المقابلة التالية مع أحد مسؤولي “اللجان الثورية” أفضل من كثير من التحليلات السابقة عن تركيبة النظام القذافي. فلم يكن واضحاً، حتى الثورة، أن عبدالله السنوسي منحاز كلياً لـ”سيف الإسلام” ضد “اللجان” وضد إخوة سيف، خصوصاً المعتصم وخميس. ولم يكن واضحاً أن “اللجان الثورية” كانت قد بلغت درجة من الضعف جعلتها تغيب كلياً عن مسرح الأحداث، إلى درجة أنه لم يكن لها دور في الدفاع المستميت للقذافي عن نظامه. وبشكل أو بآخر، فإن ناصر الحسوني يوحي بأن عبدالله السنوسي وسيف الإسلام لعبا دورا ًأساسياً في إضعاف النظام من الداخل!
من جهة أخرى، فلم يكن معروفاً أن اللجان الثورية “كانت لها مصارف وشركات عقارية وتجارية وتموينية وسياحية وفنادق، سواء في مصر أو إيطاليا أو لبنان أو في إفريقيا، إما باسم أشخاص أو شركات، وكانت تتصرّف في أموال ضخمة، وهي مُـكتفية ذاتيا، أي أنها تموّل نشاطاتها من موارد شركاتها”!
في ضوء شهادة ناصر الحسوني، يبدو أن الصراعات المالية لعبت دوراً أساسياً في انهيار “اللجان” وابتعادها عن الدفاع عن النظام البائد.
*
بقلم : رشيد خشانة – الدوحة- swissinfo.ch
مساء يوم 17 فبراير الذي تفجّـرت مع خيوطه الأولى الثورة الليبية، توارى ناصر الحسّوني، الذي كان أبرز قيادات اللِّـجان الثورية في مدينة بنغازي، عن الأنظار وتسلّـل إلى مصر، التي وصل إليها في اليوم الثاني.
بعد أسبوع واحد، باشر الإدلاء بشهادته أمام المدّعي العام لدى المحكمة الجنائية الدولية في القاهرة، بواقع ست ساعات كل يوم على مدى أسبوع كامل، ما مهّـد لإطلاق مذكّـرات توقيف دولية في حقّ العقيد معمر القذافي ونجله سيف الإسلام وعديله عبد الله السنوسي، رئيس جهاز المخابرات.
ويُفكك الحسوني في هذا الحوار الخاص مع swissinfo.ch بنية النظام الأمني الذي أقامه القذافي طيلة أكثر من أربعين سنة بفروعه الحزبية والعسكرية والحكومية والبوليسية، مُستذكرا الأجواء التي أدّت إلى الانفجار الشعبي في بنغازي يوم 17 فبراير 2011، ومتحدِّثا عن التحديات الكبيرة التي ما زالت تواجه ليبيا، بعد تكليف الكيب بتأليف الحكومة الإنتقالية الثانية.
كانت البداية من المسار الذي أوصل الحسوني إلى مراكز حسّـاسة في “الدولة”، إن كانت هذه التسمية تنطبِـق على ما كان يُـديره القذافي من أجهزة. وانطلقنا من سؤال عن المواقِـع التي شغلها قبل فِـراره من بنغازي، فأفاد أنه كان أمينا لشُـعبة اللجان الثورية في المؤسسات التعليمية ورئيسا لـ “النادي الأهلي”، وهو من نوادي كرة القدم الكبيرة في ليبيا، كما تولّـى إدارة شركة الخدمات العامة في بنغازي وكان أمين الأمن العام في منطقة البركة وأمين المؤتمر الشعبي بالرويسات… لكنه اختار أن يتوارى عن الأنظار يوم الخميس 17 فبراير، الذي أعلنه الثوّار انطلاقة لحركة شاملة، أسْـوة بالثورة التونسية، واجتاز الحدود المشتركة مع مصر صباح الجمعة 18 فبراير.
swissinfo.ch: لماذا اتخذت هذا القرار؟
ناصر الحسوني: منذ أن أعطى عبد الله السنوسي تعليمات قبل اندلاع الثورة بيوم واحد لإطلاق النار على المتظاهرين، وكنت حاضرا، أدْركت إلى أين ستسير الأمور، فأشهدت الحضور على ما سمعت واختبأت عند أصدقاء، لأكشف في اليوم التالي ما حدث عن طريق قناة “الجزيرة”.
