كتاب « يوسف القرضاوي بين التسامح والإرهاب »

1

في إطار مشروعه الفكري الهادف إلى نقد العقل الفقهي، بشخص سدنته، صدر حديثاً للدكتور عبد الرزاق عيد الكتاب الثاني من مشروعه هذا. ويتناول فيه مؤلفه أحد أعمدة هياكل الوهم في المنظومة الإسلامية السنية ـ السادن يوسف القرضاوي. ويتشارك سادن هيكل الوهم يوسف القرضاوي مع ما سابقه، موضوع الكتاب الأول، محمد رمضان البوطي بالقطيعة عن لحظة التنوير الإصلاحي التي افتتح مرحلتها محمد عبده، ومن تبعه من مصلحين إسلاميين، أمثال: علي عبد الرازق في مصر، وعبد الحميد الزهراوي في سوريا. لكن القرضاوي، يتميز عن سابقه بأنه يوظف الحداثة التقنية بأقوى أشكالها حضوراً ونعني الفضائيات والإنترنت من أجل ترسيخ رؤى لاحداثية، أو بالحري ضد الحداثة بوصفها منظومة فكرية وفلسفية.

إن المنظومة الإسلامية التي يمثلها القرضاوي، هي منظومة تعيش حالة التكرار والثبات أبداً، فالتاريخ هو أخبار وروايات من القرن الأول للإسلام، وقد حددها العقل الفقهي بهذا الحديث النبوي «خير العصور عصري، ثم الذي يليه، فالذي يليه»، مما يؤسس رؤية ليست ضد التقدم فحسب، بل هي رؤية تنشد الماضي كمثال، وتعيش فيه كمثال. إن هذه الرؤية للعالم تنتج شخصيات فكرية ذات نمط مكرر؛ وحذافيرية النسخة.

يستهل الباحث كتابه بالإشارة إلى القطيعة التي قام بها الأشعري عن المعتزلة، ليعتبره السادن الأول في هياكل الوهم؛ في حين يرى في الغزالي السادن الأكبر، الذي كفر الفلاسفة، ليكفر بتكفيرهم السؤال، والبحث، والحقيقة؛ ويضع ابن تيمية في الزاوية الثالثة ليتشكل ثلاثي السدنة المؤسسين (الأشعري ـ الغزالي ـ ابن تيمية).

وعن أسباب اختيار المؤلف للقرضاوي ليكون موضوع كتابه الثاني في مشروع نقد سدنة هياكل الوهم، فإنه يجملها بالأسباب التالية:

· الأهمية الكبيرة له إعلامياً، كما نفوذه في صياغة الفكر الإسلامي السني.

· بوصفه استمراراً نموذجياً لحالة النكوص عن الإصلاح الإسلامي المشار إليه في مستهل الكتاب. ويعتبر المؤلف سنة تأسيس حركة الإخوان (1928) بداية حالة النكوص.

· الحضور القوي للقرضاوي في الساحة الدينية، وبوصفه النسخة الأكثر تقنية لمتولي الشعراوي، ورمضان البوطي؛ وهو الوجه الناعم لحالة ابن لادن، والزرقاوي.

في كتابه يقوم المؤلف بتعريض ادعاء القرضاوي على أنه يمثل «الوسطية» في الفكر الإسلامي للنقد، وبلغة نقدية ممزوجة بروح التهكم، فإن المؤلف يجيب على سؤال يطرحه: «أين تتجلى وسطية القرضاوي؟». بأن وسيطة القرضاوي تتجلى في فروع الفقهيات المتصلة بتفصيل الحياة الصغيرة مثل السفر مع محرم، أو رمي الجمار، حيث يتسامح بدرجة الشدة المطلوبة لرمي الشيطان، فيسمح للمسلم بالاكتفاء بالإشارة والإيماء.. وقد يخرج القرضاوي عن التفصيل الشخصي، ليتسامح مع المسيحيين في شرب الخمر وأكل لحم الخنزير، وعدم الإكثار من وصفهم بالكفار، وعدم الدعوة عليهم في مساجد بلادهم!

