أيام انهماكنا باستشراف صورة وشروط لبنان الغد بعد الطائف والوعد بالدولة، اتخذنا من “المؤتمر الدائم للحوار اللبناني” مكاناً للقراءة والكتابة والعمل وإنتاج الرؤية المشتركة تأسيساً على المشترك وتوظيفاً للاختلاف في حماية وحيوية المشترك… هذه المحطة ما زالت في ذهني بل وفي تكويني وفي لغتي اليومية، وإن كان بعض الأساسيين فيها قد نسوها أو تناسوها على الرغم من أنها كانت بوابتهم إلى فضاء لبناني رحب وغني.
وقتها قلنا وكتبنا أن الإحباط كناتج لضعف المسيحيين أو استضعافهم، مشكلة يعيشها المسيحيون بعمق أحياناً وبتوتر أحياناً وبسطحية أحياناً… ولكنهم يعيشونها ويتطلعون إلى معالجتها، وقد استطاعوا أن يقنعوا مساحات واسعة من المسلمين المعنيين بلبنان كما هو وكما ينبغي أن يكون، وبشرطه المسيحي، أن يوافقوا على أن هناك إحباطاً مسيحياً لا بُدَّ من علاجه بالشراكة.. ووافق المسيحيون على أن يكون قسم من هؤلاء المسلمين شركاء في صياغة رؤية للواقع المسيحي واحتمالات وإمكانات علاجه لأسباب مسيحية وأسباب وطنية.
في المقابل كنا في المؤتمر نرى أن المسلمين هم في عافية، كنا من طرفنا نشك في كونها نهائية أو غير مسكونة أو مهددة بالأمراض الخبيثة. وكان المسلمون عموماً يبالغون في التعبير عن مشاعرهم بعافيتهم ويعدوننا بتحصيل المزيد من العضلات المفتولة، من دون أن يستطيعوا تغطية ما يعتري صفوفهم من انقسام معلن ومضمر، راهن وآت ومتفاقم، بما يهددهم بأن عضلاتهم لن تكون ضامنة لسلامهم الداخلي ومكاسبهم، أو سلامتهم. وكأننا، كمسلمين، كنا نتناسى أن استقرار أي مكوّن، مسيحي أو مسلم، هو ضمانة استقرار وعافية المكوّن الآخر، وعندما يصيب الخلل جسم مكون وطني، فإن آثاره لا تقتصر عليه، بل تتعداه إلى المكونات الأخرى، وأن الغلبة النسبية في لحظة ما، كاللحظة الطويلة التي مر بها المسيحيون قبل الاستقلال وبعده إلى 1958 ثم إلى 1975 وما بعدها. هذه الغلبة دفع المسيحيون ثمناً باهظاً لها عندما اعتبروها نهائية، ما يعني أن شعور المسلمين بالغلبة النهائية والتامة سوف يكون له المردود السلبي والتدميري ذاته. وسوف تتضاعف الآثار التدميرية لتوهم الغلبة التامة والبناء عليها، إذا ما كانت هناك ظروف تجعل طرفاً مسيحياً (الموارنة وحدهم) أصحاب الأمر أو ذوي الشأن، وإسلامياً (الشيعة وحدهم) أو (السنة وحدهم) محققي الغلبة والمالكين الحصريين لمفاعيلها.
وقتها في المؤتمر الدائم، كنا نرى أن المسلمين في لبنان، وعلى أساس شعورهم بالغلبة، يعيشون مشكلة يصعب حلها ولن تحل إلاَّ إذا وصلت إلى مداها وتفاقمت وانفجرت ولكن لبنان ساعتها سوف ينفجر معها. مشكلة المسلمين هي أن تمثيلهم في الدولة (نيابة ووزارة وإدارة) يكاد يكون تاماً من حيث العدد، وإن كان مهلهلاً من حيث النوع، وعليه فلا سبيل إلى إقناعهم بأن هناك مشكلة لا بُدَّ من حلها. لأن مظاهر القوة وبصرف النظر عن الخلل الذي يكمن في بدن القوي، تعمي العين والقلب عن استشراف المخاطر.
ولذلك كان كثير من المعنيين من الشيعة وأقل منهم من السنة لا يرون شغلاً لهم في المساحة الإسلامية، وما عليهم إلاَّ أن ينخرطوا في فهم وتفهم الإشكالية المسيحية ليحققوا طموحهم بالمشاركة في الشأن الوطني.
