وصل جنود “تيارس” الى الدائرة الخامسة في باريس، بينما يتراجع ثوار الكومونة دائرة اثر دائرة، كنت على وشك النزول ليلاً للإلتحاق بالثوار لو لم نكن على فارق قرن تقريباً من الكومونة والتي انتهت بألوف الشهداء المرمية جثثهم في قعر مقبرة père la chaise. كنت أقرأ قصتهم لجاك دوكلو بعد أن وصلنا باريس قادمين من لبنان( صيف 1979) والمتروك لسيطرة قوات ومخابرات الجيش السوري. وثوار باريس لم يسمعوا نصائح كارل ماركس بعدم المغامرة فثاروا بعد قرن من ثورة الباستيل وقطع رأس الطاغية لويس السادس عشر، وبين الثورتين وقعت احداث اهتزت لها فرنسا وأوربا والعالم، جاء نابوليون وحمل معه فرنسا الى كل مكان ثم جاءت الحروب أهلية وغير أهلية، كما جاء شعراء ومفكرون وعلماء.
ورغم مظاهر الاستغلال والبؤس التي رافقت الثورة الصناعية في انكلترا، الا أن الانكليز فضلوا الإصلاح الهادئ و بناء النقابات على صنع الثورات بعد قرن من دخول كرومويل بحصانه إلى المجلس وتشذيب الملكية التي ستتحول إلى دستورية وتتبعها معظم ممالك أوروبا.
أما في روسيا المتخلفة صناعياً عن غرب اوروبا خصوصاً بلد كارل ماركس وانجلز اللا جئين الى انكلترا، فقد قامت فيها ثورة بدل عن ضائع وكانت عشرة أيام بلشفية هزت بلدا خارجا من صقيع وأتون الحرب الأولى، ومن ثم اهتز بدن العالم كله قبل أن ينفجر في حرب كونية ثانية مع صعود النازية وتكدس البضائع والمدافع في مصانع ألمانيا.
وفي الوقت الذي كانت اوروبا تتغير من رأسها حتى أخمص قدميها مطلقة بنى وفئات اقتصادية واجتماعية وطبقية وعلمية وحقوقية وفكرية و سياسية جديدة، وذلك في اعقاب الثورة الصناعية وتداعياتها الدراماتيكية على الأنماط الحياتية، كانت الشعوب العربية تعيش على أطراف القرون الوسطى وتتبع بمعظمها للسلطنة العثمانية المتخلفة عن التحولات الكبيرة التي تحصل بقربها، لقد سقطت السلطنة حضارياً قبل أن تسقط عسكرياً وباتت المنطقة في مهب التداعيات.
شكلت غزوة نابوليون لمصر عنصر الصدمة الحداثية الأولى، خصوصاً أنه حمل معه علماء ومفكرين أكثر مما حمل من جنرالات. ثم تسللت المفاهيم الجديدة الى الشرق العربي نتيجة المداخلات والتدخلات الأوروبية مع الفسيفساء الطائفية خصوصاً بعد “كومونة” أنطلياس والفتن الطائفية في بلاد الشام، حتى ان مركز الخلافة بدأ يتأثر بالأفكار والأنماط الاوروبية الجديدة، وقد انشأ أتاتورك لاحقا تركيا العلمانية على أنقاض الامبراطورية المنهارة.
لم تكد الثورة العربية الكبرى تفرح بانهيار الامبراطورية حتى أطبق الحلفاء المخادعون على المشرق العربي الثائر وبعد دحر الثورات صرخ الجنرال غورو على قبر صلاح الدين في دمشق voici on est là.
شكل القرن العشرين قرن الثورات والتحركات الوطنية والقومية، خصوصاً مع نشوء الكيان الصهيوني، علماً أن ذلك أعقب عصر النهضة ومفكريه الذين بدأوا يطرحون مواضيع تطال تخلف المجتمعات العربية عن الدخول في العصر الحديث المنبثق من الثورات الأوروبية والأميركية بما فيها قضية المراة وغيرها من القضايا. ثم جاءت الانقلابات العسكرية لتحمل الى السلطة نخباً عسكرية وشبه عسكرية، وقد صادرت هذه النخب بعض ما توفر من مظاهر الحرية كالبرلمان والأحزاب لصالح شعارات التحرير والتنمية، وبعد أكثر من خمسين عاماً لم تحصل الجماهير لا على التحرير ولا على التنمية. تكرست سيطرة هذه النخب بواسطة آلات قمع استثنائية، وترافقت مع اللعب على وتر الأقليات الطائفية والعشائرية والقبلية والمناطقية ما جعل بناها الاجتماعية في حالات توتر دائم خصوصاً مع ازدياد الفساد واستغلال النفوذ.
