إتخذ مجلس الشيوخ الأمريكي قراراً غير ملزم للحكومة الأمريكية وبأغلبية الأصوات ينص على تحويل العراق الى فدراليات أثنية وطائفية، بما يعني إقراراً بالضعضعة التي يعاني منها الكيان العراقي والمواطنة العراقية في الوقت الراهن والتي وضعت العراق على حافة المجهول. ولا يمكننا أن نضع هذا القرار إلاّ في إطار دائرة تخبط وجهل أطراف في الولايات المتحدة سواء الحاكمة منها أو المعارضة في معالجة الوضع الشائك في العراق عموماً، ومنذ دخول القوات الأمريكية وإستكمال غزوها للعراق في نيسان عام 2003 على وجه الخصوص. فهذه الإدارة أو المؤسسات الأمريكية، عوضاً عن وضع الدواء لمعالجة الداء العراقي، فقد أضاعت الفرصة تلو الفرصة في معالجة الوضع الخطير الذي نشأ بعد إنهيار النظام السابق، وتتخذ إحراءات متسرعة تصب الزيت في لهيب العراق، مما يوفر فرصة ذهبية لكل أعداء العراق للعبث بمصيره وشل إرادة أبنائه ووضعه على حافة خطيرة كتلك التي يعيشها الآن.
بالطبع لا ينبغي أن نبالغ كثيراً في هذا القرار، فهي تبقى ورقة بائسة لا مستقبل لها شأنها شأن العديد من المواقف والأوراق التي يلعب بها الحزب الديمقراطي وهو يخوض الآن معركة الإنتخابات الرئاسية القادمة. وأعتقد أنه من غير الضروري الحديث عن هذا القرار بأكثر مما يستحق، وعدم إثارة الضجيج وذرف دموع التماسيح عليه ووضع إستنتاجات غير واقعية حوله. إن الولايات المتحدة وحلفائها، وطبقاً للقرارات الدولية ملزمة بالحفاظ على وحدة العراق وعلى إستتباب الأمن فيه وإعادة إعماره، وهذا ما تؤكد عليه الإدارة الحالية للولايات المتحدة وحلفاؤها، بل وسوف تؤكد عليه الإدارة الأمريكية اللاحقة في حالة فوز الحزب الديمقراطي في الإنتخابات القادمة. إنه إلتزام دولي لا يمكن للولايات المتحدة التنصل منه أو التلاعب به لأنه يرتبط أيضاً بمصلحة الولايات المتحدة والأمن في المنطقة ومشكلة مواجهة الإرهاب الدولي الخطيرة.
ماذا وراء الإدانة
إن التحليلات السياسية والعقل السياسي بشكل عام في بلداننا تجنح في الغالب الى تحميل مسؤولية كل الأحداث الخطيرة و الإخفاقات التي تعاني منها شعوبنا بالدرجة الأولى إلى طرف خارجي دون تبيان دور أطراف محلية وإقليمية الى ما آلت إليه الأوضاع في بلداننا ومنها الحالة العراقية الخطيرة الراهنة. هناك أمراض خطيرة تعاني منها مجتمعاتنا جراء ممارسات فظيعة إرتكبتها قوى محلية قادت هذه البلدان، ومنها العراق، الى نفق مظلم مشبع بالضحايا الهائلة وبدمار إجتماعي وثقافي وروحي لا حدود له. نعم يمكننا أن نشير الى دور أطراف دولية قد ساهمت في جر بلداننا الى هذا النفق. و لكن ما كان للأطراف الخارجية أن تلعب هذا الدور دون وجود أيادي وفئات إجتماعية لها مصلحة ولها اليد الطولى في هذا التدهور وهذا التراجع الخطير في العقل والمنطق، وخاصة ذلك الذي يتم بواجهات دينية وطائفية ومذهبية متطرفة لا تعرف لغة الرحمة والبناء، بل لغة واحدة هي لغة التكفير والسيف والقتل والتدمير والولاء لجهات خارجية طائفية.