وعندما وصلت إلى مصر، جاء المدعي العام لدى المحكمة الجنائية الدولية أوكامبو، فكنت أول شاهد استمع إليه. وبعد أيام، أصدر مذكّـرة توقيف دولية بحق معمر القذافي وسيف الإسلام وعبد الله السنوسي.
كم حصة استمرت الشهادة؟ وعمّ تحدثت؟
ناصر الحسوني: سِـت حِـصص، قدمت خلالها معلومات مفصّـلة عن المورّطين بعناوينهم وأرقام هواتفهم، التي ما زِلت أحفظها عن ظهْـر قلب وسياراتهم… بل وضعت رسوما عن الأماكن ومواقع الرِّماية بكامل الدقّـة. هذا ليس مجرّد خبر صحفي. إنها وثيقة تشكِّـل جزءا من تحقيق جنائي. وقد وقَّـعت في ختام الشهادة على 120 صفحة.
لنعُـد إلى الأجهزة التي كان يحكُـم القذافي من خلالها، ماذا كان دور اللجان الثورية وما هي وظيفتها الأمنية بالتحديد؟
ناصر الحسوني: هي بمثابة الحزب الحاكم، وهي أيضا التنظيم الأيديولوجي الوحيد المُـنفرد بالهيمنة على جميع مناحي الحياة السياسية والثقافية والأمنية…
ما هي مهماتها الأمنية بالتحديد؟
ناصر الحسوني: هي أهَـم ركائز أمْـن الثورة، أي أمن الدولة، وكان القذافي يعتبرها الوريث لمجلس قيادة الثورة من أجل المحافظة على أدبيات ما يُسمّـى بالفاتح من سبتمبر.
تقصد أنه وريث لـ “الاتحاد الاشتراكي”؟
ناصر الحسوني: لا، هو حلَّ “الاتحاد الاشتراكي” وأنشأ “اللجان الثورية”، و”الإتحاد الاشتراكي” كان تنظيما سياسيا وكان هناك آنذاك نوع من الديمقراطية، إذ كان له تأثير في الواقع الاجتماعي، لكن ما أن تُـوفي جمال عبد الناصر وتولّـى أنور السادات (1970 – 1981)، حتى اكتشف أنصاره ومنهم القذافي، أنه ارتكب خطأً كبيرا لكونه لم يؤسِّـس حركة ثورية تُـثبت الركائز الفكرية والتنظيمية للنظام، فاستفاد القذافي من هذا الدرس وأسّـس حركة، مهمَّـتها وضع ما سُـمِـي بأيديولوجيا الثورة وتوكل لها في الوقت نفسه مهام الدفاع عن الثورة وحمايتها في الداخل والخارج، وهي مبنية على عدّة شُـعَـب تنظيمية متخصِّـصة بالعمل الداخلي والخارجي، منها الشُّـعبة الأمنية والتعبِـئة والتثقيف، وهي الأهَـم، إذ هناك فروعا أخرى، لكنها تظل أجنِـحة داخل الحركة أو مثابات قاعدية في الأحياء السكنية والمؤسسات العسكرية والأمنية والإقتصادية والخدمية والجامعات..
