في غمرة متابعاتي لكتابات مختلف مفكري التيار الإسلامي، تعرفت، عبر القراءة، على المفكر المصري الأستاذ جمال أحمد البنّا، شقيق المرحوم حسن أحمد البنّا، إمام ومرشد ومؤسس جماعة الإخوان المسلمين، التي تحولت، فيما بعد، إلى تنظيم دولي ينتشر أعضاؤه في مختلف القارات والدول والحركات والأحزاب السياسية والحكومات والهيئات والمنظمات الدولية، ويؤدون بيعتهم إلى إمام واحد هو المرشد العام في مصر، بينما يخضعون تنظيمياً بعد البيعة، لمكتب الإرشاد الدولي بواسطة مكتب المراقب العام في كل بلد.
عبر قراءة ما تيسر لي من كتب المفكر جمال البنّا تكونت لديَّ صورة متكاملة عن شخصيته كمفكر وكإنسان، وذلك من خلال اهتماماته المتميزة بقضايا العمل والعمال والنقابات والتجديد الفقهي، بخلاف ما تميز به الاتجاه العام في حركة التأليف والنشر من قبل معظم المفكرين الإسلاميين الذين أعطوا اهتماماً ملحوظاً ومحورياً لقضايا التاريخ والفقه الإسلامي وأصول الدين من منظور تقليدي، أكثر من الاهتمام ببلوره منظور إسلامي معاصر لقضايا الإنسان في عصر يموج بالتحديات والتناقضات والمشاكل التي تسحق الإنسانية وتشوه حضارتها الحديثة. في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي تعرفت شخصياً ـ ولأول مرة ـ على المفكر جمال البنّا أثناء مشاركتي في إحدى فعاليات حركة السلم العالمي .. وفي بداية التسعينيات من ذلك القرن التقيته بالقاهرة عده مرات في منازل بعض الأصدقاء، ثم في منزله المتواضع بحي العباسية في القاهرة حيث أجريت معه حواراً شائقاً ومثيراً نشرته عام 1992م في صحيفة “الوحدة” الأسبوعية التي كنت رئيساً لتحريرها منذ قيام الوحدة عام 1990 م، وحتى حرب 1994م المشؤومة .
أثار ذلك الحوار جدلاً واسعاً في اليمن آنذاك، وحاول البعض من الإسلاميين اليمنيين الذين لم يكونوا قد عرفوا – بعد – من هو جمال البنّا، أن يثيروا غباراً من الشك حول أمانتي المهنية والصحفية في عرض أفكاره التي بدت لهم – في ذلك الوقت – غريبة وغير مألوفة وخارج السرب، بيد أن انتشار كتابات جمال البنّا وأفكاره الجديدة والمتميزة على الصعيدين العربي والعالمي منذ النصف الأول من تسعينيات القرن العشرين وحتى الآن، كشفت المسافة الهائلة والفارق الجوهري بين نمط نقدي ومنفتح على العصر بمتغيراته الجديدة يتبناه جمال البنّا، وبين نمط آخر يتسم بالجمود العقائدي والكسل الذهني والانغلاق والتعصب والإقامة الدائمة في الماضي، يتبناه خصومه الذين انضم إليهم جزء من الإسلامويين والجماعات السلفية المتشددة والمتطرفة في اليمن !! والحق أقول : إنني تأثرت شخصياً، ليس فقط بأفكار جمال أحمد البنّا وبذلك الحوار الذي تم في منزله بالقاهرة مطلع عام 1992م ، ونُشر بعد شهرين في صنعاء على حلقات بعنوان (( الإسلام يريد الإنسان
والفقهاء يريدون الإسلام )) وتحديداً في منتصف شهر أبريل من ذلك العام ، بل إنني تأثرت ـ أيضاً ـ بمستوى الحياة المتواضعه التي يعيشها هذا المفكر الكبير في منزله المزدحم بارفف الكتب التي تغطي جدران جميع الغرف الأربع التي تتكون منها شقته القديمة، وبالكتب المتناثرة في مكتبه وصالة الشقة ونوافذ وممرات المنزل الذي يحتوي على شيء بسيط من الأثاث العتيق، ومن ضمنها المكتب الشخصي لشقيقه الأكبر حسن أحمد البنّا، وطاولة إصلاح الساعات التي كان يعمل عليها والده الراحل أحمد البنّا الساعاتي لإطعام عائلته وهي الطاولة نفسها التي أنجز عليها الوالد الراحل أحمد البنّا الساعاتي تحقيق وترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل ، والذي نشره بعد الانتهاء منه في (٤٢) جزءاً، ويعد مرجعاً مهماً من مراجع دارسي التراث الفقهي لمؤسس المذهب الحنبلي. والحق أقول – أيضاً – : إن تواضع المفكر جمال البنّا في أسلوب ونمط حياته ومستوى معيشته وطريقة تعامله مع زواره وأصدقائه من مختلف التيارات الفكرية، جعلني أسترجع مظاهر الترف والبذخ التي تسيطر على قصور ودور العديد من السياسيين الإسلاميين الذين يختلفون مع جمال البنّا في منهج تفكيره وسلوكه إلى درجة الخصومة والعداء ، كما هو حالهم مع مخالفيهم في الفكر والرأي. وإذ يدهشك جمال أحمد البنّا ببساطته وتواضعه ودمث أخلاقه واستعداده لتقبل الرأي الآخر ومناقشته وسعة أفقه وعمق إطلاعه وانفتاحه على مختلف التيارات الفكرية، فإنه يدهشك – أيضاً – بإيمانه الراسخ بعقيدته الإسلامية وتمسكه بمنهجه الفكري الواقعي، الأمر الذي يضفي على أفكاره وحياته ورؤاه نزعة إنسانية أصيلة لا تجد فيها أي تصنع أو زيف أو ادعاء. ولأنه كذلك، فقد كان طبيعياً أن ينحاز جمال البنّا إلى الإنسان وليس إلى النصوص التي يفترض أنها ما جاءت إلاَّ لخدمة الإنسان، وأن يتخذ له منهجاً في التفكير والممارسة يجسد من خلاله فهمه للإسلام، باعتباره وسيلة لخدمة الإنسان، مخالفاً بذلك رأي الكثير من الفقهاء الذين لا يرون في الإنسان سوى وسيلة لخدمة وحراسة الدين في الدنيا. في ديسمبر عام ٠1920م ولد جمال أحمد البنّا في أسرة ريفية فقيرة .. وفي ديسمبر الماضي عام 2006م احتفل جمال البنّا بعيد ميلاده السادس والثمانين – أطال الله عمره – بعد رحلة طويلة ذاق خلالها مرارة الفقر والعوز والاضطهاد والسجون. وبالقدر ذاته لم تخل هذه الرحلة من ثمرات الكفاح الشاق، والتي سجل جمال البنّا بواسطتها اسمه الناصع بالمعرفة والتميز والتجدد في ساحة العمل الإسلامي كمفكر ومناضل عمالي، حيث قام بتأليف نحو سبعين مؤلفاً، معظمها حول قضايا الفكر والتجديد الفقهي و العمل والعمال، بالإضافة إلى نشاطه في تأسيس عدد من الجمعيات ذات الطابع الإنساني، وتوّج تلك الرحلة بمبادرته في تأسيس الاتحاد الإسلامي الدولي للعمل، ، وتأسيس مؤسسة فوزية وجمال البنّا للإحياء الإسلامي وشروعه في تدشين مشروع تجديد الفقه الإسلامي الذي أنجز منه حتى الآن حوالي خمسة مؤلفات تتعلق بأهم مسائل الفقه المعقدة، ومن ضمنها المرآة والحجاب والجهاد. في السجون أتيحت لجمال البنّا خبرة تأمل تجارب الإخوان المسلمين والشيوعيين والوفديين وغيرهم، وتزخر حياته بالمواقف التي اختلف فيها مع كل التيارات المتصارعة، مما يفسر نزعته الواقعية في الحكم على ما حوله من شخوص ووقائع وتجارب وإرادات، وقدرته الفذة في الحوار مع أية ظاهرة من الظواهر الواقعية في حياتنا العامة ليس بقصد تحليلها، بل – أيضاً – بقصد إعادة اكتشافها والتعرف عليها من جديد. في هذا السياق المتميز برزت شخصية جمال أحمد البنّا كمفكر متميز بنزوعه نحو التحرر من كل قيد ومن كل عبودية سوى عبودية الله . ولذلك يتسم فكره بالنزوع إلى الحرية المتسعة اتساع الأفق، وباحترام حق الآخرين في ممارسة حرياتهم التي وهبها الله لهم ، في الوقت الذي يستنكر جمال البنّا أي قيد على “حرية الفكر” باسم الإسلام، ولا يعترف بحد الردة، باعتبار أن مثل هذه القيود تعد أكبر إساءة إلى مفهوم الإسلام للحرية وموقفه منها. قبل ثلاث سنوات، وتحديداً في النصف الأول من شهر يناير2007 الماضي، زار المفكر الإسلامي جمال البنّا صنعاء للمشاركة في أعمال المؤتمر الدولي حول الديمقراطية وحقوق الإنسان ودور المحكمة الجنائية الدولية . وقد تشرفت حين كنت رئيسا ً لتحرير صحيفة ( 22 مايو ) آنذاك بأن زارني المفكر جمال البنا في مكتبي بمقر الصحيفة بالعاصمة صنعاء ، في إطار علاقات صداقة قديمة بدأت في القاهرة اواخر الثمانينيات وتعززت خلال التسعينيات وما زالت باقية حتى اليوم .
وخلال ذلك اللقاء اقترحت إدارة حوار فكري إضافي مع المفكر جمال البنّا يسلط الضوء على أفكاره الجديدة التي تبلورت خلال الفترة الفاصلة بين عام 1992م، الذي جرى فيه الحوار الأول في القاهرة، وبين عام 2004 الذي جرى فيه حوارنا الثاني في صنعاء بعد إثني عشر سنة حافلة بالكثير من المتغيرات والأحداث والتحولات . وقد حضر هذا اللقاء، الذي تم في مكتبي حين كنت رئيسا لتحرير صحيفة 22 مايو في صنعا ، ثم وتواصل الحوار بعد ذلك في مقر إقامة المفكر الإسلامي جمال البنّا بأحد الفنادق الكبرى بالعاصمة صنعاء ، الزميل عبدالله علي صبري، رئيس تحرير (( صوت الشورى )) .
