من مقدمة «أهواء بيروت ومسارحها»
(فصل ممتع من كتاب سيصدر لوضاح شرارة نقلناه عن “المستقبل” مع تساؤل: متى يبدأ وضّاح بكتابة “الرواية”؟)
*
أقبلتُ على بيروت حين أقبلت عليها، أنا المولود في مدينة صغيرة (صيدا) والمتنقل بعدها في بلدات (بيت شباب وجونيه، وبنت جبيل على نحو آخر) أقمتُ بها تلميذاً «داخلياً» أو كالتلميذ، تشبهها من وجوه وتختلف عنها من وجوه أخرى، أقبلت عليها إقبال المهاجر على مهجر ينشد فيه الخلاص والتجدد، وربما إقبال المريد على حلقة شيخه وتدريسه. فبيروت هذه، تلك التي أردت الانتساب إليها طوعاً، والتمثيل بها على المدينة ومثالها وصورتها، أوكلت إليها تخليصي، وتخليص غيري من أمثالي وممن لا يشبهونني وأرجو لقاءهم، من أثقال الأهل والأهلية والنسب من غير حسب. والحق أنني لم أكن رازحاً تحت هذه الأثقال ولا مكبلاً بها. وعرفت وخالطت وأنا يافع كثيرين مثلي، ويسعني القول، وهو وسعني من قبلٍ بعيد، ان الأهل، ودوائرهم واختباراتهم، كانوا فيئاً فئت إليه، وفاءت إليه رغباتي وحواسي ومشاعري وأفكاري وكلماتي، على غير ترتيب ولا تفريق في هذه. وكانوا، في معظم الأوقات، الباعث على الرغبات والمشاعر والأفكار والكلام، ومصادرها الأولى وسندها ومتممها. وفي هذا كله، لم يكونوا حرسيي الأوامر والنواهي المجحفة والمقيدة، ولا كانوا شرطتها. وهم أغضوا عن الخروج عن الأوامر والنواهي، وعن المتعارف «الأخلاقي» والعائلي الديني ويتصدره الوجه الجنسي، عملاً ربما بحكمة قضت بالحكم في مثل هذه الأمور بشيء كثير من التوسع والاجتهاد والحلم.
وخفة أثقال الأهل وأوامرهم ونواهيهم ومباحهم، لم تنف عنها ضيقها ولا خلعت عنها ترديد عدد قليل من النماذج، والاقتصار على دائرة تجارب لم تلبث ان انكمشت مع تقدم الزمن، ومراكمة الأعوام الغضة. وما كان يسيراً عليّ وضعيف الوطأة، أنا المنقِّل إقامتي ومنزلي بين أهلين منفصلين، بعضهم انقطع من ضيعته و«فلاحيته» قبل جيل من ولادتي وبعضهم أقام على ترجحه بين عمرانين، لم يكن باليسر نفسه على أصحابي من أولاد أهلي الأقربين والأبعدين. ولم أنتبه الى الفرق بين الأهلين، وإلى اختلاف عمرانين واحدهما من الآخر، إلا حين انتزعت قسراً من المدينة الصغيرة والساكنة، ومن بيروت المحتجبة إذ ذاك ببيت الأهل الجديد، ورميت في البلدة الريفية الكبيرة، بلدة أهل أبي. ففي البلدة الريفية الكبيرة رأيت ما لم أره من قبل، ولا أدركت خطره وثقله: الحجز بين النساء والرجال، والاستئذان في دخول البيوت واجتياز بواباتها، وإغضاء الرجال حين التلاقي من غير قصد وهلع النساء وتلفعهن بعباءاتهن أو ملاءاتهن السود أو الرمادية، والكلام من وراء الأبواب والجدران، وتحلق كلا النساء والرجال واحدهما على حدة من الآخر، في مجلسين، وتحريم المصافحة، وغيرها مثلها. ولم يكن هذا يتطاول الى الأولاد، ولا الى الفتيان في مقتبل «مراهقتهم». فهؤلاء، على خلاف سنن الفصل والتحريم والحجب والتخفي، يرتعون في اختلاط يزيده متعة محاذاته، مكاناً ووقتاً، انفصال الجماعتين، والحجز بينهما، وتصوره في صورة ارتكاب «الحرام».
