لا أدرى لماذا ألحَّ على ذهنى خلال الأيام القليلة الماضية فيلم شادى عبدالسلام الخالد «المومياء». على مدى أسبوعين بين واشنطن ونيويورك كنت أشارك وأتحدث عن مصر، وتقلَّب الأمر بين السياسة والاقتصاد وتطورات ما جرى للمحروسة، وكل ذلك جعلنى أبحث عن المعضلة الحاكمة للتطور التاريخى المصرى. ساعدنى الفيلم على الفهم، فقد قام على ما جرى فى قرية «الحرباء» فى بطن جبال الأقصر خلال القرن التاسع عشر عندما كان يجرى نهب الآثار المصرية وبيعها للغرباء. كان ذلك وسيلة العيش الوحيدة للقرية، وكان ذلك هو ما توارثته الأجيال التى اعتقدت أن الآثار ما هى إلا «مساخيط» لا معنى لها، ومن غير المفهوم لماذا يهتم بها القادمون من المدينة إلى هذا الحد. تبدأ المفارقة فى القصة لحظة اكتشاف «ونيس» ابن شيخ القبيلة أن عيش الأهل يقوم على نهب المقابر التى هى ليست «مساخيط» بحال، وإنما هى حضارة متكاملة تشكل أصول أمة. لم يقتنع الشاب الذى أصبح ثائراً ومتمرداً بقول الشيوخ «هذا ما وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا»، فلم يكن ممكناً بعد معرفة ما عرف أن تنعم العيون بنعمة الصفاء. لا بد من التغيير إذاً، ولكن القبيلة كلها لا تريد أن تترك حالها الذى عرفته، والأهم أن تاجر الغرباء كان على ثقة بحالها هذا إلى الدرجة التى عندما فات موعد تسليم «سليم» للآثار إذا به يقول «سوف يأتى سليم آخر»!
السؤال هو: هل تبقى مصر على حالها «ويأتى سليم آخر»، أم أن هذا الوطن يمكن تغييره بعد أن عرفنا ما عرفنا عن العالم ومكاننا المتراجع فيه؟ هل يمكن أن نستمر فى أن نكون أمة ذات كرامة تعيش على القروض والمعونات والمنح وأكثر من ربعها-٢٣ مليون نسمة- فقير ولا يعرف القراءة والكتابة؟ منذ عودتى إلى الكتابة فى «المصرى اليوم» فى شهر فبراير الماضى، وإلحاحى لم يتوقف فى رفض الإخفاق المصرى المستمر على مدى القرنين الماضيين فى إدراك هدف الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة. التساؤل ظل مطروحاً عما إذا كانت ثورتا يناير ويونيو وما بينهما سوف تخط طريقاً مختلفاً عما سرنا عليه من محاولات فى الماضى بحيث نصل إلى الهدف الذى حققه أكثر من ثمانين دولة من دول العالم؟ أعجبنى جماعة المسؤولين عن قيادة الدولة عندما قالوا، فرادى ومجتمعين، إن «الفشل» ليس خياراً مطروحاً، والنجاح هو وحده المطروح، لأن التراجع هذه المرة سوف يكون ثمنه الدولة والأمة ومصير أجيال تعلقت آمالها بما جرى. التفاؤل ولا شك مطلوب، والعزيمة والإصرار فضيلة، ولكن الماضى القريب للغاية شهد أكبر عملية ليس ذهاباً إلى مستقبل نبيل، وإنما تراجع نحو الماضى العثمانى، وتم ذلك عبر تحالفات تمت شارك فيها جماعة الإخوان كل من المجلس العسكرى والشباب الثائر الذين كان يفترض فيهما أخذ البلاد فى اتجاه الدولة المدنية فسارا فى عكس الاتجاه. من الناحية التاريخية كان ذلك إخفاقاً آخر شديداً هذه المرة، ولكننا الآن فى عصر جديد ومحاولة أخرى لم يكن متوقعاً أن تأتى بهذه السرعة. ولكن المحاولات لا تنجح فقط لأننا نقول إن الفشل ليس اختياراً مطروحاً، أو إن النجاح هو وحده المقبول، وإنما لأنه كانت لدينا الشجاعة لكى نغير مسار الإخفاق، وطريقة العيش، ونظام الحياة. كنت أتمنى فى خضم المحاولة أن تكون لدينا الشجاعة لكى نكشف عن تاريخنا البائس فى المحاولات الكثيرة التى تضمر بعد فترة وجيزة وتنتهى إلى نكسة أو هزيمة، لا فرق. والحقيقة هى أن الترجمة العملية لخيارى النجاح والفشل هى: إما أن تبقى أحوال مصر (قبيلة الحرباء لدى شادى عبدالسلام) على حالها، أو تتغير وتدرك وضعاً لا يكون فيه «سليم» آخر، وعلى العكس تقيم الحضارة التى أدركها المصريون القدماء منذ آلاف السنين!