وللأسف يتجاهل الكثير من المحللين والأحزاب السياسية هذا الواقع المرير، ويلقي تبعة كل هذا الوضع المرير على عاتق الولايات المتحدة وحلفائها وأخطائهم فقط في مسعى للتستر على المسببين الحقيقيين عن ما آل إليه الوضع في العراق وعموم بلدان العالم العربي والإسلامي. فالتشظي والإنقسام يعم كل مجتمعات بلدان العالم العربي والإسلامي بدون إستثناء بغض النظر عن دور الولايات المتحدة أو إسرائيل. والسبب يعود الى أن جميع بلداننا تعاني من حكومات عاجزة عن حل مشاكل المجتمع وقائمة على الإستبداد والتجهيل، وتتبنى عقلية التمييز العرقي والطائفي المتخلفة وتلهث وراء دولة النقاء العرقي والطائفي، ولا تؤمن بالديمقراطية والعقل وتتجاهل واقع هذه المجتمعات. وهذا ما يشكل أفضل أرضية للتقسيم. ففي السودان ولبنان والباكستان وإيران وغيرها من بلداننا المنكوبة بالقهر والإستبداد والتمييز، لا يوجد جنود أمريكان ولكنها تعاني من تشظي وإنقسامات خطيرة لها صلة بطبيعة النظام السياسي والعقلية السائدة وسلوك الحركات السياسية وتجّبر الحكام.
وفي هذا الإطار ينبغي النظر إلى ما يثيره البعض الآن من ضجيج ويذرف دموع التماسيح وإصدار بيانات عالية الصوت والسباق على الإدانة لقرار مجلس الشيوخ الأمريكي حول تشكيل فدرالية عجيبة لا يمكن تطبيقها في العراق، وهم على حق في هذا الجانب. ولكنهم على غير حق عندما لا يراجع البعض نفسه ويحدد أسباب هذا التشظي، ولا يوجه أصابع الإتهام إلى أطراف عراقية وإقليمية، حكاماً أو حركات سياسية، تتسابق على الإدانة وهي التي وفرت كل الأجواء لهذا التدخل الفظ في أمورنا الداخلية، مما شجع “الشيوخ” الأمريكان على ممارسته. ومن هنا تُلقى ضلال من الشكوك حول مصداقية هذه البيانات والإدانات والبكائيات وحقيقة أهدافها.
عودة تاريخية
لو عدنا الى تاريخنا العراقي القريب- الحديث وبعد إنشاء الدولة العراقية الجديدة، نرى أن المتنفذين في الدولة الفتية، اختطوا منذ البداية نهجاً هو إمتداد للتراث العثماني البائس ونسخة عروبية منه، لا يكرس الهوية الوطنية العراقية وهوية الدولة الجديدة، بل يكرس الإنقسام على أساس الهوية الطائفية والعرقية. وليس من قبيل الصدفة أن يقر بذلك حتى الرجل الأول في الدولة وهو المرحوم الملك فيصل الأول حين قال:”إن الضرائب على الشيعي والموت على الشيعي والمناصب للسني”. بالطبع إن هذا الواقع لا يعني بأي حال من الأحول عدم وجود تيار إجتماعي عراقي متنور واسع ينمو خاصة في المدن ، وسعى الى بناء دولة عصرية قائمة على الهوية الوطنية الواحدة التي يتساوى فيها جميع المواطنين بغض النظر عن دينهم ومذهبهم وعرقهم.
كما كان هذا التيار، وعلى رأسه طيب الذكر الحاج جعفر أبو التمن، يعارض قيام حركات سياسية وأحزاب سياسية علــى أساس طائفي، بإعتبار أن ذلك يغذي نزعات الإستبداد من ناحية، ومن ناحية أخرى ينشر بذور التشظي وعدم الإستقرار والإنقسام في المجتمع العراقي الوليد. لقد عارض المرحوم الحاج جعفر أبو التمن البناء الطائفي للحركات السياسية، وتعرض جراء ذلك الى نقمة النخبة الطائفية السنية الحاكمة وأحزابها، إضافة الى نقد نخبة المتطرفين من الشيعة على حد سواء.
لقد عمل المرحوم أبـو التمن، دون أن يستعين بطرف خارجي، مع رجالات آخرين من أجل توحيد كل العراقيين على إختلاف إنحدراتهـم الطائفية والعرقية في حزب عراقي هو الحزب الوطني العراقي في مطلع العشرينيات، هذا الحزب الذي تعرض إلى الحظر قبل أن يُنفى أبو التمن الى جزيرة “هنگام” في الخليج. إن هذا التوجه بهويته الوطنية العراقية، والذي إنتشر في الشارع العراقي كان قوياً بحيث أدى الى تطويق تشكيل أحزاب طائفية. فلم يستطع حزب النهضة الشيعي الذي تأسس في أواخر العشرينيات من القرن الماضي من رموز شيعية بزعامة المرحوم أمين الجرجفجي الإستمرار في نشاطه على أساس طائفي. كما لم يتسن في سنوات لاحقة إنتشار أحزاب طائفية وإستمرارها كحزب التحرير والأخوان المسلمين اللذان تأسسا في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي.