ففي كل تجمع، هناك مثابة لتعبِـئة الناس من أجل المُـبايَـعة والاحتفال بالذكريات، مثل إجلاء القواعد الإيطالية والأمريكية وخطاب زوارة، الذي علَّـق القذافي بموجبه العمل بالقوانين وأعلن ما سُـمي بالثورة الثقافية في 15 أبريل 1973…
عمليا، كيف كانت اللجان الثورية تقوم بالمهام الإستخباراتية؟
ناصر الحسوني: كان من مهامِّـها، ممارسة “الرقابة الثورية”، أي تتبع المعارضين في الداخل والخارج ورصْـد أي ظواهر قد تشكِّـل خطرا على أمْـن الثورة في الداخل أو الخارج. كان المطلوب من كلّ عضو إعداد تقرير يومي، وهذه التقارير تُجمع في الغرفة الأمنية العُـليا وتُصنَّـف وتُبوَّب، لفتح ملفات أمنية خاصة. فما يتعلق بالنشاط الدِّيني، يُحال على الأمن الداخلي، وإذا كان الشخص عسكريا، يُحال الملف على الاستخبارات العسكرية، أما إذا كان أجنبيا أو شخصا له علاقة بالسفر، فيُحال على الأمن الخارجي… وكان من ضِـمن مهامِّـها أيضا، إعداد تقرير يومي لرصْـد اتجاهات الرأي العام وتحليلها قبل أن تُحال على شُـعَـب متخصِّصة تتولّى تحليل موقِـف الرأي العام، اعتمادا على فريق يضُـم علماء اجتماع واقتصاد وفلسفة ورجال أمن أكاديميين ومتخصِّـصين في رصد الإشاعة وتقصِّـي مصادرها.
كانت القاعدة في العمل الأمني، هي تشجيع الناس على تقديم المعلومات بالاعتماد على الأصدقاء والمقرَّبين. حتى في اللجان الإدارية للمساجد، كان هناك شخص مكلَّـف بحضور الخُـطبة والصلوات والدروس، يُـقيم مع القائمين على الإمامة والخطابة ليتأكد من حركتهم.
ما هو العنصر الحاسِـم الذي كان وراء حدوث انعِـطاف في وعي الليبيين وبداية التجرُّؤ على النظام؟
ناصر الحسوني: العامِـل الأهَـم، ظهر خلال السنوات العشر الأخيرة، التي كانت مُـنعَـطفا حقيقيا. فمع تصاعُـد بطْـش أدوات النظام، ظهر خوف عميق منها، بسبب التَّـمهيد لعملية التوريث. خَـطا معمر القذافي خُـطواته الأولى في هذا الإتجاه، فنشب صِـراع بين الحرس القديم (اللجان الثورية والأجهزة الأمنية) من جهة، وسيف الإسلام وعبد الله السنوسي، من جهة ثانية.
كان السنوسي، هو القبضة التي يضرب بها سيف الإسلام، وكان مُـصِـرا على الإشراف على عملية الانتقال، ساعيا إلى أن تتِـم في إطار سلِـس. اعتبر الحرس القديم أن السنوسي بدأ يعزل القذافي الأب عن محيطه، وفي المقابل، كان السنوسي يُقنِـع سيف الإسلام بإضعاف الحرس القديم، لأنه هو العقَـبة الرئيسية أمام التوريث، فاحتدم الصِّـراع وأصبح السنوسي يتَّـصل بجهات معارضة ويُخفِّـف من أحكام السِّـجن الصادرة في حقّ بعضهم، ويُغازل أوساطا مُـختلفة من أجل تلميع الصورة، بما في ذلك التضحية ببعض الوجوه.
بدا الحرس القديم محافظا، بل ومتشدِّدا فِـكريا، فباشر سيف الإسلام التخلُّـص من قياداته وتهميشها وسحَـب استثمارات اللجان الثورية في الداخل والخارج، التي كانت تضاهي استثمارات الدولة، ليضمّـها إلى مؤسسته ويُكلِّـف موالين له بإدارتها.