وعندما ننتقل مع القرضاوي خارج هذه التفصيل، فإننا نجد أن الشيخ لا يكفر العلمانيين فحسب، بل كل من لا يقول بالدولة الدينية، أو كل من يرفض مبدأ تحكيم الشريعة، حيث يعتبرهم القرضاوي مرتدين عن الإسلام، وأنه يجب أن تطبق عليهم أحكام المرتدين. ولا يتردد القرضاوي في أن يساوي الملحد (قدحياً) باليهودي والمسيحي، وبذلك فإنه يسوّق ثقافة سوقية، رعاعية، مبتذلة، عندما تجعل من التشبيه بالمسيحي واليهودي مذمةً، موحية للمسلم الغارق في حمأة البؤس والمهانة على كل الصعد بالأفضلية والعلو والكبر على المسيحيين واليهود، ثم يضيف المؤلف: « إذا غضضنا الطرف عن مدى الإهانة التي تلحق بالمواطنين النصارى عندما يضعهم الشيخ في موقع الدونية، دنو المرتبة الدينية والثقافية عن المسلم، ومن ثم استخدام هذه الصفة الدينية (المسيحية) كأداة للذم والقدح عندما يمكن أن تنسب إلى المسلم! فأية ديموقراطية تؤمل من هذه الوسطية (المتطرفة) الكاذبة في اعتدالها!؟ وهل نغالي إذا وصفنا هكذا خطاب بأنه خطاب إرهاب!؟»

إن الباحث يقف بشكل مطول عند كتاب القرضاوي «العلمانية وجهاً لوجه»، وذلك لأن هذا الكتاب يتصل على المستوى النظري والفلسفي والمعرفي بموضوعة (التسامح ـ العنف؛ الاعتدال ـ التطرف؛ النضال السلمي ـ الإرهاب)؛ ويناقشه الباحث وفق توالي فصول نشره على موقع القرضاوي. وعلى أي حال، فإن كتاب د. عيد يتألف من ثلاثة أقسام؛ والقسم الأول يتكون من ستة أبواب.

يناقش الكاتب مبدأ التسامح والعنف، من خلال تناوله لدلالة هذه المفاهيم في غزوات نبي الإسلام. وفي تناوله لغزوات محمدٍ، فإن د. عيد يميز بعديْن في شخصيته: البعد الأول، هو البعد الرسولي في شخصية محمد؛ والثاني، البعد النبوي في محمد.

يبدأ الكتاب بتمهيد معرفي بعنوان «تحديد الهويات» متناولاً فيه مفهوم العلمانية، وما هي الإشكالية المركزية فيها، واختلافها عن النظرة الدينية التي توحد السلطة الدينية والسلطة الزمنية. وليخلص المؤلف إلى أن إشكالية العلمانية العربية الأساسية ليست التعاطي مع المقدس، والدين، أو الفصل بين الدين والشعب، بل في الفصل بين الدين والسلطة، بين الدين والسياسة. ويعود لاحقـاً لعنوان فرعي بعنوان « مبررات ظهور العلمانية في الغرب المسيحي ». إن موضوعة العلمانية تحتل معظم صفحات الكتاب.

يلحظ المؤلف تناقضات كبيرة في العقل المشيخي، فهو إذ كان منغلقاً وتكفيرياً، فإن إحدى مؤسساته التقليدية أسبغت على « اتفاق كاﻤﭖ دﻴﭭيد » شرعيّةً. وكمثال على هذه التناقضات، فإن هذه العقل ناصر المقاتلين السنة وفلول البعثيين، لا لأسباب وطنية، بل دعماً للحالة السنية، وتأييداً للديكتاتور الذي كان « ابن ملّتهم ». وقد استدعى ذلك منهم توسيع حدة الشرخ بين سنة العراق وشيعتهم.