ومع تطور ادوات ومفاهيم ومراكز العولمة تحولت الكرة الارضية الى اوعية متصلة ما جعل التوترات أكثر انكشافاً والاستبداد أكثر عرياً و الانفجار أكثر قرباً، ومع ان تهاوي الانظمة التوتاليتارية في شرق اوروبا شكل حافزاً مهماً للجماهير العربية، الا أن سقوط تشاوشيسكو شكل المثل الأهم، ذلك أنه الأكثر شبها لديكتاتوريينا، و”للصدف” فانه الوحيد بينهم الذي رافق رحيله مآسي كبيرة(مع استثناء البلقان).
بين ثورات اوروبا الشرقية واحتراق جسد بوعزيزي مرت المنطقة العربية بحركات احتجاج وأحداث كثيرة، منها الانتفاضات الفلسطينية وحركات الاحتجاج في المغرب العربي ومصر وغيرها وثورة الأرز التي فجرها زلزال الغاء الحريري مروراً بربيع دمشق وقتل خالد سعيد و مئات غيره في أقبية التعذيب.
حين أحرق البوعزيزي نفسه لم يكن يعترض على بؤسه فقط، بل على هدر كرامته بصفعة من شرطية، فكانت لحظة التثقيل التاريخية التي استفزت كل الكرامات المهدورة من كل الطغم، خصوصاً تلك التي ظنت أن حاجة الغرب المخادع لها من جهة وابتزازه بواسطة الارهاب المرعي أوالمخترق من جهة أخرى سيحميها من شعوبها، فتمادت حتى ابتدعت ما سماه سعد الدين ابراهيم الجملكة، مشيرا إلى التوريث في جمهوريات الاستبداد، وقد بدأت “سوريا الأسد!” عصر الجملكة بتوريث بشار، وبالطبع دفع سعد الدين ثمن مواقفه من قبل مبارك رغم ما يربطه من صداقة مع العائلة باعتباره كان استاذاً لسوزان، تماماً كما دفع كثير من المثقفين والسياسيين والناشطين ثمن مواقفهم، البعض سجناً وتعذيباً والبعض تضييقاً في العمل حتى النفي، والبعض قتلاً والغاءً، كما حدث للبنانيين ولسوريين ولغيرهم.
ان الانتفاضات المتحولة لثورات والتي تغذت من كل ما سبق من احداث وحركات وارتكابات ومن تطورات سوسيولوجية ومعرفية تشكل، على عفويتها والتباساتها وتعقيداتها، المقدمة الضرورية لتغيير المفاهيم وطرق التفكير وانماط العلاقات داخل البنى المختلفة، وهي أنماط اًصبحت تشكل حاجزاً وليس عائقاً فقط أمام انتساب شعوبنا لمتطلبات الحياة الحديثة والتي تستند على الحقوق والحريات الفردية والعامة والمنافسة القائمة على العدالة وتكافؤ الفرص و احترام الآخر وحرية التفكير و إلغاء التمييز على أنواعه بما فيها التمييز ضد المرأة.
وتتغذى هذه الثورات من قدرة الشباب الثائر على استعمال وتطويع تكنولوجيا الاتصالات في مواجهة انماط القمع البدائية ولكن الوحشية خصوصاً من قبل النظام السوري الذي يحاول تحويل البلدات والمدن والدسكرات السورية الى مجموعة من الحماوات (جمع حماة) رغم الفارق الكبير بين وسائل المحتجين في الماضي (من الاخوان، المنظمين بالاجمال) وبعضها جنح للعنف ووسائل الاحتجاج السلمية والعفوية التي يقوم بها الشباب الثائر لكرامته وحقه في حياة حرة ومزدهرة ومجتمع ديمقراطي يقوم على تداول السلطة من قبل جميع السوريين بعد نصف قرن من الاستئثار الفئوي.