تيار وطني عراقي
وحقق التيار السياسي الوطني العراقي إنجازات حقيقية في ترسيخ الهوية الوطنية العراقية وتطويق التيارات الطائفية والعشائرية والمناطقية في العمل السياسي رغم بقاء السياسة الرسمية للحكم قائمة على التمييز الطائفي والعرقي. فقد كانت غالبية أحزاب المعارضة تعمل على تكريس الهوية العراقية والعمل الوطني وحققت إنجازات هامة على طريق تشذيب السياسة والثقافة والتقاليد في العراق من سلبيات الفكر الطائفي المُقسِم للنسيج العراقي والمُعرقل لأية حداثة وتنوير وإستقرار في المجتمع. وكانت ثورة تموز عام 1958 خير إنجاز لجهود هذا التيار الذي صَلُب عوده، وأصبح أداة هامة على طريق بناء دولة عراقية عصرية بعيدة كل البعد عن كل ما يمزق النسيج العراقي الفتي من ثقافات ومفاهيم وعادات بالية. وكانت أولى خطوات العهد الجديد هي معالجة قضية تكريس الهوية الوطنية العراقية عن طريق البدء بإزالة التراث المشين للتمييز الطائفي والعرقي الذي ورثناه عن البناء العثماني والملكي عن طريق فتح أبواب المؤسسات العراقية، وخاصة القوات المسلحة والإدارات الحساسة، أمام كل العراقيين وحسب الكفاءة وعدم إقتصارها على نخبة من طائفة دون غيرها. كما عمد العهد الجديد على إتخاذ أولى الخطوات لمعالجة المشكلة القومية الكردية بهدف ترميم ما ألحق من ضرر بمبدأ الهوية العراقية عن طريق العفو عن قادة الحركة القومية الكردية، ثم النص في التشريع الجديد للدستور العراقي المؤقت على الشراكة في الوطن لكل ممثلي القوميات في العراق.
عقبات أمام تشكيل الوحدة العراقية
بالطبع واجه هذا النهج، وهو لم يتجذر بعد، معارضة شرسة من قبل أطراف عراقية وإقليمية ودولية، هدفها وقف تشكيل هوية عراقية متماسكة ودولة عراقية ديمقراطية غير طائفية وغير عرقية ذات أركان مستقرة. لقد عارضت أطراف عراقية طائفية من كلتا الطائفتين هذا النهج لأنه يزعزع أركان الولاء الطائفي والعشائري والمناطقي والعرقي لها، ويبدد سلطتها ومكانتها ومصادر تمويلها. لذا عارضت هذه الأطراف أي نهج يسعى الى ولاء وطني عراقي للأمة العراقية الحديثة الولادة. وهكذا شهدنا ربما لأول مرة إتفاق أطراف مذهبية متطرفة من كلتا الطائفتين على معارضة الحكم الوطني، وهي التي لم تتفق على شئ طوال عمرها، ولم تتفق الى الآن حتى على أمر بسيط مثل تحديد يوم رؤية الهلال كي يحتفل العراقيون في يوم واحد بقيام شهر رمضان أو الإحتفال بعيد الفطر أوالأضحى. فالعطب يصيب أبصار هؤلاء، ولا يرون الهلال في وقت واحد. فالطائفية عندنا تحولت الى “بزنس” عوضاً عن أن تكون مظهر إيمان أو قناعة مذهبية. ومن أجل لجم مساعي تكريس الوحدة العراقية شرع المتطرفون بإنشاء غيتوات ومناطق مقفلة شُرّد منها أنصار الهوية العراقية الوطنية وتمت ملاحقتهم وقتلهم بحجج مختلفة. وهكذا تمت السيطرة على عدد من المدن والقصبات مثل الرمادي وسامراء أو العصيان المسلح كما حصل في الموصل، بل وحتى أحياء في بغداد، ورفع الشعار سئ الصيت “لا شيوعية ولا شيعية ولا شرگاوية ولا شعوبية”، تماماً كما يفعل أخلافهم الآن من التيارات المذهبية والقومية المتطرفة من كل الألوان، ولو بشكل أشد وحشية، ورفع شعارات جديدة في ظاهرها قديمة في مضامينها.