ماذا تعني باستثمارات اللِّـجان الثورية؟
ناصر الحسوني: كانت لها مصارف وشركات عقارية وتجارية وتموينية وسياحية وفنادق، سواء في مصر أو إيطاليا أو لبنان أو في إفريقيا، إما باسم أشخاص أو شركات، وكانت تتصرّف في أموال ضخمة، وهي مُـكتفية ذاتيا، أي أنها تموّل نشاطاتها من موارد شركاتها. وتمّ سحْـب هذه الشركات من اللجان الثورية، بناء على نصيحة السنوسي، الذي أوعز لسيف الإسلام بالسَّـيطرة على موارد “اللجان”، من أجل إضعافها وإنشاء منظومات بديلة توازيها، مثل المنظمة الوطنية للشباب الليبي والمجلس الأعلى للشباب ومُـلتقى الشباب الوطني ومؤسسة القذافي العالمية للأعمال الخيرية وجمعية القذافي لحقوق الإنسان وجمعية القذافي لمكافحة المخدرات، وحتى جمعية القذافي لمقاومة الألغام…
لكن، كيف تحرّك الشعب، رغم هذا التأطير الحديدي؟
ناصر الحسوني: لمّـا تحرك في 17 فبراير، كان الجيش مُـنحَـلاّ. فبعد هزيمة فبراير 1987 في وادي دوم في التشاد، التي أسر خلالها قائد الجيش الليبي خليفة حفتر، ثم لجأ إلى أمريكا، تنامَـت انشقاقات الضباط الحانقين، بسبب عدد القتلى والأسرى في تلك الحرب، فخشي القذافي من وجود خلايا نائمة في الجيش قد تعمل على تنظيم انقلاب ضدّه، فقرّر حلّ الجيش، وخاصة القوات البرية، واستعاض عنها بالكتائب الأمنية، التي كانت تحميه هو شخصيا وتُـدافع عن النظام، وكانت في حدود عشرين كتيبة موزَّعة على المُـدن الرئيسية، فيما تمّ تحويل قِـسم من الجيش إلى أجهزة الأمن الداخلي وقسم ثانٍ إلى العمل المدني، وأُحِـيل قِـسم ثالث على المعاش.
أما القوات الجوية، فصارت شكلية ومهتمّـة فقط بالدِّفاعات الجوية. وهكذا جرى تفكيك جيْـش كان مؤلَّـفا من نحو 40 إلى 50 ألف جندي، وصارت الأسلحة الجديدة تسلَّـم للكتائب وقوات القبائل، كي تحمي النظام وليس الوطن.
هل هناك عُـنصر أو عناصر أخرى؟
ناصر الحسوني: بلى، توسّـع الوعي أتى عن طريق وسائط الإتصال الحديثة والتواصل بين المعارضة في الخارج وشرائح واسعة من الشباب في الداخل، وهؤلاء لم تنطل عليهم قصّـة الإصلاح، التي كان يُروِّج لها سيف الإسلام، بالإضافة إلى تردّي الوضع الاقتصادي وغِـياب أدوات التمثيل السياسي، إذ اقتنع الناس بأن اجتماعات اللِّـجان الثورية مجّرد مسرحية. قبل ذلك، كانوا يخافون من بطْـشها، لكنهم اكتشفوا أنها نمْـر من ورق، بعدما أضعف التَّـنين نفسه بنفسه.
أليست هناك خِـشية اليوم من صعود الصراعات والأحقاد القديمة إلى السطح؟
ناصر الحسوني: كان النظام قابِـضا على كل شيء، فسكن الخوْف كل القلوب، لأن الجميع كان يشعر بأنه مراقب، وهذا ما قتل التفكير في المبادرة لديه. هناك ما لا يقل عن ثلاثين سنة من الشراسة والدَّموِية، المُـختزنتيْـن في الذاكرة، ومجرّد استذكارهما، كان يشكِّـل مصدر خوْف، على رغم ضعف النظام.