«حركة» عبدالكريم
وعزاء الاختلاط لم يكن قليلاً. ولكنه لم يكن ليتستر على ما تخلفه عادات أهل البلدة وسننهم في بعض فتيانهم وصباياهم ونسائهم. فمن البيوت التي ترددت إليها مع أهلي الأقربين، أعمامي وعماتي وأبنائهم، «بيت خالي الشيخ»، على ما كان يسمى إجلالاً وتعظيماً. والخال، ويقصد به خال أبي وأعمامي، لم يكن خالاً بل كان ابنه. وعلى هذا فالبيت هو الدار التي ورثها ابنه. وهي دار واسعة، فوق ثلثها أو ربما نصفها المبني ديوانُ استقبال خلته، أنا القادم من شقق المدينة أو طبقاتها ودورها الآخذة في التقلص والضيق، مترامياً. وبالغ في تراميه عراء جدرانه المكسوة بالكلس وصحنه الإسمنتي الرمادي، واقتصار أثاثه على بُسُط وسجاجيد حائلة الألوان الزهرية والحمراء الباهتة، وعلى مساند واطئة متراصفة على استواء تقريبي، وطراريح، أو طراحات لصق الجدران، وبأسفلها، تحاكي الزاوية القائمة مع المساند على شاكلة الزاوية مع الجدران مع أرض الديوان. وفي وسط الديوان صوبيا شتائية ضئيلة، ورصاصية، ترتفع مدخنتها النحيلة في فضاء الديوان مستقيمة قبل ان تنعطف الى مخرجها من طاقة ضيقة في الجدار، فتحشرها في المخرج خرق من قماش متسخ. وتقتسم النصف الآخر من الدار المبنية، أو الثلثين، حجرات نوم وجلوس واستقبال وطعام ومؤونة مختلطة الوظائف. وتحوط الدار المبنية أرض زرع مديدة وفسيحة جنوبها، وأرض ضيقة شمالها. وحفرت في الأرض الضيقة هذه بئر جمع، تدلف ماؤها من سطح الدار. وهذا امتياز في اوائل الخمسينات المنصرمة، حين الأسطح معظمها كان لا يزال من طين وتبن وبلاّن. وإلى بعض الخضار البيتية، البندوة والبطاطا والكوسى والمقثة، كان أهل الدار يربون دجاجاً في قن ينتحي ناحية من الأرض. وغير بعيد منه قفائر نحل تطير وتطن، ويتخلل طنينها اصوات الدجاج الكثيرة الأصناف والمعاني. ونظير قن الدجاج هذا كان «برج» حمام يحاذي طرف السطح، فتتهادى الحمائم على سطحه، وعلى حزام الأحجار المقصبة والمرصوصة حول السطح.
فالدار والأرض والزرع والبئر والقن والقفير والبرج كانت كلها إمارات حياة قوية ومليئة تضج في «بيت خالي الشيخ»، أو ينبغي ان تتردد فيه ويمتلأ بها. وهذا ما حسبه الولد والقادم الجديد المتخفف من جدران الغرف القريب بعضها من بعض، ومن التصاق المباني والسقوف الواطئة، والإسفلت، وضيق الفسحات وقلتها. فحبس ركضَه بين الغرف، وصعوده الى السطح، وتنقله بين الزرع وبين الدار، تحفظُ المضيفين الأقرباء، واستقبالهم انتشاء الضيف الجديد والولد بما لا عهد له به، وأشبه البرم. فأهل البيت البارزون والمتصدرون هم نساء، ثلاث نسوة (الزوجة والأخت وكبرى البنات) متشحات بسواد فاحم، من أغطية الرأس الى الكلسات أو الجوارب السود، وبين هذه وتلك أثواب متصلة أو طواقم من تنانير وكنزات فوق قمصان، كلها من غير لون ولا ضوء. والوجوه والقسمات سمراء، داكنة السمرة. وشعر الحاجبين ورموش العينين وحدقات العيون، لا تحيد عن سواد عنيد لا توسط فيه.