كما إصطدم هذا النهج بالنزعة القومية الضيقة لأطراف قومية كوردية ورطت ودفعت الحركة القومية الكوردية الى أحضان جلاد الكورد الإيرانيين الشاه محمد رضا بهلوي منذ بداية الستينيات، إضافة الى التحالف مع الأغوات الكورد الذين عارضوا الإصلاحات الإجتماعية في ريف كوردستان العراق في عهد قاسم. كما لقي النهج الوطني معارضة شديدة من التيار القومي العربي المتطرف الذي طغى على الساحة في البلاد العربية آنذاك، والذي قام بكل ما يمكن القيام به لضعضعة البناء الوليد وتوجيه ضربة للوحدة العراقية المنشودة إستناداً إلى نهجه القائم على النقاء العرقي للدولة، مستخدماً إتهامات باطلة تتراوح بين الإلحاد والعداء للدين وحرق الكتب المقدسة أو العداء للوحدة العربية، وهم الذين أفسدوا كل مسعى للوحدة عند تسلطهم على الحكم، إضافة إلى إتهامات تراوحت بين الشعوبية وبين الصهيونية وغيرها من الإتهامات التي طغت على أجهزة الإعلام العربي والتي يتذكرها الجيل الذي عاصر تلك الأحداث.
إن أخطاء الحكم الوطني العراقي هي الأخرى كانت فادحة، وكذلك كانت أخطاء القوى الوطنية الديمقراطية في مواجهة المخاطر المحدقة. فهي لم تقدر حجم الإصلاحات الجذرية التي أقدمت عليها والشعارات التي رفعتها، وردود الفعل المعادية المحتملة أزاء هذه الإصلاحات التي بدأت تمس حتى الكيان السياسي المتهرئ لبعض الدول المجاورة. هذا القصور لدى القوى الوطنية وتراخيها سمح بتشكل تجمع عجيب محلي وإقليمي ودولي متناقض ولكنه موحد من أجل الإطاحة بالحكم الوطني وعرقلة ولجم مساعي العراقيين لبناء دولة حديثة ديمقراطية تتمتع بمقومات الوحدة وليس التشرذم. وهكذا إنتصر أعداء العراق والهوية العراقية في إنقلابهم في 8 شباط عام 1963 المشؤوم. لقد أدى الإنقلاب الى عدة نتائج خطيرة تصب في طريق التشرذم والتقسيم، والتي مازال المجتمع العراقي يأن من آثارها الى الآن.
إنقلاب شباط على طريق تشظي العراق
لقد فتح إنقلاب 8 شباط الباب على مصراعيه لإنتعاش تيار قومي عنصري وطائفي عشائري متخلف أخذ يطغى على الساحة السياسية العراقية بشكل متزايد، ويعرقل تبلور الهوية العراقية للدولة. كما جرى تحول خطير حتى على طبيعة بعض الأحزاب السياسية وأسس تشكيلها. فقد دخل حزب البعث، الذي كان قبل 14 تموز حزباً علمانياً يضم أطيافاً عراقية وطائفية متنوعة، إلى نفق التطرف الطائفي والعنصري والعشائري بحيث جرت تصفيات داخله بعيد الإنقلاب حولت الحزب الى تجمع طائفي عشائري ثم عائلي صرف في سنوات لاحقة. ونتيجة لسلوك عبد السلام عارف الطائفي في المجتمع ثم البعث لاحقاً، انتعشت الأحزاب الطائفية من كل الألوان، وحتى في صفوف المعارضة. فقد تقدمت الى الصدارة منذ النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي الأحزاب الطائفية نتيجة لسياسة التمييز الطائفي والعرقي للحكم. فإنتعش حزب الدعوة نتيجة هذا التمييز من ناحية، ومن ناحية أخرى بدأ الأخوان المسلمون ينشطون من جديد بدعم من الحكم في عهد عبد السلام عارف أو من قبل جهات إقليمية قدمت الدعم المالي السخي لحركة الأخوان المسلمين وفروعها في العراق. ولم يكتف الحكم بسياسة التمييز العرقي والطائفي لاحقاً في ظل حكم البعث بعد إنقلاب 1968 فحسب، بل راح ينتهج سياسة التطهير العرقي والتغيير الديموغرافي للمجتمع العراقي. وعلى هذا الطريق دشن حكم البعث ضمن خطة مدبرة أول إجراءاته بترحيل أو تصفية عشرات الآلاف من العراقيين الفيلية ورميهم خارج الحدود بحجة تبعيتهم الإيرانية. ثم أعقب ذلك تهجير أعداد مضاعفة من العراقيين من كل المدن العراقية بنفس الذريعة. وضاعف النظام البعثي من تمزيق المجتمع وتقسيمه عندما بادر الى تغيير الطابع الاثني والطائفي لمساحات واسعة في كردستان