بمناسبة بلوغي السبعين من العُمر، يسألني كثير من طُلابي، وقرّائي، وأصدقائي عن لحظات، أو محطات فارقة في هذه الرحلة الطويلة. وضمن ما سؤلت عنه أسباب أو مُلابسات اختلافي مع أو غضب رؤساء مصر عليّ، وهو ما أدى بأحدهم، نظام جمال عبد الناصر إلى فرض الحراسة عليّ وتجميد جنسيتي، وأدى بآخرهم، نظام حسني مبارك إلى الزج بي في غياهب السجون. ورغم أنني تعرضت للإجابة على هذه التساؤلات في مناسبات متعددة، وفي مذكراتي التي تنشرها صحيفة الدستور القاهرية، إلا أنني في هذا المقال، أعيد تفكيك وتركيب الإجابة من منظور الدور الذي يلعبه المُفكر، اختياراً أو إجباراً، في مواجهة السُلطة. ولنا دراسة قديمة، ظهرت منذ أكثر من رُبع قرن، بعنوان “المُفكر والأمير: تجسير الفجوة بين المثقفين والسُلطة”، ضمن منشورات “منتدى الفكر العربي”، في عمان، والذي يرأسه سمو الأمير الحسن بن طلال، ويشغل موقع أمينه العام، الدكتور حسن نفعة.
أما المنظور الجديد الذي أختاره هذه المرة في إطلالة إلى الوراء، فهي تلك المواقف التي أحسست فيها بضرورة أن أكون “نذيراً”، حتى لو أغضب ذلك من هم في السُلطة، وحتى لو كانوا ممن أحببتهم كزُعماء، لا كرؤساء.
1ـ لحظة أولى مع عبد الناصر، ضد التعذيب، وكان ذلك مُبكراً في حياتي، في شهر أبريل 1955، ولم أكن قد تجاوزت السابعة عشر من عُمري. وكان المكان هو مبنى قيادة الثورة بالجزيرة، والذي يُجاوره الآن مبنى فندق شيراتون. وكانت المناسبة لقاء عبد الناصر بالعشرة الأوائل الفائزين في مُسابقة “فلسفة الثورة”، وهو الكتاب الذي كان الرجل قد ألّفه في العام السابق (1954) وقرر وزير التربية وقتها، السيد كمال الدين حسين، أحد زُملاء عبد الناصر من الضباط الأحرار، أن يجعله موضوعاً يتسابق حوله طُلاب المدارس الثانوية. المهم لموضوعنا، هو أنه في خريف العام السابق (أكتوبر 1954) وقعت مُحاولة اعتداء على حياة جمال عبد الناصر في ميدان المنشية بالإسكندرية. واتهم في أعقابها الإخوان المسلمين بمحاولة الاغتيال. وجرت مُداهمات وإلقاء القبض على آلاف من أعضاء الجماعة، حيث تم حبسهم والتحقيق معهم، وإحالتهم للمُحاكمة. وفي غضون ذلك قُبض على كثيرين لأدنى الشبهات، ومنهم من لا علاقة لهم بجماعة الإخوان من قريب أو بعيد، وتم تعذيبهم ببشاعة وقسوة غير مسبوقة في الحياة السياسية المصرية الحديثة إلى تاريخه. والتي أصبحت منذ ذلك الوقت هي المُمارسة المُعتادة للأجهزة الأمنية في “مصر المفروسة” وكان ضمن من قُبض عليهم ظلما، أحد زُملاء الدراسة من قريتي، واسمه عبد الحميد حسنين. وكان يكبرني بسنتين، ولم يكن متديناً بالمرة. بل وكان معروفاً عنه أنه من اللاهين العابثين، الذين يتخلفون في الدراسة. أي أنه لم يكن من الفئة التي تجنّدها جماعة الإخوان إلى صفوفها. ولأن ذلك الشاب لم يكن “إخوانياً”، فلم يكن لديه ما يعرفه أو يعترف به عن الإخوان. وكُلما أنكر ذلك، أمعن من يُحققون معه في تعذيبه، حتى فقد عقله. لذلك حينما سألني عبد الناصر عما يُمكن أن أقوله عن ثورة يوليه 1952، كانت تلك الواقعة أحد ما ذكرته، مُتمنياً أن تنأى الثورة عن مُمارسة التعذيب البغيضة. وللأمانة اهتم عبد الناصر بالواقعة. وأمر بالتحقيق فيها، وأفرج عن زميل دراستي عبد الحميد حسنين، وطيّبت السُلطات خاطره. وأدهشني أن عبد الناصر ظل متذكراً للواقعة واسم الضحية البريئة، حينما التقيته مرة ثانية وأخيرة عام 1960 بمناسبة “عيد العلم”، الذي تسلمت فيه جائزة منه، فقد سألني عن عبد الحميد حسنين، أثناء مُصافحتي، وهو يُسلمني الجائزة!