ولم يعتم أن عُرف لماذا يحجر أهل الدار على أنفسهم وعلى غيرهم. ففي جهة من البيت، في الزاوية الجنوبية الغربية المطلة على حقل تبغ ينبسط أمام الشرفة الى تلال تصل يارون بمارون الراس، في الجهة هذه حجرة يحدسها الرائي كبيرة، بابها موصد على الدوام، وتنم عتمة الزجاج فوق الباب المستطيل، بإيصاد نوافذها وأبوابها الأخرى غير المرئية. وكان المرور الاضطراري، بالباب هذا، واجتياز الغرفة التي تتوسط الديوان، الى شرفة الدار، والحجرة الموصدة الأبواب والنوافذ، يثيران في معظم أهل الدار تحفظاً وانكمشاً غير خفيين. والنسوة كانت واحدتهن إذا وطئت أرض الغرفة المتوسطة في طريقها الى الشرفة أو الى الديوان، أو أخرجت من خزائنها أغطية بيضاء ثقيلة ومصبوغة بالأزرق النيلي، ومرت تالياً غير بعيد من الباب الواجم والصامت، تزفر زفرات قوية، وتنكمش قسماتها، وتظهر دكنة الوجه وتنزل كتفاها متقوستين وضعيفتين. وحين حاول الولد دفع الباب، على رغم تهيبه وبعض الخوف، رده من صادف قربه من الغرفة, أو اجتيازه إياها، رداً لا يخلو من الحرج ولا من الحدَّة. وكانت تُرى على وجوه النسوة إذا لم يكن بعيدات وحضرن المحاولة والرد، عبارة أسى عابسة ومتذمرة.
وكان رد أحد أولاد خالي، وهو أقربهم سناً مني، أن هذه حجرة نوم «خالك الشيخ» قبل موته، وهي مقفلة منذ موته قبل نحو السنة، وأشياؤه و «أغراضه» على حالها منذ رحل، ولا يدخل أحد الحجرة غير «ام عبدالكريم»، الوالدة، وأرملة «خالك الشيخ». ونزل الكلام صاعقاً على قدر كشفه ما استغلق فهمه من قبل. فالنسوة في حداد على الشيخ الميت. والدار كلها في حداد. والأسود لون الحداد. وهو ليس وحده القرينة على اللوعة والحزن المقيمين. فالحركات البطيئة والمعلقة، والاقتصاد في العبارة عن المشاعر والانفعالات، والأصوات الخفيضة، والمكالمة بالإيماء، وكثرة الظلال في أنحاء الدار، وإقفار الديوان من الناس، وانفجار الإسرار بين الوقت والوقت نحيباً أو تهدجاً وازوراراً ـ هذه كلها من أمارات الحداد. والأمارات هذه لم تكن برهاناً على قوة الالتياع الذي خلفه الراحل في نفوس أقرب الناس إليه، وفي أجسادهم وحركاتهم وسكناتهم، وحسب. فقوة الالتياع مرآة قوة الميت ونفاذ هذه القوة في الأحياء. فالميت، زوجاً وأباً وأخاً وخالاً وعماً وقريباً صديقاً وشيخاً معمماً و «عالماً» وشاعراً وناثراً (على الترتيب ربما)، هو لُحمة عالم الأحياء ومُسكتهم، ومرجعهم، والقاضي في عملهم ونظرهم. وهذه المكانة لم أكن خبرتها من قبل في مدينتي الصغيرة، ولا في بيروت في أثناء إقامتي القصيرة بها، ولم ألاحظ ان أحداً يحظى بها على رغم تفاوت المكانات ومهابة بعضها.
والحداد المقيم هذا، وعمومه الظاهر، لم يتسترا على انقسام أهل الحداد. ومدار الانقسام كان على الشيخ الراحل، وعلى أثره في الأحياء، وفي أبنائه الذكور وبكرهم على وجه الخصوص، عبدالكريم. فعبدالكريم بلغ العشرين أو شارف بلوغها، ولا يزال مصراً على دراسته الحكومية، وشهادته الرسمية و«العلمانية». ومعنى إصرار «ابن خالي» على الدراسة هو رفضه خلافة «الشيخ» والده على المشيخة، أي على اعتمار العمامة وطلب العلم الذي يمهد إليها ويسوغها. وكان عبدالكريم يبيت رغبة في دراسة علمية خالصة العلمية وحديثة، مثل الطبيعيات أو الرياضيات. وتتردد المهنة اللاحقة التي يميل قلبه إليها بين الطب النسائي والتوليد وبين الخياطة النسائية كذلك، على ما كان يجهر مبتسماً وساخراً وخالطاً الابتسام والسخرية بغنج يسرع إليه التحدي وتبدده المرارة. وعبدالكريم هذا كان وجهه وجه ممثل سينمائي. وحين أطل مونتغمري كليفت، الممثل الأميركي، في دور قس معذب، على الشاشة الكبيرة في إحدى صالات بيروت، بوجهه النحيل وجبهته العريضة وعينيه السوداوين المتقدتين والمحمومتين وإكليل شعره الفاحم والمجتمِع، بدا الشبه قوياً، وأبرز، على زعمي السري والخاص، ومن طريق توارد علامات تتولى حياة المدن ابتداعه، أبرز وجهاً من وجوه تمرد الشاب الفتي، في 1950 تقريباً، على قدره الأهلي والعائلي.