لكن، على لجان الثوار اليوم أن تسلّـم المقاليد للسلطة المدنية الجديدة؟
ناصر الحسوني: هناك تراكُـمات اجتماعية قديمة، وظهر أيضا تضارُب بين مجموعات الثوار في بعض الساحات. وقد يسعى المستفيدون من النظام السابق إلى توسيع الهوّة وإشعال نار الفِـتنة، انطلاقا من السعي لاستمرار حالة الفوضى، ما يؤدّي إلى ظهور نتوءات يتِـم من خلالها اختراق الصفوف وإضعاف مشروع الثورة. فمن أهمّ أسُـس هذا المشروع، الوحدة الوطنية والمصالحة، وصولا إلى مرحلة الديمقراطية.
ألا ترى أن بقاء مجموعات مسلّـحة، تسْـرَح وتمْـرَح، يشكِّـل خطرا مُـحدِقا بالثورة؟
ناصر الحسوني: ما نسمعه اليوم، هو أنه لم يتِـم التخلُّـص من الكتائب بالكامل، إذ انسحب بعضها، لكن لا ندري إلى أيْـن؟ في المقابل، لم يبدأ تكوين جِـسم مؤسساتي أمني وعسكري، إذ يشعر الناس أنهم ما زالوا في حرب، فيما أعلنت غالبية جماعات الثوار استعدادها للإنصهار في الجسم العسكري متى ما أنشِـئ.
أما الحكومة، التي كُـلِّـف بتشكيلها عبد الرحيم الكيب، فستتحمَّـل مسؤوليةً تاريخية، وستكون مُـنعَـطفا في تاريخ ليبيا، لأنها أول حكومة بعد الثورة وعلى كاهلها مهام كبيرة، منها الإشراف على الإستفتاء على دستور ليبيا الجديدة ومعاودة بناء المؤسسات العسكرية والأمنية والإدارية.
وبسبب حدود صلاحيات المكتب التنفيذي، لم يستطع بناء مؤسسة عسكرية قائمة على عقيدة، فذلك لا يمكن أن يتم في أسابيع.
هناك مواطنون نُـقِـلوا من مناطقهم، بل اقتلعوا من جذورهم بسبب الإشتباه في وقوفهم إلى جانب الكتائب، فكيف يمكن أن تُعاد لهم الثقة؟
ناصر الحسوني: هذا هو فحوى مشروع المصالحة الوطنية، وهو في مقدِّمة المهام المُـلقاة على الحكومة الإنتقالية. لكن من الصَّـعب أن يصالح الليبيون بعضهم بأنفسهم، فربما يقتضي الأمر الإستعانة بأشقّـاء في مشروع كبير كهذا، والإستعانة بخِـبرات الآخرين، لأن عنصر الخوْف من الثأر ما زال قويا.
لكن الحكومة الجديدة ستكون أقوى من المكتب التنفيذي وتستطيع فرْض خيارات…
ناصر الحسوني: يجب إنشاء الهياكل. فعندما يعود البناء، يقتنع الناس ويزول خوْفهم من استبدال دكتاتورية بأخرى.
كيف يمكن إقناع الثوار بتسليم الأسلحة؟
ناصر الحسوني: لن يكون هناك تسليم بنسبة مائة بالمائة، لكن الغالبية حريصة على العوْدة إلى الحياة المدنية، وستبقى أقليات متشبِّـثة. ففي تاريخ الإسلام هناك أناس تمرّدوا حتى في ظِـلّ الخلافة الرّاشدة والأمويين والعباسيين.
ومَـن يوقف عمليات قتل المشبوه بولائهم للكتائب خارج المحاكمات العادلة؟
ناصر الحسوني: حدث ذلك أثناء فترة الفوضى، ربما لأن الثوار كانوا من المتطوّعين غير المنظَّـمين، فلم تكن هناك مؤسسات ولا ضوابط، مثل تلك المُـتعارَف عليها أثناء تحرّك النُّـظم العسكرية التقليدية. لا ننسى أن هذه حركة شعبية عارمة، والثورة الفرنسية أبصرت تجاوُزات مماثلة شملت حتى من صنعوا الثورة.