في الحوار السابق، الذي أجريته مع جمال البنّا في القاهرة بحضور رجل الأعمال اليمني الدكتور عبدالمولى مغلس ونشرته في صحيفة (( الوحدة )) عام 1992م ، كانت الفكرة الرئيسية التي شغلت معظم مساحة الحوار، تلك التي لخصها الأستاذ جمال البنّا بقوله : (( الإسلام يريد الإنسان، والفقهاء يريدون الإسلام )) .. وكان لافتاً للنظر أن يختار ضيفنا الكبير محوراً جديداً لهذا الحوار الجديد الذي جرى في صنعاء بعنوان : (( الفقهاء لا يقدمون الإسلام، بل يقدمون تفسيرهم وتأويلهم للإسلام )) . وحرصت في الحوارين الأول والثاني مع الأساذ جمال البنا على أن أكون محاورا ً ومناقشا ًوهو ما سيلاحظه القارئ الكريم .
وعلى أثر نشر الجزء الثاني من هذا الحوار في صحيفة ( 22 مايو ) عام 2004 تلقيت سيلا من الاتصالات وقرأت العديد من المقالات تناشدني بأن أجمع هذا الحوار الذي جرى عبر فترتين زمنيتين تفصلهما 12 عاما ً في كتاب ، بهدف توثيقه وتسهيل فرص الاطلاع على ما يتضمنه من أفكار مثيرة للجدل والتأمل لأكبر عدد ممكن من القراء والباحثين ، وهو ما دفعني الى التفاعل مع هذه الآراء حيث بدأت بجمع الأجزاء الثلاثة من الحوار الأول الذي تم في القاهرة عام 1992 ونشرته صحيفة ( الوحدة ) والأجزاء الثلاثة من الحوار الذي تم في صنعاء عام 2004 ونشرته صحيفة ( 22 مايو ) ، تمهيدا لنشره متكاملا ً في موقع ( شفاف الشرق الأوسط ) ونشره بعد ذلك في كتاب سيجد طريقه الى النشر قريبا بعنوان : (( الإسلام والإنسان والحرية ).
في الصفحات التالية سيجد القارئ نفسه مع المفكر الاسلامي الكبير جمال البنا الذي أجرينا معه هذا الحوار عبر محطتين زمنيتين تفصل بينهما إثنتا عشرة عاما ً ، الأولى في القاهرة عام 1992 والثانية في صنعاء عام 2004م . وقد تمّ تفريغ هذا الحوار من أشرطة التسجيل حيث أشرف على مراجعة ما جاء في المحطة الأولى من الحوار في القاهرة وإعداده للنشر في صحيفة “الوحدة” عام 1992 الزميل حسين الجرباني مراسل صحيفة “الشرق الأوسط” في صنعاء ، الذي كان حينها سكرتيراً لتحرير صحيفة “الوحدة” ، فبما قام الزميل الصحفي المتقاعد في وكالة الأنباء اليمنية أحمد حسن العقربي، بالاشراف على ما تم تفريغه من أشرطة التسجيل في المحطة الثانية من الحوار بالعاصمة اليمنية صنعاء عام 2004م وأعداده للنشر في صحيفة ( 22 مايو ) عام 2004م.
المحطة الأولى
القاهرة ـ 1992
الحبيشي : أستاذ جمال البنا، باسم هيئة تحرير صحيفة “الوحدة” الأسبوعية التي تصدر في اليمن، أحييك تحية حارة.. ويسعدنا جداً أن نتحاور معكم في هذا اللقاء على تربة تجربتكم الفكرية.. وعلى تربة معرفتنا بنشاطكم الفكري البارز في ساحة الفكر الإسلامي، وبمساهماتكم المتميزة في إثراء هذا الفكر.
وصحيفتنا كما تعرفون، صحيفة تتسع لمختلف الآراء والأفكار .. ونطمح دائماً إلى أن نجعلها منبراً حراً للحوار الفكري.. ولتأصيل الديمقراطية والعقلانية والتعددية والوحدة في حياتنا السياسية والفكرية.. وقد اتجهنا خلال الشهور الأخيرة نحو آفاق أوسع على هذا الطريق وذلك من خلال إجراء حوارات فكرية مع عددٍ كبيرٍ من السياسيين والمفكرين في اليمن والوطن العربي.. ويشرّفنا أن تكونوا بين هذه الكوكبة من العقول التي سبق لنا أن حاورناها.
البنا : شكرا يا أخي وبارك الله فيكم.. وأحيي فيكم صحيفة “الوحدة” التي تابعت مؤخراً بواسطة بعض الأصدقاء في اليمن والقاهرة جانباً من نشاطها ومحتوياتها وأعجبني نهجها وسعة افقها.. وأحيي أيضاً هذا الاتجاه الجديد في الصحافة العربية حيث تسعى صحيفتكم فعلاً لأنّ تكون منبراً لحوار الآراء والأفكار المتباينة.. وأن تجري الحوارات مع مختلف المفكرين.. فهذا هو ما نحتاجه بصورةٍ ملحة.. أن تُعرض الآراء جميعها.. ثمّ ننتهي إلى الاختيار والتمحيص والوعي الأمثل.
الحبيشي : حوارنا معكم يا أستاذ جمال سينطلق – كما قلت سابقاً – من تجربتكم الفكرية المتميزة .. ولا توجد لدينا أحكام أو أسئلة جاهزة.. ومن هنا نراهن على أن يكون الحوار حيوياً.
البنا : وأنا واثق من ذلك أيضاً بعون الله.
إنّهم لا يريدون الإنسان
الحبيشي : أستاذ جمال من خلال متابعتي الشخصية وقراءاتي لما تيسر لي من أعمالكم الكثيرة، لاحظت تميزكم عن غيركم من المفكرين الإسلاميين في تناول القضايا التي تخص المجتمع العربي والإسلامي.. ولاحظت أنّكم بأعمالكم الفكرية التي أتيحت لي فرصة الاطلاع عليها تسدّون جانباً من الفراغ الكبير في المكتبة الإسلامية وخصوصاً لجهة القاعدة العريضة في المجتمع الإسلامي المعاصر، وهي العمال والقوى المنتجة والشباب والمرأة .
بهذا الصدد أسمح لي يا أستاذ جمال أنّ أشير إلى أنّ جزءاً كبيراً من الأعمال الفكرية التي تميّزت بها الحركات الإسلامية طوال العقدين الأخيرين.. ولربما طوال العقود الأخيرة منذ انهيار الخلافة العثمانية تركز على قضايا الدعوة لإقامة الدولة الدينية التي ستتولى تطبيق الشريعة الاسلامية بحسب تفسير الفقهاء الأسلاف لــ ( الكتاب والسنة) ، مع تغليب واضح للسنة القولية والروايات التي إختلف حولها المسلمون والفقهاء لجهة القول بوجود ما تسمى بالأحاديث والروايات الصحيحة والأحاديث والروايات الضعيفة ، ناهيك عن مخالفة بعض الروايات للتعاليم التي وردت في القرآن الكريم عن طريق الوحي الذي نقله الى المسلمين رسول الله عليه الصلاة والسلام صافيا من أي تحريف وهو ما يمكن ملاحظته عند قياس هذه المخالفات بميزان العقل .. مع الأخذ بعين الاعتبار ان رسول الله نهى عن تدوين السنة القولية حتى لا تختلط بالقرآن أو تضاف اليه ، بينما يصر بعض الفقهاء الأسلاف الذين يعارضون مدرسة أهل الرأي والقياس على وجوب الإلتزام بأولوية النقل، وعدم الإحتكام للعقل في فحص الروايات التي تتعارض مع نصوص القرآن الكريم ، وصولا الى تكفير كل من لا يلتزم بتغليب النقل على العقل مع كل مارافق النقل من شبهات وتناقضات أثارت ولازالت تثير الكثير من الإشكاليات المتصلة بحاجة المسلمين الى تقديم إجابات جديدة على الأسئلة غير المسبوقة التي تطرحها الحياة المعاصرة بصورة مستمرة في ضوء المتغيرات والتحولات التي أفرزتها الحضارة الحديثة منذ بدء الثورة الصناعية الأولى والثانية والثالثة خلال القرون الأربعة المنصرمة ، وصولاً إلى مرحلتها الراهنة في الألفية الثالثة التي تتميز بتحولات وإنجازات ثورة تكنلوجيا الإتصالات والمعلومات في هذه الحقبة من مسار تطور الحضارة البشرية، والتي أصبحت القوة الحاسمة فيها للمعرفة العلمية ولمن يمتلك ناصية قيادتها والتأثير فيها .
ما من شك في أن جماعات الإسلام السياسي تعرضت لإنتقادات عديدة من معارضيها الذين يتهمونها بأنّها لا تفكر بغير الاستيلاء على السلطة وإعادة الخلافة.. وبأنّها لا تقدم حلولاً ورؤى واقعية للمسائل الاقتصادية..الأمر الذي يفسرمحاولاتها الرد على هذه الإنتقادات من خلال التوجه سواء على الصعيد النظري أو على الصعيد العملي إلى بعض المجالات الاقتصادية والمالية بعيداً عن المفاعيل الاقتصادية المتعلقة بالقاعدة العريضة للمجتمع وتحديداً اقتصاديات العمل.
بتعبير أوضح كان اتجاه الحركة الإسلامية السياسية فكرياً وعملياً خلال الفترة الأخيرة يكرر ما فشل فيه الإقتصاد الإشتراكي عندما حاول تغليب الإيديولوجيا على القوانين الموضوعية التي تحرك رأس المال .. ومن أبرز تجليات هذا الاتجاه الأيديولوجي لقوى الاسلام السياسي هو الاهتمام بإنشاء المصارف الإسلامية والشركات الإسلامية لتوظيف رؤوس الأموال تحت دعاوى محاربة الربا وتنزيه رأس المال .. بينما لا نجد أثراً لمثل هذه التوجهات نحو تحرير العمل وتطويره وحل مشاكله وتناقضاته المعقدة وتنظيم عَلاقته برأس المال ومفاعيل الانتاج والإستهلاك والأسواق في عالم يواجه تحديات التكامل والشراكة تحت تأثير منجزات ثورة تكنلوجيا الإتصالات والمعلومات.