وتلية أسابيع أو أشهر بلغني، على شاكلة نثرات ونتف، خبر تمرد عبدالكريم. وهو لم يُروَ، يوماً، خبراً متصلاً ومتماسكاً، ربما استهوالاً واستعظاماً. فالشاب، منذ ولادته، منذور للمشيخة والعمامة. وهو سمي باسم جده، والد أبيه، وكان هذا شيخاً ابن شيخ. ويرقد في ضريح يتوسط حسينية البلدة. وتوفي الشيخ الجد وهو في مقتبل العمر، لم يعدُ الثلاثين إلا قليلاً. وكان والده، أي والد جد عبدالكريم شيخاً كبيراً يقوم ضريحه في حجرة صغيرة تعلوها قبة بحذاء ساحة قديمة من ساحات البلدة المتنقلة والمتنازعة بعض الشيء. وتوفي والد الجد بالسل، أي بالمرض الذي أودى بابنه من بعده، وهو في الثلاثين أو بعدها بعامين أو ثلاثة. وفجيعة الأبناء والبنات بالشيخين اللذين لحقهما اخيراً الشيخ الثالث، كانت عظيمة. فلما توفي «خالي الشيخ»، وهو الثالث على ترتيب مستقيم ومتصل، توجهت الآمال والتوقعات والرغبات الى عبدالكريم، الموقوف اسماً ونسباً و «ذكاء»، على ما رددت الألسن ولهجت، على خلافة والده. وارتأت عمته، أخت «خالي الشيخ»، «الحاجة مريم» من غير حج أو حجة، وهي إحدى النسوة الأشد سواداً في نساء السواد، ارتأت ان يتفق رفع جثمان أخيها، حين المسير به من البيت الى المسجد للصلاة عليه، وإلباس عبدالكريم العمامة. فعلى شاكلة الملوك الأوروبيين، وبعض غير الأوروبيين، المقدسين والممسوحين، حسبت أن في وسعها المعاقبة بين «مات الشيخ» و«عاش الشيخ» من غير انقطاع ولا هدأة. وتتمة هذه ان «الملك (الشيخ) لا يموت». فهو خص من العالمين بجسدين: واحد ما فانٍ يطويه فساد الموت، وآخر صوفي روحاني يبقى على الدهر، ويمر من السلف الى الخلف، ويصل النسب الملكي كله بطبيعتي المسيح (وربما الإمام العصوم والحجة المستتر والغائب).
ولم يكن هذا رأي عبدالكريم، ولا كانت هذه رغبته المبيتة والمعلنة. فلا هو أطلق لحيته أو تركها تنبت النبات الخفيف والشائك الذي ينبئ بمآل صاحبها الى حال المعمَّم. فكان حليقاً، متألق الحلاقة ونعومة الخدين والذقن من غير انقطاع ولا تراخ. ولا هو جز شعر رأسه. فكان أسود كثاً وعالياً على جهتي فرق مستقيم وواضح يميل الى يسار الرأس. وأظن انه كان يخلطه بالبريانطين، فيلمع سواده، وتعبق رائحته المعطرة. ولا شحب وجهه، على ما كان يرى من وجوه امثاله المفترضين. ولا خبا التماع النظرات وبرقهما في الحدقتين السوداوين وسط عينين ضيقتين بعض الضيق وغائرتين. فكانت عيناه متحفزتين، ويطل عبدالكريم بقضه وقضيضه منهما ويُقبل على من ينظر إليه، غير متهيب ولا وقح. فإذا توجه بالكلام أو أجاب، كشف عن صفي أسنان ناصعة العاج، لا تنقصهما سن واحدة، ولم يكسها التبغ بالاصفرار فلوَّن أطراف الأسنان بأسود دقيق ورقيق زادها بياضاً والتماعاً. وعلى خلاف أصوات امه وعمته وبعض أخواته، كان الصوت متقارب الأحرف والمقاطع والكلمات، سريعاً وفرحاً على رغم عمقه. فلا يمطه البطء ولا يسلمه الى خفض مخنوق، ما خلا في أوقات التعب والإعياء. فيشبه إذ ذاك عبدالكريم اهله شبهاً قوياً.