مَـن له اليوم سلطة معنوية تمكِّـنه من وقف النزيف؟
ناصر الحسوني: كبار العائلة، أي شيوخ القبائل، لأن القبيلة ما زالت هي المِـظلّـة التي من خلالها تتِـم السيطرة على التصرّفات الشاذّة للفرد، وتضبط حركته. وهنا، لابد من إيجاد هيئة تتولّى ملف المصالحة الوطنية وتكون لها لِـجان فرعية ومركزية للقيام بهذه المهمة.
هل تعتقد أن خارطة الطريق التي وضعها المجلس الانتقالي ستُنفَّـذ فعلا؟
ناصر الحسوني: هناك تحدِيات حقيقية ولا يمكن مواجهتها إلا بتسمية الأشياء بأسمائها. فالثورة لها أهداف ولم تقُـم من أجل الفوضى أو إقصاء أية مجموعة…
وما الضامن أن ذلك سيتحقّـق، خصوصا في ظل غياب تقاليد سياسية؟
ناصر الحسوني: هناك دستور سيضع ضوابط، وهذا من أكبر التحديات أمام الحكومة المقبلة. فالمطلوب مثلا، التنظيم في الأحزاب، لأن هذا ما كان يطالب به الشارع. نحن نبدأ الآن من الصفر، إذ ليست لدينا تقاليد حزبية، خلافا لتونس ومصر، فحتى في أيام النظام الملكي، كانت الأحزاب محظورة.
هل تتوقَّـع أن تنجح حكومة الكيب؟
ناصر الحسوني: الناس يرغبون اليوم في التخلّـص من الأسلحة وبدء ممارسة سياسية، وهذا موقف شريحة واسعة من الليبيين، خاصة في بنغازي وطرابلس، فهم يستعجِـلون البناء ولا يريدون أن يصبح بلدهم مثل أفغانستان أو العراق. فلا أحد سيضمن لنفسه الخروج من تلك الدائرة، إذا ما انزلقنا إليها. وقوة الحكومة ستستمدّها من شرعية الإجراءات والمصداقية والجدية وتمثيل كافة شرائح الشعب، فبذلك، يمكنها أن تنتقل سريعا إلى المصالحة وإعادة بناء المؤسسات العسكرية والأمنية وتضبط الأوضاع وتُشعِـر الناس بأن ثمّـة جِـسما أمنيا يحفظ البلد.
وكيف ستواجه القائلين بخطر فلول النظام السابق؟
ناصر الحسوني: سيطلع علينا أناس يتحجَّـجون بخطر فلول الكتائب، وهذا النوع من ردود الفعل مفهوم، لكن يمكن التغلّـب عليه بمشروع جدّي يُزيل جميع المبررات.
متى ستعود إلى ليبيا؟
ناصر الحسوني: عندما تكون هناك دولة مؤسسات. فأنا خرجت من اليوم الأول للثورة، بعدما وصلت إلى قناعة بأن علي أن لا أكون أداة قمْـع بيَـد النظام، وبعدما انكشفت أمامي نوايا النظام الذي بات ميْـؤوسا من إصلاحه. كانوا يعوِّلون علي لتوزيع الأسلحة في بنغازي، لكنني أعطيت كل المعلومات لقيادات الثورة. صحيح أنني كنت مع النظام، لكني سأكون أول الماثلين أمام المؤسسات عندما توضع، لأنني أتمنى أن يعيش أبنائي وإخوتي وجيراني في ليبيا ديمقراطية، ليس فيها حِـقد ولا عداوات.
رشيد خشانة – الدوحة- swissinfo.ch