وبصرف النظر عن تقييم المحصلة الهزيلة لتجارِب المصارف الإسلامية وشركات توظيف رؤوس الأموال وما رافقها من انحرافات وفضائح وتناقضات لم تعُد خافية على أحد، خصوصاً وأنّها كانت ولا زالت تقوم بإيداع أموال المودعين في البنوك الغربية وتأخذ منها فوائد ربوية وتشترك معها في أعمال غير قانونية وغير أخلاقية بالإضافة إلى الفشل الاقتصادي الذي لحق بنشاطها الاستثماري رغم ضحالته، والحق بعد ذلك أضراراً فادحة بمصالح المودعين ، مما دفع الحكومة المصرية والبرلمان المصري إلى إصدار قانون بتصفية هذه الشركات قبل نهاية العام الجاري 1992م وضمان حقوق المودعين المنكوبين وإصدار قوانين وقرارات أخرى تحد من نشاط المصارف الإسلامية وتخضعها للرقابة ، على نحو ما حدث في بلدان عربية أخرى ، علماً بأنّ كل هذه الإجراءات تمت بضغطٍ من الرأي العام المصري وسط صراخ ضحايا شركات الربح الحلال الاسلامية الذين كانوا قد اندفعوا بحماس شديد للدخول في هذه التجارب خلال السبعينات وأوائل الثمانينات ، تحت تأثير الدعاية التي قامت بها الحركات الإسلامية السياسية بهدف تقديم نموذجها للدولة الاسلامية الموعودة !!
من حقك علينا يا أستاذ جمال القول بأنّنا لو لم نطلع على أعمالكم التي قرأناها لقلنا إنّ الحركات الإسلامية السياسية غائبة تماماً عن هذا الجانب.. علماً بأنكم تنشطون في هذا الجانب بصورةٍ مستقلة وبدون أية عَلاقة منظمة مع أي من الحركات السياسية الإسلامية داخل مصرَ أو خارجها بحسب معلوماتنا.
في أعمالكم التي أُتيحت لنا فرصة التعرف عليها وقراءاتها والاستمتاع بها – وأنا لا أنافقكم في قولي هذا – لاحظنا اهتمامكم بقضايا العمال وحركتهم النقابية وبتشريعات العمل والضمان الاجتماعي.. الخ.. وقبل قليل سعدت كثيراً بحصولي على كتاب جديد لكم هو “الإسلام والحركة النقابية”.
في البدء – أرجو من الأستاذ البنا – حتى لا يتشعب الحديث حول هذه القضية، أن يشرح لنا رحلته مع قضايا العمال وقضايا الحركة النقابية سواء في مجال الإبداع الفكري أو مجال الممارسة العملية؟
البنا : فيما يتعلق برحلتي الفكرية وانتهائي إلى العمال.. أود أن أشير قبل كل شيء إلى حقيقة مُرّة في واقع الحال تمثل أزمة المفكر المسلم في العصر الحديث عندما تهاجمه الشكوك إزاء ما يتم توارثه من معارف ومن تقاليد.. وعندما يجد أنّ بعض الآراء الحديثة وبعض نتائج الدراسات في العصر الحديث تعارض شيئاً ما في هذه الموروثات ، ويصبح عليه أن يقوم ويحدد اختياراته بالضبط.
إنّها رحلة طويلة فعلاً.. يمكن استغرقت أكثر من أربعين عاماً.. انتهينا فيها إلى أنّ الإسلام هو في النهاية عقيدتنا الدينية واختيارنا الحضاري.. ومن أجل هذا فنحن نعتز به أكثر مما يعتز به كثيرون ممن يرون أنّهم أهل الإسلام وعلماؤه وحُماته.
كان علينا أولاً أن نفهم الإسلام الفهم الرشيد في ضوء أصول الإسلام نفسها وتطورات العصر الحديث.. ولم نجد مطلقاً أي تعارض ما بين الأصول الإسلامية وأفضل ما انتهت إليه الحضارة الحديثة، وإنّما المشكلة كلها هي في فهم المسلمين للإسلام.. ليس في الإسلام مشكلة.. المشكلة هي في المسلمين.
بعد أن انتهينا إلى فهم سليم ورشيد للإسلام فيما نرى، كانت النقلة من الإسلام إلى العنصر البشري.. لأنّ الإسلام أنزل للناس، والقرآن أُنزل للناس.. فالناس هم الهدف في حقيقة الحال.. والله تعالى في غنىً عن الناس ولا تنفعه طاعة ولا تضره معصية.. وإنّما أُنزلت الأديان وأُنزلت الكُتب لهداية الناس في حقيقة الحال.. فكانت النتيجة إننا نفهم أنّ نقطة الانطلاق هو الإنسان.. وفي بعض كتبنا لعلك لاحظت يا أستاذ أحمد إنني قلت بكل وضوح وبدون تردد : (( إنّ الإسلام يريد الإنسان ولكن الفقهاء يريدون الإسلام ))!!
الحبيشي ( مقاطعا ً ) : لماذا يريدون الإسلام وليس الإنسان؟
البنا : لأنّهم اعتبروا أنفسهم سدنة وأحباراً و رهباناً للإسلام .. ثمّ سؤال آخر هو ماذا سيكسبون إذا أرادوا الإنسان؟
(يضحك مبدياً تعجبه واستغرابه ثم يجيب ) :
لن يكسبوا شيئاً!! ولكن لو أنّهم استطاعوا تكوين هيكل إسلامي هم سدنته وأحباره و رهبانه سيصبحون هم أصحاب الأمر، ويصبح لهم كيان كبير.. وساعدتهم على ذلك بعض التطورات السياسية الأولى في التاريخ الإسلامي بعد أن تحولت الخلافة الراشدة ألى ملك وراثي عضوض.. فالنقلة الكبيرة جداً هي الانتقال إلى الإنسان.. والفهم أنّ الإسلام إنما أنزل للإنسان وليرفع عنه الأغلال التي كانت تكبله.. ولينقله من الظلمات إلى النور وهذه معانٍ واضحة جداً في الإسلام.. هذه هي نقلة مهمة في هدف الإسلام وهو الإنسان.. الإسلام جعل من العمل معياراً للإيمان ومصداقاً له.. ومعياراً للثواب والعقاب في الآخرة.. يعني كل المسلمين يمكن أن يقولوا ” لا إله إلا الله محمد رسول الله ” ويمكن أيضاً تأدية الشعائر الدينية فيدخلون في حظيرة الإسلام.. ولكن ما الذي سيميز بينهم؟
في حقيقة الحال أنّ العمل هو الذي سيميز بينهم.. والعمل هنا هو مصداق الإيمان.. هو ما يمكن أن نمتحن به إيمان المؤمنين.
من ناحية أخرى نجد أنّ العمل هو معيار الثواب والعقاب في الآخرة.. فنحن سنحاسب في الآخرة على ماذا كنّا نفعل.. وسنجزى بما كنّا نفعل وسيدخلنا النار ما كنا نفعل.
هذا واضح جداً في مئات الآيات.. “هل تجزون إلا ما كنتم تعملون”.. ” فمن عمل مثقال ذرة خيراً يره ومن عمل مثال ذرةٍ شراً يره”.. كل الحساب في الآخرة سيدور حول العمل.
من هنا دخلنا إلى العمل.. إلى العمل العام كما قلنا في بعض مواد الاتحاد الإسلامي الدولي للعمل.. أنّ العمل عندنا هو بحسب المدلول القرآني العمل الصالح.. أي عمل صالح سواء كان عمل عامل في مصنع.. عملاً مأجوراً .. عملاً حرفياً.. عمل خير .. كل هذا يدخل في الإطار الواسع لمعنى العمل.
الحبيشي : وماذا عن الإنسان العامل .. الإنسان المنتج؟
البنا : من هذا الإطار الواسع دخلنا أيضاً مرحلة أخرى من التخصص إلى العمال المنتجين الذين يقومون بالعمل بنوعٍ من التخصص.. خصوصاً أنّ العصر الحديث يختلف عن العصر القديم.
العصر الحديث معقد وكثير المطالب.. والحياة فيه تختلف عن الحياة في العصور الأولى وحتى في العصور الوسطى.. يعني الحياة المتقشفة.
الحياة البدائية الأولى لم تكن تتطلب احتياجات معيّنة كالتي تتطلبها حياتنا اليوم .. الرسول صلى الله عليه وسلّم ما كان يوقد في بيته ناراً لمدة شهرين.. ونجد أنّ البيوت والخيام في ذلك الوقت ما كان فيها لا دورة مياه ولا تجهيزات منزلية كالتي توجد اليوم في بيوتنا.. كانت حياتهم بسيطة جداً.. والحاجات فيها محدودة.
هذه الظروف اختلفت اليوم اختلافاً كبيراً.. وهذا العصر الذي نعيش فيه متعدد الاحتياجات .. ولا يمكن في عصرنا للكرامة الإنسانية أن تُصان إلا بتوافر هذه الاحتياجات .. لأنّ هذا هو منطق العصر، يعني الإنسان إذا لم تستكمل له احتياجاته المعينة يمكن أن يستشعر نوعاً من المهانة، أو الضعة ، أو يوضع في مكان دوني عن الآخرين، لذا من الضروري أن نعنى بالعمل فعلاً، لأنّه هو أساس العصر، من الذي يقوم بالعمل؟؟ .. انهم العمال.
العمال لهم قضايا تتعلق بهم كعمال، الهيئات التي تمثل العمال كعمال وتعالج قضاياهم المهنية هي النقابات، فكان طبيعياً جداً الانتقال في فهمي الإسلامي من الفهم المجرد ، من الفهم العبادي، من فهم ” وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون” بالمعنى التقليدي الضيق إلى معنى أنّ الله تعالى ” “غني عن العالمين”، ولا تضره معصية ولا تنفعه طاعة، وإنّما كل الهدف هو هداية الإنسان.. وأنّ المطلب الأخير هو الإنسان.
أسلاف النقابات
من الإنسان، ثمّ إلى العمل، ثمّ إلى العمال، كانت مراحل ومحطات على مسيرة واحدة في حقيقة الحال، وكلها مرتبطة بالإسلام ، ليس فيها أي جانب يخالف الإسلام ، أو يُعد غريباً عليه، حتى كلمة “نقابة” .. حتى كلمة “نقيب” تجدها في القرآن .. وتجد الرسول (صلى الله عليه وسلّم) قال للأنصار : “اختاروا لي أثني عشر نقيباً” .. ونجد أيضاً أنّه في بعض العصور الإسلامية كان هناك هيئات يطلق عليها “الأصناف” وهي اسلاف النقابات، وهذه الأصناف كانت منتشرة في العصر العباسي ، وكانت جزءاً لا يتجزأ من نسيج المجتمع الإسلامي وقتئذٍ.
كانت الأصناف تقوم على أساس الحرفة ، وكان كل صنفٍ يرتبط بالمجتمع برباطين رباط روحي ديني.. وهو أنّ لكل صنف شيخاً ، أو راعياً من الصحابة أو من الأولياء أو من شيوخ الصوفية .. ورباط آخر مدني .. رباط بالمحتسب.. وهو الموظف الذي يقوم بعمليات التفتيش على الأسواق، والتأكد من سلامة الأداء وصحة الموازين… الخ.