فلم يثن هذا، على بيانه، العمة والأخت الثكلى، والواقفة همتها وجدَّها ولسانها وحنقها على دوام «العلم» في الصِّلب الذي تتحدر منه، وتحرس دوامه، لم يثنها عن تبييتها العزم على إلباس ابن أخيها المسجى على فراشه الأخير، العمامة، وتتويجه بها بينما يرفع جثمان الميت، ويحمل الى مدفنه. فلا يخلو البيت لحظة واحدة من تاج العلم، على نحو ما ينبغي ألا تخلو الأرض من حجةٍ إغماضةَ عين، وإلا ساخت، على قول المعصومين. فلما همَّ الحمالون برفع المحمل، والرجال المشيعون حوله مكتظون، وعلت الأصوات والحناجر المتهدجة بالتكبير والتفجع على الأئمة، وعلى من يرجى استقبالهم إياه بجوارهم العظيم والمؤاسي، خرجت مريم «بنت خالي الشيخ» من حيث لم ينتبه أحد، وشقت طريقها في وسط الرجال المشيعين الى المحمل، حاملة بيديها المرفوعتين فوق هامتها السوداء الفاحمة عمامة بيضاء صغيرة ومكورة حطتها بيد آمرة على رأس عبدالكريم. ولم يرضَ عبدالكريم يوماً، على ما أعلم، رواية ما حدث. فكان إذا سئل ـ وهو سئل مرات كثيرة من بعد وأنا لم أسأله على رغم ان السؤال هذا لم يفارق شفتي في اثناء عشرات المرات التي رأيته فيها، وكان آخرها بعد أكثر من خمسين سنة على الحادثة، وأخبرني انه مسافر في اليومين القادمين الى الولايات المتحدة حيث يقيم ولداه وعائلتيهما ويعملان، وهو يتردد الى هناك ويقيم بعض السنة أو أكثر ويعود ـ كان إذا سئل يبتسم ابتسامته الحارة والقريبة، ويوجز الخبر في جملة واحدة وسريعة، وفي معنى لا يشك أحد فيه، ومؤداه طبعاً انه رفض. وبعض من كانوا غير بعيد منه، ومن جثمان الشيخ ونعشه، مثل احد التوأمين اللذين يصغرانه بسنتين أو بثلاث، سمعتهما يقولان، تلية فوق السنة، والحق ان من كان يبدو بكر التوأمين هو من قال انه لم ينتبه لا إلى عمته وحركتها الخاطفة، ولا إلى أخيه بقربه. فلم ينتبه إلا الى هرج وتدافع حول جثمان أبيه، ورأى عبدالكريم يتلوى، وسمع انيناً مكتوماً وطويلاً يخرج من عمته، على خلاف هياج جسمها، أجابته في اللحظة نفسها صيحة جافة وقاطعة ندت من عبدالكريم. وطارت العمامة البيضاء الصغيرة فوق رؤوس المشيعين المتحلقين في دائرة قريبة حول النعش. وبينما كانت العمامة تحط، وهي لم تبق عمامة وانبسطت حزاماً أو شالاً، تعالى نحيب النساء في الحجرات الجانبية وبكاؤهن. وناحت ام عبدالكريم وزهرة، بكر البنات والأسرة. وغلبت نواحَهما، ونواح من لحقن بهما من القريبات، ولولةٌ ملتاعة رتيبة وطويلة علا بها بكاء مريم الصغيرة، ثالثة البنات الأربع والمسماة باسم عمتها. ومريم الصغيرة صريعة، أي مريضة بداء الصرع. وكلامها وبكاؤها وانتحابها واحد. فشاركت أمها وأختها والأخريات نواحهن. وانطفأ العويل، وعاد بكاء كثيراً، وهمهمة عالية ومتموجة. واستعاد الرجال سمتاً لم يغادره أو يخرج منه معظمهم. ورفع المحمل. وسار المشيعون وراءه، وفيهم عبدالكريم.
