نسيب لحود في ذمة الله: خبر صادم، لكنه الموت يباغتنا بوجهه السافر، يتصيدنا نحن الذين لم نزل نشهق… اما نسيب لحود فيطوي صفحته الاخيرة ويوقّع على خاتمة العمر… رحل بهدوء ووقار، بثقة تنساب من عينيه الحالمتين، اكمل رسالته وقال كلمته ومشى… وفي سنواته الاخيرة تحديدا، راوغ المرض على طريقته، بثقة، فلم يستسلم، بل استمر في الحلم.
في اللقاء الاخير معه قبل نحو شهرين، لم يتحدث عن مرضه العضال ومراحل العلاج الا اضطرارا وبإيجاز. كان منهمكا بالربيع العربي، يتحدث بثقة عن مشهد عربي جديد، يسأل ويلفت ويشير، كأنه طفل مشدوه بلعبته التي وجدها بعدما ظن “أن لا تلاقيا”. وجدها لكنه ايضا ظل يقلبها ويتفحصها ويعيد اكتشافها، ويلتقط ملامحها المستجدة. كان نسيب لحود حينها يتنفس من عبق هذا الربيع. رأيته بعينيّ وشممته من عبق كلماته وسمعته في صمته البليغ.
سأل وسأل: كيف نلاقي “ربيع العرب” في لبنان؟ كيف نتلقاه؟ كيف نحتفي به؟ كيف نضيف اليه؟ كيف نشارك به؟ ماذا يجب ان نفعل كي نرتقي اليه؟
كان منهمكا بملاقاة “الثوار العرب” كما سمّاهم. ففي الصورة التي عليها لبنان اليوم، كما قال، ما لا يلاقي الذي نشهده في مصر وسورية واليمن وتونس، وفي ظل انقسام مذهبي يعيشه لبنان تحت مسميات مختلفة، ليس الارضية الملائمة لملاقاة الربيع العربي.
لم تكن قوى 14 آذار فضلا عن “8 آذار”، إلا وجهين لأزمة واحدة لديه في الآونة الاخيرة، دون ان يتبرأ نسيب لحود من بذور نثرها في ربيع بيروت، او يندم على ما فعل، بل كان شديد الانسجام مع نفسه، فهو المتني الماروني المسيحي اللبناني العربي، يعرف ماذا يريد ولا يساوم على قناعات لديه، تأسره قيم وطنية وقوة المنطق ونزاهة التفكير والسلوك وسمو الغاية. لذلك كان غريبا حينما تنحدر السياسة الى مصاف الحسابات الشخصية الضيقة.
اليس هو من فصل بين أعماله الخاصة والعمل العام حين قرّر الانخراط في العمل السياسي. وألم يوقف أعماله الخاصة في لبنان حتى لا تشوب مواقفه وسلوكه العامين اي شبهة مصالح خاصة؟
لذا شكّل حضوره العام نموذجا لرجل الدولة الذي يحظى باحترام واسع، اذ قد لا تجد شخصية سياسية لبنانية تحظى بهذا الاحترام الواسع لدى كل اللبنانيين ومن مختلف الطوائف والمناطق، وهو كذلك لأنه شكل رمزية راسخة لرجل السياسة الذي لا تأسره العصبية الطائفية، بل استطاع ان يعبر عن عصب الدولة.
هكذا هو في وعي اللبنانيين وفي ذاكرتهم: أشدّ من وقف في وجه سلطة الترويكا، وأفضل من فند سياسسات حكومات الرئيس رفيق الحريري المالية والاقتصادية، واكتسب مصداقيته من مسار طويل عبّر خلاله عن انسجام عميق مع قناعاته الوطنية والسياسية.
في هذه الايام، حيث يخيم البؤس السياسي على البلد، في ادارة شؤون الدولة، في تبلور المحميات الطائفية والمذهبية، يبرز حضور نسيب لحود، وينكشف اولئك الذين صارت السياسة لديهم حرفة استنفار الغريزة المذهبية والطائفية، وحرفة تغييب العقل، وصنعة هدم جدران الدولة الجامعة.
ونحن نودع نسيب لحود: نكتشف مدى حضوره، ومعنى السياسة ومعنى الوطن وامكانية الدولة. فقد شكل هذا الرجل في سيرته الشخصية والمهنية والوطنية مدرسة حية نموذجية وجامعة.
نسيب لحود: أنت بيننا الآن، بذورك التي بذرتَ طيلة عقدين من الزمن هي من حرفة الحياة التي تتقن، والربيع ليس بعيدا، هكذا قالت عيناك، هكذا كان حدسك، والكبار يحدسون كما يبذرون المستقبل للآتين، ويرحلون بكبر.
هكذا أنت: نسيب وطن… نسيب لبنان.
alyalamine@gmail.com
* كاتب لبناني
البلد