سوف أغامر وأطرح ثلاث أفكار ذات طبيعة تاريخية واستراتيجية عظمى أرى أنها كانت السبب فى الإخفاق، وهدفى ربما يكون النخبة والجمهور بشكل عام، وإنما الأهم أن تصل إلى قيادة البلاد، ومن يهمه الأمر، وفى المقدمة جماعة الخمسين القائمة على شأن الدستور المصرى، جديداً كان أو معدلاً، فليست هذه هى القضية.
الفكرة الأولى تدور حول ملكية- بكسر الميم والكاف وتسكين اللام- أرض مصر التى حرم منها غالبية المصريين طوال تاريخ يزيد على ستة آلاف عام. مليون من الكيلومترات المربعة ظلت دوماً ملكاً للدولة ممثلة فى حاكم أو والٍ أو مستعمر أو فرعون أو ملك أو رئيس جمهورية. كان الخديو سعيد- رابع حكام مصر بعد محمد على وإبراهيم وعباس- هو أول من أعطى صكوك ملكية الأرض الزراعية للمصريين وكانت هذه هى الخطوة الثانية الكبرى بعد إنشاء الجيش الوطنى التى بدأت أولى خطوات مصر الحديثة. ملكية الأرض الزاعية خلقت طبقة الأعيان، ومنها جاءت جماعة الأفندية، وبعدها جماعات الصناعة والبنوك وخدمات الحضر، وبناء مدن القناة، ومن بعدها جميعاً استقلال الدولة عام ١٩٢٢. وبعد ما يقرب من قرن آخر، فإن المصريين لم يملكوا أكثر من ٧٪ من أرض مصر، وتملك الدولة- نظرياً على الأقل- الباقى ٩٣٪، ومع ذلك تشكو الدولة ومعها المستثمرون دوماً من ندرة الأراضى الصالحة للعمل الاقتصادى. غياب الملكية تحول إلى أزمة أمن قومى فى سيناء والحدود الغربية؛ والمواطنة سوف تظل دائماً مفهوماً غامضاً ما لم تتم ترجمته إلى ملكيات لأرض يملكها المصريون، وزراعات وصناعات وخدمات على أرض يستخدمها أهل مصر.
الفكرة الثانية هى أن دولة «النهر» المصرية لم تكن فقط قرينة الاستبداد، ولكنها سوف تبلغ نهايتها الاقتصادية مع بلوغ عدد المصريين ١٠٠ مليون نسمة. الفكرة الملحة خلال العقود القليلة الماضية هى أنها يمكن لمصر أن تكون بلداً بحرياً من الطراز الأول، وبالتالى يمكن عبور الصحراوات وتحولها بدلاً من الجدب إلى معابر بين مناطق حضارية على شواطئ سيناء والبحرين الأحمر والأبيض. والحقيقة أنه لا توجد عبقرية كبيرة فى دولة النهر القائمة على الثبات، وما كان عليه آباؤنا وأجدادنا، وإنما العبقرية الكبرى تأتى دوماً من دولة البحار التى فيها شوق المغامرة والمبادرة والتغيير والتواصل مع الآخرين.
الفكرة الثالثة هى أن بلداً عدد سكانه ٩٣ مليون نسمة لم يعد ممكناً أن يعيش على تلك الحالة من المركزية، ثم بعد ذلك يندهش من غياب الديمقراطية وشيوع الاستبداد، ويأتى له «سليم» آخر مع كل حاكم جديد. لا مفر لكى تكون مصر بلداً جديداً ولا يحدث فيها إخفاق آخر إلا باتباع نظام لا مركزى يكفل حالة من القدرة على المبادرة التنموية، والكفاءة فى إدارة الموارد، وعلاقة الاعتماد المتبادل بين الأقاليم المصرية المختلفة.
فما يجرى حالياً فى جنوب مصر، وأقاليمها المختلفة، لا يمكن تجاهله، والهرب منه بالحديث عن «الهوية» وقضية الشريعة؛ فجوهر المسألة المصرية ليس أياً منهما، وإنما كيف يشارك المصريون فى الثروة والسلطة؟ الأفكار الثلاثة تحاول الإجابة عن سؤال الفشل والنجاح، ليس من خلال إعادة توزيع ما نملك، أو تملكه جماعات منا، وإنما من خلال الآفاق الرحبة لتنمية دولة غنية للغاية يعيش فيها سكان فقراء.