لقد كان متوقعاً أن يتعافى لبنان وتتعافى أطرافه معه. لتعود الحيوية إلى الجسم المسيحي وتنتهي إشكالية الإحباط وذكرياته لولا أن الإحباط أصاب لبنان بأكمله بعد إنجازات مصيرية كان من شأنها لو أحسن الفاعلون الأساسيون فيها تثميرها بوطنية غير ملتبسة بالمذهبية، أن ترفع الإحباط عن المسيحيين، وتمنع من تعميم الإحباط إلى اللبنانيين. لم يحصل ذلك. وتحول الإحباط لدى المسيحيين إلى مسار آخر، إلى مسار انقسام سياسي مسيحي تقابلي وشديد الحدة، وتدخل أطرافه أو طرفاه الأساسيان، في الأطراف الإسلامية المتقابلة إلى حد إثارة الشبهة بالتماهي والالتحاق بهذا الطرف الإسلامي أو ذاك، رغم الإلحاح على خطاب استقلالي لدى الأطراف المسيحية يوافق عليه البعض ويشكك به البعض الآخر.
ننتهي من هذا كله، إلى أن حال المسيحيين الآن وربما غداً، ليست حالاً سوية. ولكننا نرى أن ما يمكن أن يعتبر ضعفاً بسبب الانقسام، قد يكون منطوياً على إيجابيات عالية ومطمئنة، وهي أن التعدد المسيحي واقع وإن كانت آثاره غير محمودة في الراهن والملموس، إلاَّ أن عواقبه سوف تكون مزيداً من الحيوية والفاعلية المسيحية. خاصة أنه في طرفيه يقصر المسافة بينه وبين المسلمين (التيار العوني والشيعة والقوات والسنة إضافة إلى الدروز).
وفي المقابل ليس هناك وحدة إسلامية تبشر بخير، بل إن الانقسام السياسي الإسلامي قد تحول إلى انقسام اجتماعي شديد العمق والخطورة. وإذا ما كان الانقسام في الساحة الإسلامية يتعدى ثنائية السنة والشيعة، فإنه لا بُدَّ من التدقيق في هذا الأمر فالتعدد السني معبر عنه في طرفي الموالاة والمعارضة، وقد يرى، البعض أن السبب هو ضعف السنية السياسية عموماً، ويصح الحكم نفسه بالنسبة إلى الحساسية الدرزية المعارضة والتي تعبر عن نفسها بحرية تامة. ولو كانت الدرزية المعارضة أو السنية المعارضة تحمل مشروعاً لا تعتريه شبهة الالتحاق لكان الأمر غاية في الإيجابية. ما يعني في النهاية أن حال المسلمين أشد تعقيداً من حال المسيحيين. ومع هذا فلن ينفع المسلمين كثيراً شعور طرف منهم، هو الطرف الشيعي، بالقوة، وهو شعور له مبرراته الإيجابية (التحرير، ونصر تموز المختلف عليه جزئياً) ومبرراته السلبية، وهو التمكن من الظهور بمظهر المهيمن على القرار السياسي اللبناني، بما كاد أن يحول الموالاة إلى معارضة وقد يحولها قريباً.
ولعل أقصى ما يمكن أن يكون تعبيراً عن عافية أو قوة شيعية حقيقية هو أن تكون هناك فسحة للرأي الآخر الشيعي، أي أن لا يكون مرصوداً بالعنف غير المباشر والذي عادة ما يكون مقدمة لعنف مباشر. وإذا ما تم ذلك وسمح الله به، فإن الرأي الآخر الشيعي سوف يخفف إلى الحد الأدنى من توتره ويتجنب الدخول في عداوة مع الشيعية السياسية التي قد تضطر لأن تظهر العداء أو تضمره لأنها مضطرة إلى التعصيب، ولا تتحمل أن يكون هناك رأي آخر لأنه يمكن أن يفهم على أنه انشقاق أو نقص في الوحدة أو انتقاص من السلطة بينما المفترض بالرأي الآخر أنه يسوِّغ حركته في مواجهة التعصيب. وإذا ما حصل ذلك، وحصل في مقابله مزيد من التروي والبعد عن شبهة التبعية في المساحة السنية المعارضة، فإننا نكون قد أهلنا أنفسنا لإنجاز حالة سياسية تعددية حوارية وإن ساخنة أو حارة، بدل المضي في حالة سجالية تصبح صراعية ودموية بين لحظة وأخرى. إلى أن تصل إلى حد الإفلات بالزمام نهائياً وبالكيان. وإذا ما ظهرت هذه العافية في الجسم الإسلامي فإنها لا بُدَّ أن تؤثر إيجابياً على الجسم المسيحي لتساعده على تحويل التعدد إلى مصدر حيوية مسيحية ووطنية بدل اندفاعه على طريق الانقسام والصراع.