إذن كانت الأصناف هي أسلاف النقابات، وهناك من المؤرخين من يرى أنّ النظم التي يقولون عنها ” الجلتس” أي الطوائف الحرفية في إنجلترا، إنّما نقلت عن الأصناف الإسلامية .. لأنّه لا يجد أثراً لوجود هذه الطوائف إلا بعد الحرب الصليبية الأولى، عندما تعرفت أوروبا على بعض النظم التي كانت موجودة في المجتمع الإسلامي.
ليست فكرة النقابة ببعيدة عن الإسلام،.. نجد اللفظة في القرآن .. نجد اللفظة في الحديث.. نجد أنّ هناك نقابةً بالمدلول الحديث.. نجد أنّ هناك هيئات لم تكن تحمل اسم نقابات، ولكنها كانت نقابات، وهي “الأصناف” .. فالموضوع كله ليس غريباً عن الإسلام في حقيقته، ولكنه غريب عن الفكر الإسلامي المعاصر.. الفكر السلفي الفقهي التقليدي كان غريباً عن الإسلام الحي وكان من المفارقات إننا نجد في الهيئات الإسلامية عزوفاً عن النقابات!!!.
و لا أذيع سرا ً عندما أقول أن أحد قادة الأخوان المسلمين السودانيين قال لي ذات يوم : (( كنّا ننظر إلى النقابات كما لو كانت رجساً من عمل الشيطان )) “!!!، وهذا في الحقيقة يمثل تماماً اتجاه الحركات الإسلامية نحو النقابات.
الحبيشي : اسمح لي أستاذ جمال، عند هذه النقطة بالضبط ، أن أُثير إشكالية مهمة .. اعتقد أنّ بعض الإخوان المسلمين السودانيين الذين قالوا لك إنّ النقابات هي رجسٌ من عمل الشيطان لم يصدروا هذا الرأي من فراغ .. ولربما كانو تحت تأثير نمط التفكير السلفي الذي ساد الفكر الإسلامي في القرن العشرين قبل أن يتحرر الإخوان المسلمون في السودان من هيمنة نمط التفكير السلفي النقلي المعادي للعقل بفعل الصراعات التي انفجرت بينهم بعد وصولهم الى السلطة وإختلافهم حول النفوذ والمصالح.. وأنا أتكلم عن الفكر الإسلامي في القرن العشرين، أعتقد أنّ هذا النمط من التفكير السلفي يجد جذوراً له في التفكير الإسلامي القديم .. حتى “الأصناف، التي أشرت إليها، والتي وجدت أشكال منها في العصر العباسي، هذه “الأصناف” تعرّضت للضرب .. وارتبط بل تزامن ضربها في بعض العهود العباسية بتصفية الفلسفة الإسلامية .. بتصفية الحركات الفكرية ذات الاتجاه العقلي النقدي الحر.. وهي بقدر ما كانت ــ كما تقول لنا كتب التاريخ ــ تجمعات ذات طابع مهني تخصصي، بقدر ما كانت في الوقت نفسه تنزع نحو المشاركة في الحياة الفكرية في العصر العباسي وخصوصاً في تلك الحقبة التي وُصفَت بالعصر الذهبي ، حين كانت الحركات الفكرية في العصر العباسي، شأنها في ذلك شان الحركات الفكرية في العصر الأموي جزءاً من حالة الحراك السياسي والاجتماعي الذي شهده المجتمع الإسلامي، حيث ارتبطت – أي حالة الحراك – بالصراع بين الاستبداد وبين أنصار الحرية.. وهنا تأتي مقولتك الرائعة “إنّ الإسلام يريد الإنسان ولكن الفقهاء يريدون الإسلام” .. وهنا نختلف في مفهومنا للإسلام.. وأنا لا أريد أن أناقشك في هذه القضية، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ السلفية.. أو الأصولية السلفية الموجودة في الفكر الإسلامي في القرن العشرين والتي لازلنا نواجه كثيراً من المصاعب في التعامل معها تجد أساساً لها في التاريخ الإسلامي سواءً، التاريخ الفكري، أو التاريخ السياسي.. وبالتالي فإنّ الموقف من هذا التاريخ يتصل اتصالاً شديداً جداً بمسار الحركة الإسلامية السياسية في القرن العشرين، وبمسار الفكر العربي بشكل عام ، باعتبار أنّ الحركة الإسلامية واحدة من مكوّنات الفكر العربي، وواحدة من قوى الحركة العربية.
ما هو في تقديرك ــ يا أستاذ جمال ــ الموقف السليم من إشكالية التناقض بين السلفية، وبين الواقعية ، ولا أقول أنا بين المعاصرة والسلفية. لأننا ننطلق من واقع، هو جزء من عصرنا وجزء من حركتنا بما في ذلك الإشكالية التي أشرت إليها بأنّ بعض قادة الأخوان المسلمين السودانيين قالـــوا لك في يوم ما : (( كنا نعتقد أنّ النقابات رجسٌ من عمل الشيطان)) وهذا كما قلت له جذوره في الفهم المترسب في الوعي العام حول التاريخ الإسلامي.. وهو فهم تم اكتسابه عن طريق التلقين والتلقي وإضفاء طابع القداسة على التاريخ وكتب التاريخ والفقه بعيداً عن النقد.
في تقديرك الشخصي، كيف يمكن أن نُعالج هذه الإشكالية؟؟
البنا : هي في حقيقة الحال من أقوى العقبات، والمعوقات في سبيل انطلاق الفكر الإسلامي.. ومع هذا فليس هناك أبداً أي صعوبة في أن نفهم أنّه لا يُعد خروجاً عن الإسلام أن نعود رأساً إلى الكتاب، وإلى الصحيح الثابت من السنة، وأنّه من المفارقات الغريبة، إننا عندما ندعو الناس إلى الكتاب مباشرة، وإلى السنة، فإننا نتعرض لاتهامات شديدة جداً، لأنّ الذي حدث، أن صدئت العقول، وخملت الهمم، وعجزت العزائم عن الإبداع وعن التفكير الأصيل، وعن الرجوع إلى المنابع، وقنعنا بما تركه لنا الآباء مما يحمل اسم السلفية.
الأسلاف كائناً ما كانوا، ونحن نعتز بهم، وما من شكٍ أنّهم كانوا قمماً في عصورهم السالفة ولكن هذا لا ينفي أمرين :
الأول : أنّهم ليسوا معصومين، وأنّ قدراتهم مهما كانت فإنّها ليست مطلقة ولا نهائية.. والثاني : أنّهم في نهاية المطاف أبناء عصورهم وليسوا أبناء عصرنا!!
هناك سيف مصلت على أعناقنا، يقال هل أنت أقدر من أحمد بن حنبل على فهم الحديث؟!! هل أنت أكثر من أبي حامد الغزالي أو الشافعي أو بن تيمية فهماً للفقه؟!!… إلى آخر هذه الأسئلة العقيمة.
فنحن قد لا نكون اقدر، ولكن لدينا من الوسائل الآن ما لم يتوافر لأحمد بن حنبل وبن تيمية وإبن القيم أو غيرهم .. في الزمن القديم كان الفقيه يرحل من المدينة إلى مصر للتثبت والتأكد من حديث، كان الخلاف بين الفقهاء كلهم يدور حول معرفة فقيه لحديث .. وجاء فقيه آخر بحديث مخالف له .. كان الحكم يمكن أن يتغير سنة بعد أخرى، وإذا علم الفقيه حديثاً في هذه السنة ما لم يكن قد علمه في السنة الماضية أعاد أحكامه من جديد..وبعضهم كان يتمسك بأحكامه السابقة.
نحن الآن لدينا من أساليب التصنيف والمعلومات و”الكمبيوتر” والمطبوعات وغيره ما يمكن أن نلم به بكل حديث مما لم يدركه أي واحدٍ من الفقهاء .. وبهذا نحل مشكلة كانت في أصل الفقه الإسلامي .. في أصل اختلاف المذاهب الإسلامية.. فالقضية ليست قضية أنّ الأسلاف كانوا أقدر، أو أكثر ورعاً، أو أكثر إيماناً.. أو أقدر نموذجاً.. الخ ، لا .. من الناحية النظرية ممكن جدا القول أنّهم كانوا في وقتهم هم الأقدر فعلاً، ولكن انتهى هذا الوقت.. جاء عصر جديد بإمكانيات جديدة، بتحديات جديدة.. بمشاكل وهموم جديدة.. بقدرات ووسائل جديدة تمكننا من القيام بما كانوا عاجزين عنه من ناحية.. وبما لم يكن يواجههم ويتحداهم من ناحية أخرى.
هناك حقيقة هامة.. أنّ الإسلام من أيامه الأولى حتى من أيام الرسول، وعن عمر ابن الخطاب نفسه، عندما وجده الرسول يقرأ في صحائف من التوراة فأحمر وجهه، وقال : ” قد أتيتكم بها بيضاء ليلها كنهارها ” ظهر من الأيام الأولى اندساس الفكر الإسرائيلي في الوعي الإجتماعي الإسلامي ، من الغريب أنّ محدثاً مثل أبي هريرة الذي كان يهودياً ثم أسلم قبل عامين من وفاة الرسول، يروي أكثر من خمسة آلاف حديث معظمها كان ولا يزال السبب الرئيسي في خلافات وانقسامات وحروب المسلمين .. بينما لم يرو علي أو عائشة اللذان رافقا الرسول منذ بدء الدعوة سوى أحاديث بسيطة لم تتجاوز المائة وربما أقل .. كما أن أبا هريرة يروي عن كعب الأحبار، لأنّه في الحديث يجوز رواية الأكابر عن الأصاغر، ويوجد علماء يدافعون بشدة عن كعب الأحبار الذي أسلم بعد وفاة الرسول.. وغيره، فأندس فكر إسرائيلي كثير جداً، دخل في التفسير بوجه خاص، وفي وضع أحاديث معينة، يعني الفكر الإسرائيلي لا نجده في الحديث فقط ، بقدر ما نجده في التفسير أيضاً، فأصبح تفسير القرآن، مثقلاً ومشاباً، وملوثاً بأفكار إسرائيلية.