وبغداد وضواحيها وفي بعض المحافظات. وأمعن النظام البعثي في تنفيذ هذا البرنامج المدمر عندما قسّم المحافظات بعد إنتفاضة 1991 الى نوعين، محافظات “بيضاء” وأخرى “سوداء”، وتصنيف العراقيين الى “أسياد” و”عبيد”. وكال الحكم البعثي كل أنواع الإتهامات والصفات السيئة وعلى صفحات صحفه على سكنة المحافظات “السوداء” في سابقة لم يعلنها نهاراً جهاراً أي من الحكام المستبدين. وتعزز هذا التمييز الطائفي والعرقي المشين حتى وصل الى حرمان غالبية المحافظات التي أعتبرها “سوداء” من أبسط الخدمات وبرامج الإعمار والبناء والنشاط الإقتصادي ومعالجة مشاكل الفقر والحرمان. هذا النهج شكل معولاً حاسماً لتدمير الوحدة الوطنية وخطراً كامناً يلقي بظله على طريق تقسيم البلاد.
نتائج التطرف الطائفي والعرقي
هكذا ورث العراقيون من النظام السابق مجتمعاً مشوهاً هشاً متصدعاً وحياة سياسية معقدة وخالية من التقاليد السليمة، إضافة إلى كم هائل من التعقيدات الإجتماعية والإقتصادية والثقافية. ولم تفطن غالبية العراقيين إلى حجم هذا الموروث المدمر وطرق معالجته بعد أن إنهارت القبضة الحديدية القمعية للنظام بعد سقوطه في 9 نيسان عام 2003، حيث بانت جروح ودمامل المجتمع بقوة، وفاحت رائحة الأمراض والعيوب التي يعاني منها المجتمع العراقي. فالتمييز الطائفي الذي إشتد وزاد عنفاً في السنوات الأخيرة من عمر النظام، قابله تيار طائفي عنيف كرد فعل، دون أن يحسب هذا الأخير الحساب الى أن مرض التمييز الطائفي الذي ساد في السنوات السابقة لا يمكن أن يعالج بنفس الداء حتى ولو كان ذلك من قبل الطائفة المضطهدة. فالمرض الطائفي هو الإسفين والسوسة التي تنخر جسم المجتمع وتقسمه مهما كانت النوايا طيبة. وهكذا رُفعت شعارات لا تنم إلا عن معنى واحد هو المزيد من الإنقسام في المجتمع. فالمتطرفون الشيعة، الذين إستغلوا الظلم الذي وقع على أبناء الشيعة، إضافة إلى أضرار الثقافة الطائفية التكفيرية التي تعمقت أثناء “الحملة الإيمانية” لصدام حسين وإنتشار ثقافة التيار الوهابي الذي تغلغلت من الخارج وبدعم مالي ضخم من موارد النفط، رفعوا شعار هو الآخر طائفي في إنتفاضة عام 1991، والذي كان أحد أسباب فشل هذه الإنتفاضة الشعبية الجبارة. فشعار “ماكو ولي إلاّ علي ونريد حاكم جعفري” الذي رفع من قبل التيار الطائفي الشيعي المتطرف أثناء الإنتفاضة، هو شعار لايخدم وحدة العراق ولا يجمع العراقيين بقدر ما يخدم قوى داخلية وخارجية تسعى إلى تفتيت البلد. لقد كان من الضروري نبذ هذا الشعار وإستبداله بشعار عراقي وطني موحد يجلب الطمأنينة للعراقيين بكل أطيافهم، علاوة على طمأنة القوى الإقليمية والدولية التي تخشى من المد الطائفي العارم ونتائجه المدمرة على العراق وجيرانه في منطقة ملتهبة أصلاً، وهذا ما لم يحصل للأسف. قد يدغدغ هذا الشعار مشاعر من ظُلِم لعقود مديدة، ولكنه لا يؤسس لدولة موحدة ولا لنظام عادل وديمقراطي ومسالم ومستقر في البلاد. إن العراق لا يمكن أن يُؤسس ويستقر ويصبح كياناً موحداً بإستبدال حكم طائفي أو عرقي بحكم طائفي آخر مهما كان حجم هذه الطائفة أو تلك. ولعل النمط الطائفي للحكم الذي أعتمد في لبنان أو في إيران هو خير مثال عجز هذا النمط من النهج السياسي أن يحقق الإستقرار والوحدة بين أبناء الشعب. ففي لبنان إنقسم كل شئ من الطبابة الى البقالين والمحامين والتاكسيات وغيرهم وتحولت الى مؤسسات لا تخدم البشر حسب حاجتهم، بل إلى مرافق ومؤسسات طائفية لا تعالج الا الشيعة أو السنة أو المارونيين كل على إنفراد، وبذلك إنهارت أركان الوحدة الوطنية والآصرة بالوطن، حيث أخذ كل فرد يعرّف نفسه عبر الطائفة وليس عبر الوطنية اللبنانية التي أضحت في مهب الريح، وإنقسم البلد بالفعل.
