويحصل على عمولته.
……..
علموا أولادكم الحقيقة كل الحقيقة ولا شئ غيرالحقيقة ..
..
ومن النكات التى تتعامل مع نصف الحقيقة ، أذكر تلك النكتة القديمة:
“جاء حسن أفندى إلى المقهى وجلس مع مع أصحابه الذين قالوا له:
– إلحق ياحسن أفندى أعز أصحابك طلع شقتك وزمانه نايم مع مراتك دلوقت .
(فتدفق الدم إلى رأس حسن أفندى وخطف سكين الجزار المجاور للمقهى ومضى بخطى سريعة و ثابتة وبوجه غاضب إلى بيته).
وبعد عدة دقائق عاد ووجهه منشرح ومبتسم ، والسكين فى يده نظيف زى الفل ، ووجه كلامه لأصحابه على المقهى :
– والله إنتو جماعة مفترين وبتوع إشاعات ، الراجل طلع لا صاحبى ولا أعرفه!!
….
samybehiri@aol.com
* كاتب مصري