وأقامت العمة وابن اخيها البكر على جفائهما أعواماً. ودرس عبدالكريم البكالوريا الأولى وحازها. ولم يحز الثانية. ودخل التعليم الابتدائي الرسمي وكيل معلم. وترك التدريس بعد أربعة أعوام أو خمسة. وراح الى بيروت. وفي منطقة المزرعة، على خط الترامواي، فتح محل خياطة نسائية. ولحق به إخوته الثلاثة، ولحقت بالأربعة زهرة وليلى ونزيهة. واستأجروا كلهم بيتاً ببرج حمود. ودرست نزيهة، صغرى الأخوات وجميلتهن، الى ان بلغت السنة الثانوية الثانية. وسافر أخوان من الثلاثة الى ألمانيا، وعادا مهندسين ميكانيكيين وصناعيين. وسافر صغير التوأمين الى افريقيا في تجارة. وطويت قصة عبدالكريم بعد أعوام قليلة. وحين فاتحتُ الشيخ جدي في الأثناء، برغبتي في السفر الى النجف، وطلب العلم و«لبس» العمامة مثله، مال عليّ، ونظر من وراء نظارتيه نظرة حانية ومشفقة، وقال: «بعد بكير! خذ (شهادة) الفلسفة أولاً، وفكر، هم ليسوا في حاجة الى أمثالهم». ونُسيت قصة عبدالكريم، وانقطع «العلماء» المعممون في عائلة توارثتهم قروناً، ما عدا قلة. وهذه القلة ليست من أصلاب المعممين السابقين ولا من البلدة الكبيرة.
وعلى هذا، ألقى علي ابن «خالي الشيخ» غير متعمد ولا مبال، درساً أول في أهواء «أهل المدن» على ما كان أهل البلدة، والقرى حولها، يقولون. والدرس هذا كان عريضاً أو ملماً بتفاصيل ودقائق كثيرة. فتناول الانقطاع من الوراثة، أهلاً ومهنة، والقيامَ بالنفس والميل معها، والإنكار على الغير تقديم رأيهم على رأي الواحد في عمله ورغباته وإقامته وسمته ولباسه. وتناول الدرس جواز ابتداء ما لم يسبق أحد من «الآباء» إليه، والإقبالَ على التجريب والاختبار ولو أديا الى خلط الذكورة بالأنوثة، وطلبَ السفر والانتقال والخروج من ديار الأهل من غير صحبة مقيدة، واحتمال العزلة واللائمة، والسعي في رأي متماسك فلا يقتصر على وجه واحد من وجوه الابتداء والتجديد، والإسفارَ عن الحال واختلاطها وألوانها ووجهها المسرحي وترك التكتم والمنافحة عن الرأي. وإذا جُمعت هذه معاً، وقُرن بعضها ببعضها الآخر، جاز إيجازها بباب مشترك, أو سيرورة مشتركة هي سيرورة الانتقال من سكون «الطبائع» المفترض الى تبدل الأوقات والأزمان التاريخية والاجتماعية وتقلبها.
ولا أزعم ان هذا كله أراده قريبي الشاب اليافع، وقصده متعمداً ومدركاً ما يترتب عليه ـ وهو المقيم ببلدة كثيرة السكان، ومحطة تجارية، وبها مدرستان حكوميتان واحدة للذكور وثانية للإناث، منذ أكثر من عقدين. والحق ان قوة المثل الرائد، وجلاء سماته وقسماته، لا يزالان يبعثان دهشتي وعجبي الى اليوم، ويستغلق علي فهم المثل هذا وظهوره بالموضع، أي بالشخص، الذي ظهر به، وعلى القوة والجلاء اللذين ظهر بهما. فـ «العوامل» التي قد أحصيها، اليوم، وأحمل عليها «حركة» عبدالكريم، و«خروجه» الهادئ والمطمئن والثابت على عمته وأهله وتراثهم وتقاليدهم. تبدو هزيلة. وهزالها يقارن بتعليل اجتماعي يسلط على عمل فني مجدد، أو تعليل عقلاني ومستقيم يتصدى لظاهرة نفسية معقدة وتصبغ بصبغتها مجرى حياة أو سيرة حياة. وأحسب ان الوجه هذا، «الفني» المسرحي والروائي، من سيرة المدن الاجتماعية وسير أهلها، ليس ثانوياً. وترتب استدعاؤه الأهواءَ، وتقديمه إياها على الأدوار التي يتناولها وصف اجتماعي وإحصائي تقليدي (حين يتاح مثل هذا الوصف، وهو أتيح في تناول مسألة سن الزواج في الفصل الذي يتناول الطلاق، وأتيح مرة أخرى في تبويب مستويات أحياء بيروت الاجتماعية في الفصل الذي يتناول بعض مساجدها) ترتب الاستدعاء والتقديم هذان، في فصول الكتاب، على نحو تناول المدينة وعلاقات أهلها بإقامتهم المدينية.
من كتاب يصدر عن دار النهار
نقلاً عن “المستقبل”