عندما رفع الغطاء عن الكارثة
في التاسع من نيسان عام 2003 إنهارت دولة صدام حسين وزالت القبضة الحديدية التي توحّد البلاد شكلياً عن طريق البطش والعسف، بدلاً من توحيدهم على أساس تكافؤ الفرص والمساواة على أساس المواطنة، بغض النظر عن الدين والعرق والمنطقة. وهكذا شرع العراقيون يحصدون ما زرعه النظام السابق من بؤر تقسيمية متفجرة. فقد تصدعت الوحدة الوطنية بشكل خطير دون أن يجري البحث عن علاج لترميمها. فالأحزاب الطائفية فشلت في توحيد البلاد بفعل أيديولوجيتها ومصالحها القائمة على الإحتفاظ بقاعدة طائفية فقط دون السعي إلى الإستناد إلى قاعدة عراقية عبر برنامج عراقي إجتماعي إقتصادي يخدم كل العراقيين، وإلى خطاب وطني يخاطب كل العراقيين. ولجأت هذه الأطراف إلى إثارة مشاعر طائفية محتقنة ملتبسة لا تقود إلاّ إلى التقسيم. وراحت النخب المتطرفة من كلتا الطائفتين إلى الإستعداد لنزال دموي طائفي يروح ضحيته الناس البسطاء الذين لم يسمعوا بمفردات المتطرفين التي لم يتداولها العراقيون سابقاً كمفردة “الروافض” أو”النواصب”.
فقد بادر المتطرفون وجيوشهم الإجرامية إلى تنظيم مذابح عند أبواب بغداد وفي اليوسفية واللطيفية والمحمودية لكل من يغادرها إلى المدن المقدسة. وقامت بتدمير مراقد مقدسة للمسيحيين والصابئة والأيزديين وغيرهم. وسدت الطرق الخارجية والدولية لتتحول الى ميدان للمذابح من قبل قطاع الطرق الطائفيين. وإنتشر هذا الوباء ليتفنن فيه كل أرباب التطرف الطائفي لسفك دماء الأبرياء من كل الطوائف والأديان، وحول العراق الى غابة مخيفة يصول فيها عتاة الإجرام. وعندها أصبح الجو مناسباً لتدّخل قوى خارجية وخاصة منظمات الإرهاب الدولي ودول إقليمية كي تصطاد في المياه العكرة، وتصب الزيت أكثر فأكثر في هذا اللهيب الذي يحرق كل العراقيين ويدمر بلدهم. وإزداد هذا الإحتقان عندما عجّت البلاد بـ”كرنفالات” يسمونها مليونية لمراسيم يمكن إقامتها في دور العبادة بدلاً من التظاهر في الشوارع المحتقنة أصلاً والتي لا تتحمل مثل هذه الأفخاخ المميتة، وسط إصرار غريب من علماء دين متطرفين ينظرون ويريدون إسقاط صراعات سياسية عمرها أربعة عشر قرناً على واقع القرن الحادي والعشرين الذي يختلف بكل مكوناته عن وقائع ذلك التاريخ الغابر. إنهم يريدون أن يفرضوا على الشعب العراقي المثقل بالجراح أن يحل مشاكل سياسية مذهبية عمرها قرون عديدة لا يد له فيها ولا دور ولا مصلحة!!.
