من بغداد الى صيدا في جنوب لبنان، هناك حرب على المدن العربية ذات الأكثرية السنّية. المطلوب تدمير هذه المدن او محاصرتها، كما حال بيروت ودمشق الآن، كي لا تقوم لها قيامة. يحصل ذلك فيما العالم يتفرّج على المأساة الأكبر في القرن الحادي والعشرين، مأساة حلب التي ازيل قسم منها من الوجود. لم يوفر الطيران الروسي مستشفى او مدرسة. كلّ شيء مباح من اجل الانتهاء من المدن السورية والعراقية واللبنانية.
حكم حافظ الأسد سوريا طوال ثلاثين عاما، بين 1970 و 2000، معتمدا على تغيير احدثه في طبيعة التركيبة الاجتماعية للبلد بدءا بتهميش سنّة المدن الكبرى والاعتماد على سنّة الأرياف. مهّد للوصول الى الانفراد بالسلطة بالمشاركة في انقلاب الثالث والعشرين من شباط ـ فبراير 1966 الذي كان بدوره انقلابا على الانقلاب الذي حصل في ذلك اليوم المشؤوم، أي الثامن من آذار ـ مارس 1963 عندما تولّى حزب البعث السلطة قاطعا الطريق امام المحاولة الجدية الوحيدة لاعادة الحياة الى سوريا. تمثلت تلك المحاولة بالانتهاء من الوحدة مع مصر في خريف العام 1961 بعدما تحول النظام الى مجرد نظام امني يتحكّم به عبد الحميد السرّاج.
في خلال مسيرته الطويلة، التي كان توليه وزارة الدفاع خلالها في العام 1966، محطة أساسية من محطاتها، عمل حافظ الأسد على تغيير قوانين اللعبة في سوريا بدءا بالتخلص شيئا فشيئا من النفوذ السياسي والمالي والعسكري لسنّة المدن الكبرى، وهي دمشق وحمص وحماة وحلب وحتّى اللاذقية التي انتقل كبار رجال الاعمال فيها الى لبنان وبلدان أخرى للعمل في مجال المصارف والبناء والصناعة والتجارة.
كان همّه مركزا في البداية على استبعاد الضباط السنّة الذين صار دورهم هامشيا في الجيش والأجهزة الأمنية، فيما عمل شيئا فشيئا على احاطة المدن السنّية بجيوب علوية لتأكيد وجود مراقبة دائمة على هذه المدن. نقل العلويين من جبالهم الى المدن الكبرى كي يكونوا عسكريين وعناصر في الأجهزة الأمنية في رتب مختلفة ويصبحوا حرّاسا للنظام فيها.
كان همّ حافظ الأسد حصر السلطة المطلقة بيده. كان كلّ شيء لديه مدروسا بدقّة، بما في ذلك العلاقة مع إسرائيل ثم مع ايران التي استعان بها لابتزاز العرب، فيما استعانت به لتحقيق اختراق في لبنان والعراق. استطاع الأسد الأب الاستفادة الى ابعد حدود من حرب تشرين الاول – أكتوبر 1973 في سياق بحثه عن شرعية لنظامه. لم يوظف تلك الحرب من اجل استعادة الجولان. على العكس من ذلك، وضع الأسس لعلاقة مع إسرائيل تقوم على إبقاء هذه الجبهة هادئة منذ التوصل الى اتفاق فك الاشتباك في العام 1974. شمل ذلك إبقاء جبهة جنوب لبنان مفتوحة، ان عبر المقاتلين الفلسطينيين حتّى العام 1982 او عبر “حزب الله” بعد ذلك، من اجل خدمة اهداف محددة لدى الجانبين.
بقي الهدف الدائم لحافظ الأسد تطويق المدن السنّية الكبرى من جهة وتفريغها من أي قيادات سياسية او رجال اعمال لا يعملون لديه من جهة اخرى. وعندما كان يعجز عن ذلك، كان يلجأ الى التهديد. نجح التهديد في دمشق وحمص واللاذقية، فيما فشل في حلب وحماة حيث لجأ الى القمع لتلقين المدينتين دروسا. تظل مجزرة حماة للعام 1982 احد ابرز النماذج التي تعبّر عن الحقد الذي كان يختزنه حافظ الأسد لكل ما يرمز الى المدينة السنّية بالمفهوم العام للعبارة. يشمل هذا المفهوم بالطبع الفكر السياسي والاقتصادي والحضاري القائم على التنوع والانفتاح والليبيرالية. استعاض عن هذا الفكر بفكر حلف الاقلّيات، وهو قائم على استغلال سنّة الأرياف وتكتيل الاقلّيات، خصوصا المسيحيين والدروز خلف العلويين الذين سيطروا على كلّ ما له علاقة بالسياسة والاقتصاد ومرافق الدولة… والتهريب. لم يعد مسموحا بقيام مؤسسة تجارية ناجحة من دون حماية من ضابط علوي.