ختاماً… لا تستطيع بعض المعارضة الدرزية أو السنية بسهولة نفي شبهة أنها من خاصات غيرها. ومن هنا فإن فاعليتها تنسب إليها مجازاً ولغيرها حقيقة… وعليه فإن التحدي الذي واجه ويواجه الرأي الآخر الشيعي هو أن لا يكون شيعياً مجازياً. وإن كانت حقيقة الآخر السني أو الدرزي في الموالاة حقيقة لا تنكر. ولكن الاندماج الوطني، في الموالاة والمعارضة، لا يكون اندماجاً إذا ألغى مكونات طرف لمصلحة مكونات طرف آخر. إن الاندماج هو الذي يبقي خصوصيات كل طرف وحقائقه الذاتية محفوظة، ولكنه يحفر حيزاً عميقاً وواسعاً ومسيجاً بالتفهم والتفاهم، يكتسب فيه كل طرف خصائص جديدة ومميزات نوعية ترقى إلى مستوى عموميات وطن واحد يقوم على الوحدة والتعدد في جدل جميل، يسمح بالالتباس بين الذات والآخر. أي التشابه الجميل، الذي لا يلغي تعريفاً خاصاً لمصلحة تعريف خاص آخر. بل على العكس، فإن التماهي المفتعل يؤثر سلباً على طرفيه. الرأي الآخر، ليس هو الآراء الأخرى، هو حساسيات مختلفة فعلاً ولكنها لا بُدَّ أن تلتقي على رأي آخر مركب على أطروحة لا على نفي أو سلب.
إن لبنان الآن هو بأمس الحاجة إلى رأي أو آراء أخرى تلطف على الأقل هذا السجال المذهبي بخطاب سياسي حقيقي هو خطاب الدولة في مقابل خطاب الطوائف، لأنه إذا كان الناجع في لبنان الآن ودائماً هو أن يدور الاتفاق والاختلاف على موضوع الدولة وأولويتها فإن هناك ضرورة ملحة لإخراج الصراع الدائر الآن من صفته الطائفية والمذهبية والمعارضة والموالاة المشوبة بهما رغم كل المحسنات اللفظية والاستتباعات الناجحة والفاشلة، لنعود بلبنان إلى ما كان ينبغي أن يستمر فيه من كون الصراع أو الحوار هو على موضوع الدولة والذي يصح معه أحياناً وصفه بأنه صراع دولة مع اللادولة من دون أن يخلو صف المعارضة واقعاً من دليل على أنه لا يقطع مع الدولة بدولة موازية في المطلق وإن كان أداؤه غير خال من الشبهات. تماماً كما ان صف الموالاة لا يخلو من أدلة على أن في داخله خطاباً وأداءً ما يمكن اعتباره تمكيناً للادولة على أساس ما يقال أو يعمل من حفر تحت أساسات الدولة وبأدواتها أحياناً.
قضايا النهار
http://annahar.com/content.php?priority
=3&table=kadaya&type=kadaya&day=Wed
نحو سجال مذهبي “لطيف”
موضوع بهذه الحساسية لايكتب باسلوب ادبي يتضمن كل العناوين الفرعية في كتب البلاغة فللعلوم اسلوب وللحقوق اسلوب وللادب اسلوب فهل يجوز المرافعة بقضية في المحكمة امام القاضي باسلوب ادبي أو انشائي ؟ هذا الاسلوب يعطي الكتابة لونا رماديا قتختلط المفاهيم وتشوه الحقائق ويضيع المعنى وهذا مايميز الحديد عن الزئبق .