هوس طائفي ومذهبي وتسييس للدين
إن الجميع يتحدث عن الإسلام ويتفنن في إظهار تمسكه به، ولكن أحداً لا يسأل نفسه من هؤلاء المتطرفين ومن أصابهم العمى الطائفي وماذا كانت الهوية الطائفية للنبي محمد صاحب الرسالة الإسلامية؟ هل كان سنياً أم شيعياً؟ رافضياً أو من النواصب؟ إن الدين الإسلامي واحد فعلام هذه المذاهب والفرق التي وصلت إلى أكثر من 50 مذهباً وفرقة وطريقة وتعلن تدينها كلها بالإسلام ولكنها تتصارع بشكل دموي ومنذ قرون على أمور سياسية ليس لها علاقة بالدين منذ أن أغتيل ثلاثة من الخلفاء الراشدين على يد أدعياء الإسلام أيضاً. هناك خلل في العقل الديني والطائفي ينبغي حله كي يتخلص المؤمنون من هذه الدوامة المميتة التي لا نهاية لها والتي تتحول إلى كارثة عندما تنتقل إلى العامة والى الشارع الأمي. إن المغالاة في الطائفية والمذهبية والتديّن والذي تحوّل الى هوس، حوّلت شخص “دونبكچي” إلى “الإمام المهدي” في نظر العامة والبسطاء والجهلة ليقودهم إلى محرقة “الزركه” في النجف في الشهور الأخيرة، هذه المحرقة التي دبّرتها عصابة جند السماء. فهل يتعظ المتصدون للدين والعامة من هذه المهزلة الدموية.
جيوش وميليشيات وعصابات مسلحة- أرضية للتقسيم
إن هذا الإحتقان الطائفي لابد وأن يؤدي في النهاية إلى تشكيل جيوش وكتائب وفيالق غير شرعية، ويتحول رجال الدين من وعاظ رحمة وأخلاق إلى ضباط جيش وشرطة ورجال أمن. وأصبح هؤلاء يتنافسون في هذا الصراع الذي لا نهاية له والذي يروح ضحيته العراقيون البسطاء. إن عدد الجيوش والفيالق والكتائب التي تحمل بغالبيتها أسماء دينية كاذبة، ويتسلل أفرادها إلى القوات المسلحة الرسمية، هي أفضل مظهر من مظاهر السعي لتنفيذ مشروع تقسيم البلاد. وبالفعل تفرض هذه الجيوش السيطرة على مناطق معينة وتتحكم بها بل وتعلن دولتها الإسلامية التي تجلب الرعب والموت والدمار للعراقيين. فجيش أنصار السنة وكتائب ثورة العشرين وجيش محمد وجيوش أخرى مماثلة وأنصار الجهاد والتوحيد والقاعدة في بلاد الرافدين يتنافسون مع جيش المهدي وفيلق بدر، الذي حل ظاهرياً وتحول الى مؤسسة غير عسكرية، ومقاتلي حزب الفضيلة وحزب الله وغيرهم بالسيطرة على هذه المدينة أو الأضرحة أو مصادر التمويل في هذه المنطقة أو تلك و تطهيرها طائفياً أو عرقياً بل وحتى من نفس الطائفة بسبب الصراعات الداخلية داخل كل مجموعة متطرفة من كلتا الطائفتين على الغنائم. وهكذا إتسعت دائرة النزاع ليشمل النزاع بين أنصار الحوزة الناطقة والحوزة الشريفة أو بين “المرتدين” وغير ” المرتدين ” من السنة إلى جانب الحروب التي تشن على المسيحيين والأيزيديين والصائبة، في مسعى تقسيمي واضح للبلاد، وبمباركة رموز داخل العملية السياسية وخارجها. إن المتطرف الطائفي حارث الضاري الذي يصول ويجول في البلاد العربية ويُحتضن من بعض قادتها لا يخفي علاقته بتنظيم القاعدة أخيراً وعلى قناة الجزيرة حيث قال:” تبقى القاعدة هي منا ونحن منها 90 بالمائة”، دون أن يلقى الردع من الدول التي تستضيفه والتي تتعرض إلى إرهاب القاعدة. هذه التصريحات المثيرة لعراب القاعدة لم تلقى لا الإهتمام من قبل الحكومة لملاحقة هذا الشخص قانونياً ولا مِن مَن له علاقات خفية طائفية معه ويشاركون شكلياً في مؤسسات الدولة.