الحبيشي : أسمح لي بأن أقاطعك في هذه النقطة بالذات، أنا ألاحظ أنّك عندما تناولت .. هذه الإشكالية أشرت إليها من حيث قدرة العقل الإسلامي، وقدرة العقل العربي في العصر الحديث على فهم الأصلين الرئيسيين للإسلام وهما ” الكتاب والسُنة ” بما في ذلك الأحاديث، بعيدا ً عن ذلك السيف المصلت على الرقاب والذي يمنعنا من إستخدام العقل الى حد تكفير من يخضع النقل لميزان القرآن بالعقل ، حيث ينبري السلفيون المتعصبون بالقول : (( هل أنت أقدر على فهم الحديث والكتاب من فلان.. وفلان .. من الأسلاف القدامى )) .
أنت ركزت على الوسائل فقط ، وركزت على التطور في تقنيات الوسائل التي تساعد العقل العربي، والعقل الإسلامي في العصر الحديث على فهم القرآن والسنة بشكل أفضل من الأسلاف .. ولكن لم تتكلم عن نقطة مهمة جداً، وهي الحياة التي يتصل بها الحديث، والوقائع التي يزعم هؤلاء السلفيون المنغلقون بأنها جعلت كثيراً من نصوص القرآن التى جاءت من عند الله ونقلها الينا رسوله الكريم عبر الوحي، جعلتها منسوخة بالحديث الذي نهى عن تدوينه الرسول في حياته، ثُم نقله الينا بعض الرواة بعد وفاته بأكثر من مائتي عام .. الحياة تغيرت يا أستاذ جمال، وأنت قبل لحظات كنت تشير وبِشكل عام إلى جانب من هذا التغير .. الحياة كانت بسيطة .. المجتمع كان بسيطاً .. الاقتصاد كانت دورته بسيطة .. لكن الآن الحياة تعقدت .. ومشاكل الحياة توسعت .. وبالتالي لم يكن “أحمد بن حنبل” أو ” أنس بن مالك، أو محمد بن إدريس الشافعي أو “أبو حنيفة النعمان”، وكذلك كل العلماء والفقهاء بما في ذلك فقهاء المذهب الشيعي.. لم يكن أمام أولئك الأئمة الأسلاف هذا السيل الجرار من الاحتياجات والمشاكل المعقدة والتناقضات والتحديات المتواصلة والمتغيرة باستمرار، التي لم تكن في يومٍ من أيام تلك العصور السالفة متوقعة.
وعليه .. ومن أجل أن نثبت صلاحية القرآن لكل العصور نحن بحاجةٍ الى قراءة جديدة ومعاصرة للقرآن تجعله قادراً على الإجابة على الأسئلة الجديدة.. هذه أسئلة جديدة في عصرنا بحاجةٍ إلى أجوبة جديدة.. ولا نستطيع استعارة الأجوبة القديمة للرد على الأسئلة الجديدة التي تطرحها الحياة أمام الناس.
بمعنى ان أسئلة عصرنا ليست بحاجةٍ الى تلك الأجوبة التي أبدعها ذلك الجيل من العلماء والفقهاء ففي العصور الغابرة والتي كانوا من خلالها يجيبون بقدر المستطاع على أسئلة عصرهم .. وفي حدود معارفهم التي لا يمكن مقارنتها بالحجم الهائل من المعارف العصرية كما ونوعا في مختلف المجالات العلمية والاقتصادية والسياسية والانسانية وغيرها .. ً واعتقد أنّه من الوهم أن نزعم بأنّ أجوبة فقهاء العصور الغابرة يمكن أن ترد على أسئلة العصر الراهن.
لاشك في أنّ القرآن قادر على أن يجيب على أسئلة عصرنا.. ولكن من هم الذين يتوجب عليهم إستنباط هذه الإجابات من القرآن ؟ .. أنّهم أبناء هذا العصر.
خذ ياأستاذي على سبيل المثال الإمام الشافعي.. نجد أنّه عندما انتقل إلى مصرَ أعاد صياغة مذهبه مرة أخرى من جديد.. وبصورة تختلف عن الأحكام والاجتهادات الفقهية التي صاغها عندما كان في العراق والحجاز.. وأرجو أن تلاحظ معي أنّه على الرغم من أنّ الزمان كان واحداً.. والإسلام واحد لكن المكان هو الذي تغير عند الإمام الشافعي.. بمعنى أنّ هناك مكانين في زمن واحد وفي ظل إسلام واحد.. وأنّ مجرد الاختلاف بين مكانين في ظل زمن واحد أضطر الإمام الشافعي رصي الله عنه إلى إعادة صياغة مذهبه مرة أخرى في مصرَ.. فكيف الحال عندما تتغير الأزمنة والعصور وتتنوع الأمكنة والظروف!!
القرآن كما قال الخليفة الراشد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه (( حمال أوجه وكتاب مسطور لا ينطق بل يتكلم به الناس )) .. والناس عندما يتكلمون ويفكرون لا يفعلون ذلك بمعزلٍ عن تنوع وتناقض مصالحهم,.. وتنوع ظروفهم وأوضاعهم.. أنّهم جزء منها .. وهي التي تتحكم فيهم .. وهي تؤثر عليهم وعلى طرائق تفكيرهم وعملهم .
والقول بأنّ القرآن صالح لكل زمان ومكان يضع أمام العقل واجبات كبيرة ودوراً طليعياً.. بمعنى أننا يجب أن نفهم القرآن بعقولنا.. ونعرف رسالته بعقولنا.. وهذا يعني أنّ الذين شرحوه وعملوا على تأويله في القرن الأول الهجري وغيره من القرون الأولى لا يمكن أن يشرحوه ويعملوا على تأويله في القرن العشرين أو القرن الثلاثين.. صحيح أنّ مناهج استخدام العقل يمكن أن تتشابه وأن تتواصل.. لكن نتائج التفكير العقلي لاشك وأنّها تختلف باختلاف القضايا والتحديات التي يواجهها العقل في كل عصر.
من هنا نأتي إلى المسألة الرائعة التي ذكرتها في حديثك.. وهي أنّ الإسلام يريد الإنسان.. بمعنى أنّ ا لإسلام وسيلة وليس غاية.. الغاية الحقيقية للإسلام هي الإنسان.. تحرير الإنسان.. سعادة الإنسان.. ازدهار ورفعة حياة الإنسان.
أنت أشرت إلى أنّ الفقهاء يريدون الإسلام بينما الإسلام يريد الإنسان .. أسمح لي يا أستاذ جمال أن استفزك شوية .. وأرجو أن يتسع صدرك لهذا الاستفزاز.. ألا تعتقد معنا بأنّ هؤلاء الفقهاء الذين يريدون الإسلام ولا يريدون الإنسان هم جزء من تلك الماكنة الضخمة التي طحنت الإنسان ليس فقط باسم الإسلام ولكن باسم مختلف الأديان السماوية والمبادئ الإنسانية منذ ظهور سلطة الدولة على الأرض وحتى عصرنا الحديث؟
البنا : بالضبط هذا الكلام معقول وأنا أتفق معك في هذا الى حد كبير جداً، وأنا أشرت، وقلت أنّه من العوامل التي أدّت إلى هذا، انتقال الخلافة الراشدة الى الملك الوراثي العضوض.
عندما انتقلت الخلافة ، من الخلافة الراشدة إلى الملك العضوض طورد العلماء .. هناك ظاهرة غريبة جداً ومثيرة للدهشة والإنتباه وهذه الطاهرة تعد من حقائق تاريخ الاسلام والمسلمين ، وهي أنّ كل الأئمة الأربعة من أهل السنة وكل أئمة الشيعة دخلوا في صراعٍ بينهم البين من أجل السلطة .. وتعرضوا لإضطهاد السلطة ، كلهم بلا استثناء .. الشافعي كان قاب قوسين أو أدنى من أن يُقتل .. وقف والسيف مصلت على رقبته ، وكان ممكناً جداً ــ لولا فلتة ــ أنّه يُقتل .. أبو حنيفة تعرض للصراع مع الخليفة “أبي جعفر المنصور” وقيل إنّ ” أبو جعفر المنصور” صمم، لكنّه رفض القضاء، رفض أن يجئ إلى القضاء ” أن يتولى القضاء ” ويحكم ضد معارضي الخليفة بما يريده الخليفة .. ودخل في مشادات عنيفة جداً حتى أنّ الخليفة ” أبا جعفر المنصور” قال له : ” أنت تكذب يا أبا حنيفة ” .. فرد عليه أبو حنيفة قائلا ً : : ” قد قلتها، إذا كنت أنا كاذباً فلا أصلح للقضاء.. وإذا كنت أنا صادقاً.. وأقول إنني عاجز فلا أصلح للقضاء ففي جميع الحالات لا أصلح للقضاء”.
أما الإمام مالك فقد ضرب حتى خلعت أكتافه .. وأحمد بن حنبل تعرض للمحنة الكبرى .. وجلد بالسياط بمئات المرات .. وفي تاريخ إخواننا الشيعة الكثير من حقائق الصراع على السلطة وهو ما يـُستدل عليه من تاريخ الفرق الشيعية التي تناحرت على السلطة بعد أن وصلت اليها عقب نجاحها في إقامة دويلات وسلطنات لملوك وأئمة الطوائف على أطراف دولة الخلافة . . . بعضهم مثل الامام ” زيد بن علي” مثلاً : أراد الثورة، وفضل الثورة، وقام بسلسلة الثورات التي نعلمها جميعاً وكانت مشاهد رائعة في مواصلة الكفاح .. زيد يقتل ويصلب وتقطع رأسه .. ابنه الثاني يقتل أيضا ً.. سلسلة من الأبناء والأحفاد كل واحدٍ منهم يثور، ثم يُهزم ويُقتل .. وكان هذا الجهاد فرض عين فعلاً .. أما جمهرة الفقهاء فآثروا أن يكافحوا في ميدان جديد، هو العبادة، و تفرغوا لهذا.. ومن أجل هذا مثلاً نجد إنّ باب الصلاة في مسند الإمام أحمد بن حنبل يأخذ أكثر من جزأين “من ستة مجلدات” .. أو في الفتح الرباني الذي هو شرح المسند ” – أو 7 مجلدات من 24 مجلداً، هذا عن الصلاة في حين أنّ الصلاة ممكن جداً أن تؤدي في صفحتين أو ثلاث، لأنّ العملية عملية نية أولاً وقبل كل شيء .. وعملية أركان معدودة، ووسيلة أداء معروفة .. أما ما عدا ذلك من تفاصيل، ومن جزئيات تتعلق بالحيض والنفاس، ما كانت من صميم الإسلام .. ولكن ماذا فعل العلماء ؟ .. كرسوا كل النشاط الفقهي والفكري لإنتاج مجلدات ضخمة! حول جزئيات صغيرة !! .. هذا هو ما أعنيه بأنّ الإسلام أراد الإنسان والفقهاء أرادوا الإسلام .. بمعنى هذا الجانب من جوانب الإسلام الذي ركزوا عليه بعد أن سدّت أمامهم المنافذ للمنطلق الحقيقي للإسلام وهو الحرية.. الكرامة والعدالة للإنسان.. بمعنى إخراج الإنسان من الظلمات إلى النور، هذا هو الإسلام الحقيقي.