من هنا أهمية عدم الانزلاق والانجرار لأنماط غير سلمية من المقاومة نتيجة صعوبة الاحتجاج السلمي مع تصاعد القمع الاستثنائي والمترافق مع صمت أو تلكؤ عربي ودولي. لقد شكل التردد، وان مع التدرج والتكيف، الطابع الغالب لأداء الغرب عموماً تجاه الثورات خصوصاً ان مصالحه تحدد مواقفه ومقارباته. أما الأنظمة العربية فتتحسس من اية انتفاضة وهي ساهمت بتبهيت ومذهبة انتفاضة الأرز، رغم دعمها والاستفادة منها اقليميا، فكيف بالحري حين تجتاح الانتفاضات معظم الدول العربية و تصل الى المنامة عاصمة اللؤلؤ والساهرة على راحة زوارها السعوديين، ثم الى الشام (قلب العروبة النابض على أنغام فارس).
ان انكفاء العرب وتردد الغرب يساعد على تصلب النظام السوري وداعميه، خصوصاً روسيا والصين وهم من غير المولعين بالحريات أصلاً(الشيشان وتيان آن مان: نموذجا) ويكاد يكون السكوت عن قمع النظام السوري مشابهاً للسكوت عن العدو الاسرائيلي الذي سيتصلب اكثر مسلحا بالدعم الاميركي، مع الفارق أن الاسرائيلي يقمع الفلسطينيين، أما العربي (السوري خصوصاً) فيقمع شعبه.
لبنانيا، يستنسخ اصدقاء النظام السوري موقف هذا الأخير ويبالغ البعض (وفي الواقع يفصح عن موقفه) في قضية الأقليات بما فيها المسيحية، غامزا من قناة خصوصية ما للواقع المشرقي ومرحبا باضفاء هذه الخصوصية على طبائع الاستبداد الذي يصبح وان من اقلية بوجه الاكثرية مبرراً لحماية اقلية اخرى، وفي هذا اعادة استحضار للموقف العوني من قضية حقوق المسيحيين المسروقة (يا للمصادفة!) من السنة وبالتحالف مع القوى المسلحة الشيعية المرتبطة بسوريا وولاية الفقيه والتي(يا للمفارقة) قويت شكيمتها خلال فترة السرقة!
من هنا نستشعر الخوف والخطر على الكيان، تنوعا وسماة شبه ديمقراطية. ومن هنا سؤالنا للشباب اللاطائفي ان يعي هذا الخطر فلا يخلط الدولة بالنظام ولا المقاومة بالسلاح الأقلوي ولايسكت عن القتل والإرهاب، والصراحة نقول أن “صمت” بكركي وجمعها الموارنة بأي ثمن ودون مضمون مرتبط (بمجد لبنان!) سيسهل للبعض استجرار الكارثة على الاقليات والأكثريات معا، خصوصاً مع الايحاء من قبل اصدقاء النظام السوري بأن المنتفضين هم من مذهب معين وأن الديمقراطية لن تكون مضمونة النتائج، وكأن للحرية والكرامة وحقوق الانسان هوية طائفية أو مذهبية أوعرقية.
ألم يستفظع هؤلاء عدم اعتراف الغرب وإسرائيل بنجاح حماس بانتخابات نزيهة؟ لماذا يقلقون إذا من احتمال نجاح قوى بينها إسلاميين في انتخابات حرة في مصر وسوريا؟ ولماذا يعيب البعض على المنتفضين الخروج إلى التظاهر من الحيز الديني المتاح نسبيا و استهجان هتاف “الله وأكبر” في مواجهة “الرصاص العلماني”؟ فهل يقترحون على الإنكليز الغاء كلمةgod bless you؟ ثم
ألم يشكل الجامع المنصوري منطلق تظاهرات اليساريين الشماليين(المشبعين بأفكار ماركس والنهضويين) بوجه السلطة اللبنانية لمدة كبيرة؟ فهل نستبدل رواد النهضة بدعاة الاسبتداد لحماية الاقليات؟، ثم كيف ينظر مضمرو كما مفصحو حلف الأقليات في الشرق إلى الأقلية اليهودية؟ والواقع فإن المنتفضين العرب(والسوريون في المقدمة) يلبون، وإن متأخرين، دعوة الكواكبي وجبران لهدم أسس الإستبداد والتخلف، بما فيها التلاعب بهواجس الأقليات، فليس في الخبز وحده يحيا الإنسان.