2ـ لحظة ثانية مع عبد الناصر، وإنذار ضد هزيمة قادمة على يد إسرائيل، وكان ذلك في شهر يونيه 1966، أثناء رئاستي للطلبة العرب في الولايات المتحدة وكندا. فقد كانت إسرائيل قد شرّعت في القيام بالسطو على مياه نهر الأردن، الذي ينبع من جبل الشيخ في سوريا، ويمر بأراضيها، ثم يعود إلى المرور في الآراضي الأردنية، من خلال شق قناة تستحوذ على قسط أكبر من مياه النهر، لري مساحات إضافيه خططت إسرائيل لإصلاحها واستزراعها في فلسطين المُحتلة. وقررت قمة عربية مُبكرة دعى إليها عبد الناصر نفسه مُبادرة عربية بخطة مناوئة لتحويل مجرى النهر قبل أن يدخل إسرائيل، بشق قناة توصل مُعظم مياهه إلى الأردن مُباشرة. وأسند العمل في المشروع العربي المُضاد لشركة “المقاولون العرب”، التي كانت قد اكتسبت خبرة مُماثلة من عملها في مشروع السد العالي بمصر. وخلال الأسابيع الأولى من بدء العمل في المشروع العربي لتحويل مجرى نهر الأردن، أغارت الطائرات الإسرائيلية على مواقع المشروع العربي ودمّرت كل مُعداته في دقائق. وثارت ثائرة الإعلام العربي، وثرنا نحن الطلبة العرب في الولايات المتحدة، لا فقط بسبب ما فعلته إسرائيل، ولكن أيضاً بسبب التخاذل العربي في حماية مواقع العمل في مشروع تحويل مجرى نهر الأردن. وأصدرنا بياناً شديد اللهجة اتهمنا فيه الأنظمة العربية جميعاً بالتخاذل، حيث لم تطلق رصاصة واحدة على الطائرات الإسرائيلية المغيرة. وحذّر بيان منظمة الطلبة العرب من حرب قادمة تستعد لها إسرائيل، ضد البُلدان العربية المجاورة، والتي كانت الغارة الجوية على مواقع العمل في تحويل مجرى نهر الأردن، مقدمة لها. وهو ما حدث فعلاً بعد عام واحد تماماً، أي في يونيه عام 1967، والتي ما زال العرب يدفعون فواتير هزيمتهم فيها إلى الوقت الحاضر… وكمصري أترأس منظمة الطلبة العرب وقتها، نالني عقاب خاص بسبب البيان الذي صدر عن المنظمة وهاجم كل الأنظمة العربية الحاكمة دون استثناء نظام الزعيم عبد الناصر!