كل الأئمة العظام أمثال احمد بن حنبل والشافعي وابو حنيفة ومالك وزيد بن علي وآخرين دخلوا في صراعٍ مع السلطة، لأنّهم كانوا يريدون ما أراده الإسلام ، وهو الإنسان بمعنى الحرية والعدالة ، والإنسان بمعنى الغاية ، والإسلام بمعنى الهداية، والإسلام بمعنى الانطلاق من الظلمات إلى النور .. بينما كان غيرهم يريد التحكم بمفاصل السلطة وخزائن الخراج والزكاة والسلاح تحت مظلة الاسلام .. كل هذه المعاني نجدها واضحة في القرآن ولكن حيل بينهم وبين هذا، فلم يجدوا مجالاً .. كان الخيار الصعب جداً، أنّهم يثورون .. الثورة ستؤدي إلى نوعٍ من الفتنة، وإلى الفوضى .. معظمهم آثر الموقف السلبي إزاء الحكم على أساس أن يعوضوا ذلك بالتركيز على العبادة في محاولة إصلاح الفرد عن طريق العبادة
نحن الآن في عصر أتيحت لنا فيه فرص لم تكن متاحة أمام الفقهاء .. يعني فكرة الملك الوراثي العضوض .. فكرة الحاكم بأمره ، فكرة “الحجاج بن يوسف” في العهد الأموي، وفكرة “أبي جعفر المنصور” في العصر العباسي، كل هؤلاء الذي حكموا بالسيف، وكل أفكارهم لم تُعد مقبولة في هذا العصر الحديث .
في حقيقة الحال أصبحت لدينا طاقات ومنافذ وأبواب متاحة بحيث يمكن للشعب، ويمكن حتى لأقل أفراد الشعب أن يرفع صوته، ويكون له أثر في تغيير الوضع وتغيير النظام السياسي.
الحبيشي : أستاذ جمال، أسمح لي أن أتدخل قليلاً في إعادة صياغة الفكرة التي عبّرت عنها، أنت قلت إنّ الإسلام يريد الإنسان، ولكن الفقهاء يريدون الإسلام” .. أسمح لي أن أقول .. ولكن الفقهاء كانوا يريدون السلطان ولم يكونوا يريدون الإسلام، وسأعلل ذلك بالآتي :
منذ ظهور الملك العضوض الذي تكرّمت بالإشارة إليه.. ذلك الملك العضوض الذي جسد ظهور أول دولة استبدادية ملكية وراثية في الإسلام وارتبط بالانحراف عن مبادئ الشورى وتجميدها.. بل وتغيير مبادئ الشورى التي تحولت الى وسيلة لصناعة فتاوى فقهية تبرر سياسات أهل الحكم وتمنحها الشرعية ، أو مناصحة غير ملزمة على قاعدة الإعتقاد بأن الله يزع في السلطان ما لا يزع بالقرآن ، فيما تحول الحكم إلى ملك وراثي نتجت عنه فكرة ولاية العهد .
صحيح بالمقابل أنّ إرادة الإنسان في الحرية هي إرادة أقوى من أي شيء وأنّ الإسلام جاء ليفجر هذه الإرادة ويحميها، وليؤصلها، وليفتح أمامها آفاقاً كبيرة حيث تجسدت تلك الإرادة بالثورات الرائعة التي تكرمت بالإشارة إلى مشاهدها ضد الظلم وضد الاستبـداد..بالمقابل جاء بعض فقهاء الإسلام بأفكار تبرر الاستبداد، وتبتعد كثيراً عن الإسلام بقدر ما تقترب إلى السلطة والسلطان.. ومن هذه الأفكار – على سبيل المثال – لا الحصر، فكرة الخضوع للحاكم الجائر، ووجوب الصبر عليه ، ووجوب طاعته ما أقام في الناس الصلاة ، وما لم يظهر كفراً بواحاً .. وكذلك أيضا القكرة التي تقول بأن الحكم الغشوم أفضل من فتنة تدوم .. وإن من قويت شوكته وجبت طاعته .. هذه الأفكار الفقهية معروفة.. والغريب في الأمر أنّ هؤلاء الفقهاء بالذات .. وهذه المدرسة في التفكير بالذات .. هي تلك التي أشرت إليها بأنّها أغرقت المكتبة الإسلامية بكتب ضخمة عن الحيض والنفاس ونواقض الوضوء والزواج والطلاق والزكاة والخمس.. الخ، ولم تغنِ المكتبة، وبالتالي لم تغنِ العقل، ولم تغنِ الفكر الاسلامي بالمسائل المتصلة بالحياة وبالعلوم المرتبطة بتطور الحياة والحضارة المدنية والتي جاء الإسلام من أجلها .. بمعنى الإسلام الذي يريد الإنسان بحسب تعبيركم الرائع، ولكنكم قلتم إن الفقهاء يريدون الإسلام .. وواقع الحال، وتجارب التاريخ أيضاً تقول لنا إنّهم كانوا يريدون السلطة وخدمة السلطة بدليل أنّ الوعي الإسلامي اختزل تعبيراً متوارثاً عن ما يسمى ” بفقه السلطان” وفقهاء السلاطين .. بمعنى أنّ هؤلاء لم يسهموا في إبداع فقه الإسلام.. لأن الإسلام الحقيقي هو وسيلة الإنسان لحياة حرة .. حياة كريمة تتوفر فيها ضمانات حقوق الإنسان نجدها في القرآن .. وهو أداة الإنسان لأن يحرس بها هذه الحياة في حال تحققها .. ولكن هؤلاء تحت زعم حراسة الدين وحراسة الإسلام كانوا يحرسون السلطة ويحرسون مصالحهم فيها .. كانوا يحرسون مصالحهم الطفيلية التي اكتسبوها من خلال منافقتهم للسلطان والحصول على رضاه والنجاة من سيفه والفوز بذهبه .. ألا تعتقد معي يا أستاذي أنّ ثمة بوناً شاسعاً بين القول بأنّ أولئك الفقهاء كانوا يريدون الإسلام وبين القول بأنّ أولئك الفقهاء كانوا يريدون السلطان؟
البنا : هذا صحيح فعلاً، لكن يمكن التفرقة ما بين الجيل الأول من الفقهاء الذين وجدوا أنفسهم في مأزقٍ أمام الثورة على السلطان الجائر وحاولوا الخروج منه إلى حد ما .. يعني مثلاً : ابو حنيفة.. أبو حنيفة أيّد زيد بن علي الذي كان من أقرب أهل الشيعة الى السنة .. وقدّم له معونة مالية، وقال : ” لولا ارتباطاته كنت معه “، الفراء كلهم كانوا في جيش زيد، وشبهوه ببدر، ففي جانب منهم فعلاً أراد الثورة على الظلم، ولكن الظلم كان تأسس .. الظلم أصبح له هيكله .. وله الجيش المحترف .. وله الثروات كلها .. وله التنظيم الإداري .. أستطاع الظلم بآليات الحكم ..أن يقهر كل محاولات الثورة عليه ولذلك نجد أنّ الثورة تبدأ بجيش من أربعين ألفاً ويتسلل فيه الضعف شيئاً فشيئاً وينتهي بأنّه أصبح أربعمائة.. فيبدو أنّهم اقتنعوا بأنّ كل ثورة على النظام القائم مهما كان سيئاً فإنّها ستفشل ولن تؤدي إلا إلى مزيدٍ من الديكتاتورية والتحكم.
هناك جانب آخر .. أنّ تلك النظم الظالمة في الداخل كانت تعمل لنشر الإسلام في بقية الدول .. يعني مثلاً : الدولة الأموية.. الفتوحات الإسلامية فيها جاوزت الهند، ووصلت إلى مشارف الصين .. لعل هؤلاء الفقهاء أيضاً تنبهوا الى أنّ هذه النظم مهما كانت ظالمة ، فإنّها تعمل من ناحية أخرى لنشر الإسلام في أراضٍ جديدة، وفي بلاد جديدة، وتكسب مسلمين جدداً.. فكان هذا من العوامل التي أثنتهم شيئاً ما عن المقاومة .. هذا بالنسبة للجيل الأول فعلاً الذي وضع موضع الاختبار المؤلم .. فكان له بعض المبررات في الاستسلام ولكن بالنسبة للأجيال الأخرى في أزمنة لاحقة.. فقهاء السلاطين هؤلاء ليس لهم أي عذرٍ.. هؤلاء عملوا فعلاً لدعم الحكم ودعم الظلم وهيمنة الحكام على الجماهير.. وقدموا فهماً تعسفياً للآية التي تقول ” وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم”.. الخ.
هل يوجد إجماعٌ حقاً؟
الحبيشي : عندي ملاحظة عرضية على كلامك يا أستاذ .. عندما أشرت إلى أنّ العلامة أبي حنيفة النعمان، كان قد وقف إلى جانب زيد بن علي وإلى جانب الحركات الفكرية التي قاومت الظلم والاستبداد والطغيان.. اعتقد أنّ هذه القضية يجب أن نتناولها بتأصيل تاريخي.. فمن المعروف أنّ أبا حنيفة النعمان كان من مدرسة أهل الرأي والقياس بل ومن مؤسسي هذه المدرسة ذات الاتجاه العقلي في التفكير.. بمعنى أنّها مدرسة تنزع نحو العقلانية والتفكير الحُر والارتباط بالواقع ومحاولة اكتشاف الواقع بواسطة العقل.. وكان زيد بن علي يسير في هذا الاتجاه بسبب تأثره بفكر المعتزلة .. وقد تعرض أبو حنيفة النعمان لاضطهاد كبير من قبل الحكام ومن قبل فقهاء الحكام حتى أضطر إلى الصمت .. بينما واصل زيد بن علي وهو الفقيه والعالم.. واصل مقاومته للطغيان حتى الشهادة.