كما يبدو أن بعض المثقفين بما فيهم اليساريين يحاكمون الربيع العربي بمعايير فلسفية ونضالية واقتصادية قديمة، منها معايير لينينية وكأن المنتفضين هم فئة او حزب قرر مكتبه السياسي حرق بوعزيزي أو إرسال فتيان درعا لكتابة غرافيتي، وقد استنسخ الحزب الشيوعي اللبناني موقف زميله البكداشي الذي لا يرى في ضاحية ركن الدين الشامية المنتفضة سوى مكان سكن قائده الراحل وربما كان من الأفضل أن يتذكر أين ذهب جسد فرج الحلو وأجساد قادة الحزب وغيرهم من القادة واللبنانيين والفلسطينيين وغيرهم والمقاومين الأوائل خصوصا الذين استشهدوا اوفقدوا أو أبعدوا منذ الثمانينات وما قبل أيضا.
ما يثير فضولنا هو مواقف بعض النخب المشككة بجدوى التحرك وان بلغة التساؤل، ما يعني أنهم لم يدركوا حجم التغيير والاستعداد عند الشباب العرب، ومنها الحالة السورية التي وصلت الى نقطة اللاعودة بفضل تضحيات وصمود فريدين، وتساؤلاتهم تذكرنا ببعض مواقف “الصفاء الطائفي” من الانقسام السياسي في لبنان. واذا كان الخوف من بعض التداعيات الخطيرة على لبنان جدياً(في طرابلس مثلا)، فان الانكفاء يساهم في اذكاء الخطر خصوصاً أن من طبائع الإستبداد القتل دون ترخيص في سياق دفاعه العبثي عن البقاء، مع أنه إلى زوال.
يبقى ان نشير ان الحساسية والقلق من قبل قوى 14 آذار حيال الوضع السوري (المعبر عنها بموقف إجمالي صائب بعدم التدخل) فضلاً عن بعض الالتباسات التي تساهم لقاءات بكركي في اذكائها، لا يمكن أن تستمر صمتا، خصوصاً حين يستنسخ الطرف الآخر مواقف النظام السوري و يخلق جواً من الخوف حتى أنه يستنسخ شبيحة لمنع إدانة القمع الرهيب في سوريا(طرابلس- بريستول)، ما يهدد بتحويل لبنان من واجهة للحريات يقلدها المنتفضون العرب الى ساحة للمواجهات يديرها مستبدون صغار، يسيرون عكس السير محاولين جعل لبنان جمهورية صمت، بعد أن هز المنتفضون دعائم جمهورية الخوف، ولربما يساهم استحضارحكومة موديل 2004(رغم ميول رئيسها الإنمائية الحديثة) في تقوية نبض الحركة السياسية المعارضة والمدافعة عن ديمقراطية و حرية البلد وسيادته وازدهاره، وطبيعي ان تغيب المرأة عن هذا الموديل فموقعها في الإنتفاضات التي ستطيح نسختها اللبنانية بهذه الحكومة حين ينكشف عجزها عن إدارة الشأن العام في أخطر المفاصل.
khawaja_talal@hotmail.com
* جامعي لبناني – طرابلس
من الباستيل إلى درعا مرورا بسيدي أبو زيد والميادين
جولة جيدة ومفيدة لرسم السياق العربي الراهن ، تحياتي صديقي طلال ، طمنتني عليك
من الباستيل إلى درعا مرورا بسيدي أبو زيد والميادين لجان ولجان ولجان انها دراما سورية بنكهة دكتاتورية فاسدة. لقد حاول ان يبرهن الديكتاتور بشار وحزبه الدموي وللمرة الثالثة الاستخفاف او الاستحماربعقول الشعب السوري بدراما سورية جديدة اي تشكيل لجان ووعود لا تثمن ولا تغني من جوع وايضا لقد حاول ان يبرهن ان الشعب السوري غير مؤهل للحرية والديمقراطية وانه يعبد الفرد وغوغائي ومتامر والوقت عنده ليس له ثمن بساعة فارغة من اي شيء سوى الوعود واتهام الشعب بالتامر وان من يطالب بالحرية جراثيم ومع الاسف جعل هذه المرة خطابه على مدرج جامعة دمشق التي كانت قبل 48 سنه منارة للعلم… قراءة المزيد ..