3ـ لحظة أولى مع ياسر عرفات في الأردن. في مارس 1968، أي بعد حوالي تسعة شهور بعد هزيمة يونيه 1967، التي صدمت جيلنا صدمة هائلة، وقعت معركة بين قوة إسرائيلية مُدرعة ومجموعة مغمورة من الفدائيين الفلسطنيين من منظمة جديدة كانت تطلق على نفسها اسم منظمة التحرير الفسلطينية (فتح). وأبلت تلك المجموعة بلاء حسناً، اضطرت معه القوة المُدرعة الإسرائيلية إلى الانسحاب بعد تدمير عدد من آلياتها وسقوط عدد من القتلى وعدد أكبر من الجرحى الإسرائيليين، وعُرفت هذه المعركة باسم معركة “الكرامة”، التي جاءت وقتها برداً وسلاماً على الجماهير العربية المُحبطة، والتي كانت في أمسّ الحاجة إلى ما يُعيد إليها أي أمل في قدرة العرب على الصمود والمقاومة. وتحمّست أنا وعشرات الشباب العربي من غير الفلسطينيين للتطوع والانخراط في صفوف المقاومة الفلسطينية، التي تعددت فصائلها خلال الأعوام الثلاثة التالية. وانضممت إلى الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين، التي كان يتزعمها الرفيق نايف حواتمة، وهو أردني، كما كان المسئول الحركي والميداني عني رفيق عراقي اسمه “أبو ليلى”. وقد شاركت في عدد مُحدد من العمليات عبر نهر الأردن ضد القوات الإسرائيلية المُحتلة. ولاحظت أن منظمة التحرير بكل فصائلها، كانت حريصة للغاية على حياة المتطوعين العرب، وإبقائهم كرموز للتضامن العربي مع المقاومة الفلسطينية. ولكني لاحظت أيضاً أن مُقاتلي منظمة التحرير، كانوا يتصرفون بزهو شديد، ثم بغرور، ثم بشيء من الصلف نحو المدنيين والعسكريين الأردنيين… وكانت المقاومة الفلسطينية مع ذلك الوقت (1970) قد أصبحت مثل “البقرة المقدسة”، التي لا يجرؤ أحد على المساس بها أو انتقادها علناً. ولكني رأيت من واجبي أن أنبّه في رسالة مكتوبة، سلّمتها لياسر عرفات في أحد جولاته التفقدية بمعسكري قرب مدينة أربد، من مغبة السلوكيات الخشنة من مُقاتلي المقاومة نحو أبناء الشعب الأردني، الذي كنا جميعاً نقيم على أراضيه. وبعد هذا التحذير بعدة شهور، تدهورت الأمور فعلاً بين المقاومة والنظام الأردني، وانفجر قتال خلال شهر سبتمبر، عُرف باسم “أيلول الأسود”، والذي انتهى بإجبار كل فصائل المقاومة على مُغادرة الآراضي الأردنية، ومعها المتطوعين العرب، وكنت ضمنهم.
4ـ لحظة تحذير ثانية مع ياسر عرفات في لبنان. رغم أخطاء المقاومة الفلسطينية التي جرّت عليها أوخم العواقب في الأردن، فإنني بقيت وفياً لقضيتها النبيلة التي هي قضية العرب أجمعين. فعدت متطوعاً إلى صفوفها عامي 1972 و1973 في بيروت والجنوب اللبناني. وراعني أن نفس السلوكيات المموجة للمقاومة في الأردن تتكرر في لبنان. وتوجست شراً حينما بدأت أسمع همس أبناء بعض الطوائف اللبنانية، وخاصة حينما تحوّلت إلى كلمات صريحة حول “الغُرباء”. وكانت علاقتي بياسر عرفات قد توطدت أكثر بمرور الوقت. وصارحته بهواجسي في صيف 1973. ولكنه ابتسم وطمأنني أن “مسلمي لبنان يحمون المقاومة بفلزات القلوب”! ولكن بعد سنتين من هذا الحديث انفجرت حرب أهلية طاحنة في لبنان، كان الفلسطينون أحد أسبابها، وطرف من أطرافها المتعددة، والتي انتهت بدورهما بإجبار فصائل المقاومة على مُغادرة لبنان، واللجوء إلى تونس. وتمر الأيام، ويذهب وفد مصري من لجنة التضامن المصرية مع المقاومة الفلسطينية إلى تونس. وكنت ضمن أعضاء ذلك الوفد. والتقينا بياسر عرفات لمدة ثلاث ساعات في مقر قيادته السرية، خارج العاصمة التونيسية. وقبل أن أفتح فمي، عاجلني ياسر عرفات أمام الوفد المصري، بأن أدخر نصائحي، فقد تعلمت المقاومة من درسي الأردن ولبنان، ثم قال بالعامية المصرية، التي يُجيدها تماماً من سنوات دراسته في كُلية الهندسة بجامعة القاهرة، “الثالثة تابتة يا دكتور، فلا تقلق علينا هذه المرة في تونس”. وسألني وقتها أحد أعضاء الوفد، وهو أحمد حمروش، ماذا كان أبو عمّار (ياسر عرفات) يقصد بذلك؟ فقلت له أنها قصة طويلة، سأحكيها له فيما بعد… وانشغلنا في أشياء أخرى، ونسيت أن أحكي له خلفية تلك الملاحظة. ولكن هاهي القصة أحكيها بعد سنوات طويلة!
ولحديث ذكريات السبعين بواقي عديدة. فإلى لقاء آخر إن كان في العُمر بقية.
semibrahim@gmail.com