كان الانفجار الكبير في العام 2011 دليلا على ان المدن السنّية لم تمت وان الحلف الذي أقامه حافظ الأسد مع سنّة الأرياف لم يعد قائما. من يحتاج الى دليل على ذلك، يستطيع العودة الى الاحداث التي توالت منذ اليوم الاوّل لاندلاع الثورة الشعبية في سوريا. انطلقت هذه الثورة من دمشق ودرعا في الوقت ذاته. أي من مكانين كان النظام يعتقد انّه دجن اهلهما او استمالهم عن طريق المناصب كما حال مع اهل درعا الذين نظر اليهم دائما من زاوية انّهم من أبناء الريف.
يبدو واضحا الآن في ضوء ما تشهده حلب ان القرار الذي اتخذه النظام بمشاركة أولياء نعمته في موسكو وطهران يقضي بتدمير المدن السنّية الكبرى وتهجير اهاليها. يعطي ما حدث في داريا القريبة من دمشق أخيرا فكرة عمّا يدور في ذهن الأسد الابن والفريق المحيط به الذي لم يعد مقبولا في سوريا. هناك خيار واحد امام السوريين من اهل المدن الكبرى. يتمثل هذا الخيار بالاستسلام بعد تدمير المدينة ومن ثمّ الهجرة منها. على اهل حلب مغادرة حلب مثلما غادر اهل داريا وقبلهم عدد كبير من اهل حمص وحماة مدينته.
المؤسف ان شريك بشّار الأسد في هذا المشروع، الذي يندرج في سياق المشروع التوسّعي الايراني، هو فلاديمير بوتين. مفهوم ان ايران تسعى الى التخلص من أي مدينة سنّية او مختلطة. ما فعلته في بغداد يعطي فكرة عن مخططها. لم يعد لبغداد علاقة بتلك المدينة التي لا تفريق فيها بين سنّي وشيعي ومسيحي، بين كردي وعربي وتركماني. ما تفعله الآن ايران معتمدة، مثلها مثل رئيس النظام السوري، على سلاح الجو الروسي يعطي فكرة عن الطلوب سوريا. مطلوب باختصار الانتهاء من المدن في غياب القدرة على السيطرة عليها وتدجينها. انّه الحل الجذري او النهائي الذي نادى به هتلر في تعاطيه مع الأقليات فارتكب كلّ أنواع المجازر وعمليات الإبادة، لعلّ ذلك ينقذه من المصير المحتوم.
لن يستطيع بشار الأسد، مهما فعل، معتمدا على ايران وروسيا الانتصار على شعبه وتسوية المدن السورية بالأرض. لن يستطيع تهجير كلّ اهل السنّة من سوريا وارتكاب ما يرتكبه في دمشق ومحيطها وعلى طول الحدود مع لبنان في كلّ سوريا. يستفيد حتما من إدارة أميركية تبيّن انها شريك في “المحرقة” التي يتعرّض لها السوريون. كذلك يستفيد من التراجع في الموقف التركي، وهو تراجع يطرح علامات استفهام كثيرة من بينها الى أي حدّ تغيّرت تركيا في الأشهر القليلة الماضية، خصوصا منذ حلول بن علي يلدرم في موقع رئيس الوزراء خلفا لاحمد داود اوغلو.
لا يمكن للمشروع الايراني الذي يستهدف المدن العربية الانتصار، مهما بلغت درجة تواطؤ بشّار الأسد ومهما ذهب فلاديمير بوتين في وحشيته، ومهما كان هناك دعم إسرائيلي اهذا المشروع. هناك واقع على الأرض لا يمكن تغييره. هناك منطق للتاريخ لا يمكن تجاوزه. من كان يعتقد ان حماة ستنتفض مجددا بعد كلّ ما حلّ بها؟ اكثر من ذلك، اين هتلر ومشروعه القائم على “الحلّ النهائي” اين الاتحاد السوفياتي الذي كان يعتقد انّه قادر على احتلال العالم والسيطرة عليه؟