التدخل الأجنبي – طريق للتقسيم والفساد والجريمة المنظمة
إن تشكيل هذه الجيوش الجرارة المريبة خلافاً لأي قانون في البلاد، ومن قبل حتى من لهم نواب في البرلمان أو من يلقون الدعم من نواب في البرلمان، لا يقود إلاّ إلى حالة خطيرة واحدة وهي الإرتهان إلى الأجنبي والدول الإقليمية المحيطة بالعراق. فهذه الجيوش لا تكتب لها الحياة دون الحصول على موارد هائلة ومعدات عسكرية وساحات للتدريب بدعم من الخارج. وهو ما يجري الآن وعلى العيان. وأضحت هذه الحالة مصدراً من مصادر الثراء غير المشروع والفساد وإنتشار الجريمة المنظمة في المجتمع. كما إن هذه الحالة مصدر لحياة قوى سياسية بعينها وقدرتها على الإستمرار في العمل السياسي والسيطرة على الرأي العام أما عن طريق شراء الذمم أو الإكراه،وليس عن طريق البرامج التي تحل مشاكل البلاد. ولم تعد هذه القوى تهتم بوحدة البلاد ولا بمعالجة المشاكل الإجتماعية والإقتصادية المستعصية. كما أنها لا تفهم مغزى الهوية الوطنية والوحدة الوطنية. فقد تحولت إلى قوى تنفذ مخططات إقليمية وخارجية لا علاقة لها بمصلحة العراقيين ولا تجلب الإستقرار لهم. وبذلك فهي ترهن مصير البلاد بالجهات المانحة للمال والسلاح لهذه القوى السياسية، والتي تشارك بعضها في العملية السياسية شكلياً ولكنها تدمر هذه العملية وتضع البلاد على حافة التقسيم. وفي الحقيقة إن هذه القوى المسلحة التي لا تعود الى الدولة موجودة في إقليم كوردستان العراق أيضاً، والذي يعد موحداً من الناحية الشكلية، إلاّ أنه منقسم في واقع الأمر الى ثلاث “دويلات” خاضعة لإدارات عسكرية ومالية متفرقة وغير موحدة، وهي “دويلة” أربيل ودهوك و “دويلة” السليمانية و”دويلة حزب العمال الكردستاني التركي” الذي يسيطر على مناطق عراقية ويعرض العراق إلى مخاطر التدخل العسكري التركي دون أن يجري تدخل فعال من قبل أطراف كوردية عراقية متنفذة لوقف هذا العبث الخطير بمصير هموم العراقيين، ومن ضمنهم الكورد العراقيين أنفسهم.
لنستيقظ ونصحى
هذا هو حال العراق والعراقيين اليوم، وهو ما وصفه قرار مجلس الشيوخ الأمريكي بمظهره الفض وتدخله المرفوض في تداعيات بلادنا. نعم إن العيب فينا نحن العراقيون. وبدون أن نستيقظ من هذا السبات الطائفي، وبدون أن تتخلى الأحزاب الطائفية عن هوياتها الطائفية، وبدون أن تتقدم مصلحة العراق على مصلحة النخبة الطائفية، وبدون أن يتم التخلي عن الواجهة الدينية والعشائرية وتسييس الدين وتحويل الدين إلى بضاعة لمضاربات الغوغاء في الشوارع، فلا يمكن الحديث عن عراق موحد وأمة عراقية واحدة وتآخي بين كل أطياف العراقيين ولا عن وضع نهاية للتناحر العبثي الذي يمارس الآن في بلادنا. فبدون التخلي عن هذه المظاهر الخطيرة لا يمكننا أن نتحرر من التدخلات الفظة في الشؤون الداخلية العراقية بكل أشكالها، ومن ضمنها هذا الإستعراض العسكري الدموي اليومي الذي تجريه الطغمة الدينية الحاكمة في إيران وأرباب القوازيق العثمانية على أراضينا في إقليم كردستان. نعم آن الأوان كي يصحى العراقيون ويستيقظوا من سباتهم الطائفي البغيض وعبثهم الدموي الذي لا يبني البلاد، بل يبني جحيماً وخراباً.
adelmhaba@yahoo.co.uk
* كاتب عراقي
.