وبالنظر إلى أنّ الحكام وفقهاءهم كانوا يشنون حرباً ضد الاتجاهات العقلانية في الفكر الإسلامي آنذاك .. فقد كان طبيعياً أن تتعرض مدرسة الرأي والقياس التي ارتبطت بالامام أبي حنيفة لهذه الحرب أيضاً.. خصوصاً وأنّ مذهب الرأي والقياس عند أبي حنيفة كان يتصادم مع ما ذهب إليه فقهاء نجد والحجاز الذين حصروا المدارك في النصوص والإجماع.. وتحديداً في نصوص وإجماع من عرفوا بأهل الحديث في المدينة.
كان أبو حنيفة يرى أنّ دليل الإجماع لا يخص أهل المدينة وأهل الحجاز ونجد فقط ، ولا يتوقف عليهم فقط دون غيرهم ، بل هو شامل للأمة التي تتنوع ظروفها وبيئاتها ومعارفها وتجاربها ومصالحها وعصبياتها.. وكانت المصالح والعصبيات كما يقول ابن خلدون تبحث لنفسها عن شرعية السلطنة مدعمة بشرعية في الفقه.
ومن المعروف أنّ صوت أبي حنيفة توقف بسبب ما عاناه من ظلم واضطهاد على يد سلاطين الحكم وبمؤازرة من فقهاء السلاطين.. ومن المعروف أ يضاً أنّ المذهب الحنفي أضحى تهمة توجه لكل معارضي الفكر السلفي النقلي في العصور الأخيرة .. والذين كانوا ينادون بإعادة الإعتبار للعقل .. ولكل دُعاة التغيير والإصلاح من أهل السنة ، حيث كان كل هؤلاء يتعرضون للمحاكمات وتصدر بحقهم أحكام قضائية (شرعية ) بتهمة الكفر ويتعرضون للإعدام والصلب بموجب حد الردة الذي لم يرد في القرآن بل جاء في حديث ظهر في العهد الأموي بعد أكثر من مائة عام على وفاة الرسول واستفاد منه الحكام العباسيون وطبقوه على نطاق واسع .. وقد إختلف حول صحته الفقهاء بينما استفاد منه السلاطين وفقهاء السلاطين الذين استخدموه كغطاء ديني لتصفية معارضيهم الذين كانوا دائما من العلماء والفلاسفة والمفكرين .. كما استخدمه في العصرالحديث االنظام الإمامي المستبد في اليمن عندما أقام محاكمات صورية لقادة ثورة 1948 الذين سعوا من داخل الطبقة الساسية الحاكمة الى إقامة نظام ملكي دستوري حيث وجهت إليهم تهمة السعي لتحريف القرأن بعد قشل ثورتهم التي لم تستمر أكثر من بضعة أسابيع !!
على أية حال أستاذ جمال الحديث شيّق معك .. وارغب في العودة إلى قضايا الحركة العمالية.. والى قضايا الإنسان العامل.. وقد أعجبني تعبير الإنسان العامل الذي تردد في كثيرٍ من كتبك ومؤلفاتك.. وهذا التعبير تردد أيضاً على لسان العديد من المفكرين الإشتراكيين أكثر من مرة في العديد من مؤلفاتهم .
وبهذا الصدد أريد أن أسأل عن المؤثرات الفكرية والعملية في حياتكم الشخصية والتي جعلتكم تقتربون إلى قضايا النقابات وقضايا العمال، علماً بأني لاحظت في بعض مؤلفاتك، وخصوصاً كتابك الرائع “سقوط جمهورية فايمار”.. لاحظت أنّك متابع عميق لتاريخ الحركات الاشتراكية في العالم.. بل وحتى لتاريخ الفكر الماركسي.. وعندما قرأت هذا الكتاب استرعى انتباهي غياب الخصومة التي نجدها في مؤلفات بعض المفكرين الإسلاميين حول الموقف من الماركسية بشكل خاص والفكر الاشتراكي الديمقراطي بشكل عام .. في الحقيقة وجدتُ نفسي وكأنني اقرأ كتاباً نقديا حول الاشتراكية لكاتب غير إسلامي.. على الرغم من أنّ الكتاب ينطوي على نزعة نقدية حادة للماركسية .. ولكن حتى هذه النزعة الانتقادية للماركسية نجدها أحياناً في مؤلفات لكتاب اشتراكيين .. وكُتاب ماركسيين ينقدون بعض جوانب النظرية الماركسية.
ولقد دهشت لما سمعته على لسانك في لقائنا السابق قبل بضعة أيام في مدينة نصر شمال القاهرة بأنّك تحترم بعض الاكتشافات النظرية العلمية لماركس والتي كانت تعكسُ جهوده واجتهاده كعالمٍ سياسي واقتصادي واجتماعي في ظروف تاريخية محددة.
حبذا لو تتحدث يا أستاذ عن المؤثرات الفكرية والعملية في حياتك والتي جعلتك تبحث عن تأصيل إسلامي لهذه الاهتمامات العمالية؟
البنا : شكراً لك .. قبل أن أبدا في الحديث عن هذه النقطة أريد أن أعلق تعليقاً سريعاً على ما أشرت إليه حول موقف أبي حنيفة.
أبو حنيفة في حقيقة الحال ظل ثابتاً على موقفه.. وكما ذكرت لكم فإنّه رفض القضاء لآبي جعفر المنصور.. وكان هذا في آخر حياته.. ولعل ذلك السبب هو الذي أنهى حياته.
بجانب أبي حنيفة هناك الإمام مالك.. وطبعاً مالك لم يكن من مدرسة الرأي.. ومع هذا فإنّه اصدر المبدأ الخطير جداً ” ليس على مكره يمين” والذي كان المبرر لنزع بيعة عبدالملك بن مروان عندما ثار عليه محمد وأخوه ( النفس الزكية ) وقالوا : في عنقنا بيعة ” فقال : ” ليس على مكره يمين”.
كانت هذه الفتوى أشد نفاذاً من جيشٍ كاملٍ يمكن أن يقدّمه ملك. فكان هذا هو موقف الأئمة والفقهاء الأوائل .. وأنا أُقدِّر موقفهم إلى حدٍ كبيرٍ، لأنّهم وضعوا في خيار صعب جداً، فاختاروا الأقل ضرراً فيما رأوه، في حين أن زيداً مثلاً اختار الثورة، واختار المقاومة كائنة ما كانت على أساس مبدئه.
بالنسبة للمؤثرات وغيرها، طبعاً أنت تعلم إنني نشأت في أسرةٍ عريقةٍ إسلامياً .. هذه البيئة يمكن أن توجد استسلاما وتبعية.. كما يمكن أن توجد أيضاً موقفاً جدلياً ــ كما يقولون ــ ليس موقف التسليم باستمرار .. نفس هذه النشأة يمكن أن توجد موقفاً معارضاً إلى حدٍ ما، وهذا الموقف الذي وجدت نفسي فيه، وتوصلت الى قناعة شخصيى أنّه ليس الموقف الأمثل هو الاستسلام باستمرار، هو الإذعان دائماً .. ورأيت أنّه لابد من عرض كل القضايا على الفكر، فنشأ نوع من الاختلاف أو التباين، ما بين الفكر الذي وجدتُ نفسي فيه، والفكر الأخواني في هذه المرحلة .. وبدأت أضع تحفظات على الفكر الأخواني في حين أنّ الفكر الأخواني في هذه المرحلة كان يمثل قمة الفكر الإسلامي، وقمة التجديد الإسلامي، وأكثر مدارس الفكر الإسلامي مرونة.. وكان الأستاذ البنا رحمه الله قائداً موهوباً ونابغاً، ومن أفضل القادة الذين أنجبتهم الهيئات الإسلامية في العصر الحديث .. مع هذا كان هناك نوع من التردد أمام مسلمات الأخوان فكان هناك نوع من نفس هذا الموقف الذي كان من الممكن أن يوجد الجندي المطيع، الابن الوارث.. إلا أنّه أوجد موقفاً معارضاً إلى حدٍ ما .. أوجد موقفاً ناقداً إلى حدٍ ما .. كانت معركة بين الفكر التقليدي وبين ما نشاهده في العصر الحديث، وفي الحياة الحديثة من آفاق، ومن نتائج قد لا تتفق بالضرورة مع هذه المسلمات التقليدية الإسلامية .. كانت مرحلة صعبة فعلاً.. ولا أخفي عليك أنّه جاء وقت فكرت فيه بضرورة البحث عن فكر جديد خارج الإسلام وذلك بسبب تعصب وتزمت واحتكار المشايخ للإسلام.. ولكني فشلت.. أبى الله إلا أن أفشل.. وكان ما مفر من الإسلام إلا إلى الإسلام ، ولكن بعد تحريره من سلطة ووصاية المشايخ والفقهاء.
ولماذا ندعه للفقهاء فقط ، وهذا إسلامنا، وفكرنا ، وعزنا ؟!. لماذا لا نحرره من سيطرة الفقهاء؟؟.
سلطة الفقهاء
الحبيشي : هل تقصد تحريره من سلطة المشايخ والفقهاء، وليس من فقه الفقهاء .. بمعنى أننا بحاجةٍ إلى فقه الفقهاء ولكننا لسنا بحاجةٍ إلى سلطة الفقهاء ؟
البنا : نحن في الحقيقة موقفنا من الفقه التقليدي، ومن الأسلاف، ومن كل ما يجري بحكم العادة ليس موقفاً رافضاً .. لأننا نجد أوروبا مثلاً حتى الآن تعتمد على الفكر اليوناني حتى عندما تسمي ” ألفاظها “.. عندما تسمي سفينة فضاء.. وعندما تسمي مركبات فضائية؛ فإنّها تستعير أسماء يونانية كله مستوحى من الفكر اليوناني القديم.
فنحن لا نرفض ولا يجب أن نتقوقع داخل قوالب عتيقة وجامدة بذريعة الدفاع عن اللغة العربية والخصوصية الاسلامية .. أنظر الى القرآن تجد أنه أورد كلمات غير عربية .. وهناك كتاب كامل عن الألفاظ غير العربية في القرآن .. نحن لا نرفض الفقه التقليدي وكل الماضي، ولكن نعتبره رافداً من الروافد .. فهو ليس الأصل الذي يكون علينا التسليم به من ناحية.. ومن ناحية ثانية نخضعه للنقد، فنأخذ منه السليم الذي ننتهي اليه ونقتنع به بحكم دراستنا، وبحكم اجتهاداتنا إلى أنّه سليم .. نأخذه ونقر به وما نجد أنّه لم يعُد يتفق مع هذا العصر لا نتردد في رفضه، خاصة ونحن عندنا الملاذ الأخير والحكم الأصيل وهو القرآن.
الخلاف الذي بيننا وبينهم يتمحور حول إنّهم يقولون ونحن أيضاً نقول بضرورة الأحتكام الى ” القرآن” الذي هو كلام الله الذي نزل الينا عبر الوحي ..نحن نحتكم في النهاية الى القرآن.. ونفحص كل القضايا الخلافية بميزان القرآن .. وهم يحتكمون الى تفسير القرآن وإلى الروايات التي جاء بها الرواة من أمثال ابي هريرة وكعب الأحبار وعبدالله بن عمر بن العاص وأصبحت غالبة على القرآن .. هم يستندون ويحتكمون إلى ما جاء في القرطبي، وما جاء في الطبري، وما جاء في ابن كثير، وما جاء في الخازن، وما جاء في الرازي.. إلى آخر هؤلاء .. ونحن نستند و نحتكم إلى نص القرآن .. ونرى أن القرآن يفسر بعضه بعضاً، وإننا غير ملزمين بهذه التفاسير والروايات .
وبالعودة إلى المؤثرات التي سألتني عنها .. فالمؤثرات كانت إنني وجدت نفسي في دراسة جديدة للفكر الإسلامي انتهينا منها على نحو ما أشرت اليه في مستهل الحديث .. أنّ الإسلام هدفه الإنسان .. وأنّ التسلسل الذي جاء من الإنسان إلى العمل الى العمال فبدأت أعني بهذه الناحية ، من ناحية فكرية مجردة ثم جاء اعتقالي في ديسمبر سنة 1948م واستمر حتى يناير 1951م ، إذ قضيت سنة وبضعة شهور في المعتقل.
نعم في المعتقل بدأت أفكر تفكيراً ينزع نحو التطبيق إلى حدٍ ما .. نحو العمل بعدما انتهينا إلى الفكر .. “طيب، أي جمهور يمكن أن يحمل هذا الفكر خاصة وأنّه كان لي تجرِبة سابقة في تأليف حزب.. وهو حزب العمل الوطني الاجتماعي سنة 1946م… وكانت تجرِبة فاشلة تماماً حيث اقتنعت بأنني لن أستطيع أن أكون حزباً أو هيئة خاصة وإني كاتب ومثقف .. وليس زعيماً جماهيرياً فيه مؤهلات الزعيم الجماهيري من خطابه، من لباقة، ومن منظر، ومن جماهيرية وربما نموذجية كاريزمية وقدرات مالية … الخ.
الحبيشي (مداعباً) : ولكنك لبق يا أستاذ، ومنظرك جميل، وثقافتك رائعة وأسلوبك في الحديث جذّاب؟
البنا : (يستأنف الحديث والضحك يتخلل كلماته قائلاً) :
كان يجب أن يكون هناك فعلاً جمهور جاهز، ومؤهل لحمل هذا الفكر.. في الوقت نفسه خلال دراساتي تعرضت للفكر الاشتراكي.. وجدت أنّ الفكر الاشتراكي فكر إنساني ما من شكٍ في أنّه غني ببحوثه وبنتائجه .. وكانت الاشتراكية بالنسبة لأوروبا هي نوع من صحوة الضمير بعد أن فشلت المسيحية في إطلاقها .. بعد أن سيطرت الكنيسة على المسيحية وحوّلتها من فكرها الإنساني الى كنيسة .. كانت الاشتراكية في هذه الحالة تقدم المعنى الإنساني .. المعنى الروحي .. المثل الأعلى.
في حقيقة الحال كل المفكرين في يومٍ من الأيام في أوروبا كانت لهم بدرجات متفاوتة اتجاهات اشتراكية تبدأ من التعاطف حتى الإيمان.. ماركس ما من شكٍ في أنّه مفكر عريق عميق نابغ عبقري.. يعني هم يقولون إنّ أنجلز كان نابغاً .. ولكن ماركس كان عبقرياً .. كما أنّه قدم الكثير في الفكر و حتى الآراء والتصورات .. هو أخطأ في كثيرٍ من الآراء .. مثلاً تصوّر أنّ الاشتراكية ستظهر في أكثر الدول الرأسمالية تقدماً مثل بريطانيا أو ألمانيا.. كانت النتيجة أنّها ظهرت في أقل البلدان رأسمالية وتقدماً هو روسيا القيصرية.. ولكن هناك أفكار صائبة.. حتى الأفكار التي يظن أنّه اخطأ فيها مثل التكتل والاحتكارات .. فنحن نجد حالياً في العصر الحديث اكبر صورة للتكتلات والاحتكارات التي تنبأ بها ماركس.. ويمكن جازت ما تصوره .. فبالنسبة للمجتمع الأوروبي الذي لم ينعم بالإسلام.. ومسخت الكنيسة فيه المسيحية .. كانت الاشتراكية تقوم بدور إنساني وروحي كبير جداً .. ولذلك هناك عدد كبير جداً من النقابات .. لأن الحركة النقابية ومنظمات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الانسان وحماية البيئة كما سنعلم هي أسلوب للعمل وليست عقيدة .. هي “تكتيك”، للعمل وليست عقيدة .. فكان فيها نوع من الخواء الروحي وكانت النتيجة أنّ عدداً كبيراً من أنبه القيادات النقابية في الولايات المتحدة، وفي بريطانيا آمنوا بالاشتراكية.. ننحن نقول إننا ننصف الاشتراكية .. والإسلام يتسع لكل الأفكار الرشيدة السليمة ويعتبرها منه.. والرسول صلى الله عليه وسلّم مرة قال : “نحنُ أولى به منهم .. بموسى .. يعني ليس هناك أكثر من هذا في الانفتاح والنزعة التحررية وفي قبول كل الفكر السديد كائناً ما كان وطبعاً الحديث يقول : أطلبوا العلم ولو في الصين” والحكمة تربة المؤمن ينشدها أنى وجدها .. الإسلام مفتوح ويقر بأقصى الحرية بما فيها حرية أن يكون الانسان مؤمنا أو كافرا .. وليس عنده فكرة الدونية ، أو فكرة الانغلاق.
الله يقول لنا : ” فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”.. بمعنى أنّه لا يجبرك على الإيمان.. بل يترك لك حرية الاختيار بين الإيمان والكفر .. والله يقول أيضاً لرسوله الكريم عليه الصلاة والسلام : ” أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين “.. الاسلام فضاء من الحرية القصوى واللا محدودة.. والعقاب في الاسلام ليس في الدنيا بل في هو الآخرة .. والله وحده هو الذي يحكم بين الناس من مختلف الأديان والعقائد يوم القيامة في ما كانوا يختلفون .. والإسلام فعلاً يقدّم نفسه تماماً بأنّه الدين الحق، الدين النهائي، الدين الذي استوعب كل الأديان .. مفيش مركبات نقص في الإسلام.. مفيش عقدة نقص في الإسلام .. ولذلك ليس عنده الاستعلاء ولا الدونية ومفتوح لكل الأفكار، ولكل الأنبياء، ولا نفرق بين أحد منهم .. الاسلام دين موضوعي كل الموضوعية .. فالموقف الإسلامي نحو الفكر الاشتراكي، هو الموقف السليم الذي لا يبخس الناس أشياءهم .. والذي يطلب الحكمة في كل ناحية والذي لا يحمل شنآنا على آلا تعدل.. ضروري تعدل .. وهذه قيم إسلامية أصولية ثابتة في القرآن، ومعززة بأعمال الرسول وكان يجب أن يكون هذا هو الموقف السليم .. وهو أنّ الاشتراكيين هؤلاء قاموا بدور ” كويس” جداً.. وقتما نددوا بالاستغلال الرأسمالي.. وقتما فضحوا وعروا الوحشية الرأسمالية في استغلال الأطفال والنساء وغيره وغيره في الصناعات.
ما من شكٍ في أنّ من يقومون بهذا العمل كانوا يقتربون من الاسلام .. وكانوا يقومون بدورٍ ورسالة قام بها الإسلام وطالب بها الإسلام وقتما أوضحوا بأنّ رغيف الخبز مهم .. هذا هو ما يقوله الإسلام .. الإسلام لم يتجاهل مطلقاً قضية رغيف العيش.. ” فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوعٍ وآمنهم من خوف ” يعني ما يمن به الله تعالى أنّه يطعم الناس من جوع وأنّ يؤمنهم من خوف .. والعامل عايز إيه أكثر من الرغيف.. وأكثر من الأمن؟!.. أنّ لا يكون مهدداً في حياته .. فكانت كل هذه الأفكار تكاد أن تكون إسلامية في حقيقة الأمر.
قضية الاشتراكية إذا كانت هي قضية عدالة فهي قضية الإسلام .. وهم أخذوها عن الإسلام.. وهم أما أخذوها عن الإسلام بطريق ما، أو اتفقوا مع الإسلام في النهايات، أما الوسائل فتلك قضية أخرى .. وماركس لم يتكلم عن ديكتاتورية البروليتاريا إلا ” ثلاث حتت ” عارضة .. الذي أوجد ديكتاتورية البروليتاريا هو لينين وهو الذي يحاسب حساباً عسيراً عن كل التطبيق الاشتراكي.. ماركس يمكن أن يكون أخطأ أيضاً بحكم حياته .. وبحكم ما تعرض له من اضطهاد وعقوق وما قاساه من ويلات ..كانت فيه مرارة جعلت بعض أحكامه تجاوز الموضوعية .. ولكن يعني ما نقدرش نحاسبه في حقيقة الحال .. وأنا لم أجد مثل هذا المفكر يحارب حرباً شعواء ويضطر أنّه يسكن في حجرة .. وأنّ أبناءه يموتون ولم يجد لهم كفناً.. وهو المتزوج أميرة من أسرة مالكة حاربت معه، وكافحت، وكانت جديرة بقصر
(وهنا يقهقه الأستاذ جمال البنا ضاحكاً ثم يقول) :
انتصاره الأول هو زوجته .. هذا أكبر انتصار كان يحبها جداً.. وهي كانت تحبه.. وتعبده رغم كل ما أُثير حوله من موبقات حتى من الناحية الجنسية .. هي غفرت له .. فهمت الضعف البشري .. لم تكن متزوجة ماركس الإنسان الزوج، وإنّما ماركس المفكر .. ماركس الداعية .. غلبت هذه الفكرة فيها فكرة الزوجة.. فكرة الأنوثة.. فكرة انحراف جنسي من زوجها فهي لم تُعامل زوجها باعتباره زوجاً.. ولكن باعتباره مفكراً وداعية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في الحلقة القادمة : الظلم والاستبداد في الاسلام مثل الكفر والشرك .
ahmedalhobishi@hotmail.com