يعالج المؤلف في القسم الثاني « تحديد المفاهيم »، فيناقش « مفهوم الإسلام »، ومن أجل تفكيك المرجعية الثالثة ـ وهي مرجعية سيرة الصحابة في العقل الفقهي السني بعد القرآن وسيرة محمد ـ، فإن المؤلف يقوم بمناقشة هذه القضية، من خلال التطرق لتاريخ الصحابة، ليجد في سيرتهم السيرة الدنيوية، بما فيها من نجاحات وإخفاقات، وصراعات فيما بينهم، وانتصارات وهزائم، وقتالهم وقتلهم لبعضهم البعض. وبعد ذلك ينتقل المؤلف إلى قسم بعنوان: « هل خالد [بن الوليد] هو نموذج للحق حسب القرضاوي أم مثال للفسق حسب ابن تيمية؟ ». كما أنّ المؤلف في القسم الثاني من كتابه يناقش «مشكلية التسامح/الإرهاب» من خلال نماذج من السيرة النبوية.

ينتقل المؤلف إلى مناقشة تبرير القرضاوي، الذي يعزو إخفاقات المسلمين إلى أخطائهم وانحرافاتهـم، وأن الفشل لا يمكن أن ينسب إلى الإسلام. وهنـا يتساءل البـاحث: « الغريب في الأمر أن الشيخ لا يخطر على باله أن صاحب أي حس سليم سيسأله: ‹ ألا تستطيع كل الملل والنحل والعقائد والمذاهب أن تعلن براءتها من انحرافات معتقديها، فأين الخاص الإسلامي في ذلك؟ ألا تستطيع باقي الديانات المسيحية أو اليهودية أن تقول هذا القول؟ بل ألا تستطيع حتى المذاهب الوضعية البشرية كالشيوعية أو النازية أو الليبرالية أو… الخ أن تقول هذا القول الذي يكرره الإسلاميون، دون أن يحمل أية خصوصية إسلامية في حجته المدعاة، فهـو ادعاء يستطيعه كل دعاة الأيديولوجيات المتعثرة، أو المخفقة،أو المفوتة!› » وبعد أن يوجه المؤلف سهام نقده لهذا التسويغ، فإنه يورد نصاً نقدياً للكواكبي يقول فيه ومنذ أكثر من قرن: « إن كل الأمم المنحطة من جميع الأديان تحصر بلية انحطاطها السياسي في تهاونها في أمور دينها ولا ترجو تحسين حالتها الاجتماعية إلا بالتمسك بعروة الدين تمسكاً مكيناً… ».

الباب الثالث، وفيه يناقش المؤلف قضية المعايير التي يعتمدها البشر في خلافتهم: فقضايا مثل: المنطق، العقل، العلم، المصلحة، وهي معايير إنسانية عامة، ومدار خلاف بشري. وفي هذا الباب، يفند المؤلف رؤية القرضاوي التي تقول: « ومن هنا يجب أن يكون وحي اللّّهِ ـ أي الإسلام ـ هو المرجع عند التنازع ».

* * *

لا شك أن الكتاب سيجعل القارئ المنفتح الذهن قلقاً فهو يزعزع مسلمات ترسخت في ذهنه، ووعيه تتعلق بقدسية شخصيات التاريخ الإسلامي؛ وهذا ما يوفر فرصة كبيرة لتحريره من سلطان السدنة. ونتمنى على الباحث أن يتناول في كتاب ثالثٍ سادن شيعي، بحيث أن المنظومة الإسلامية ككل تخضع لمبضع نقده، ويؤمل بأن هذه الأعمال ستساعد على التحرر من سدنة هياكل الوهم في المنظومة الإسلامية، بكافة أطيافها المذهبية.

1 تعليق
Newest
Oldest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
محمد الليثى
محمد الليثى
17 سنوات

كتاب « يوسف القرضاوي بين التسامح والإرهاب »الاخ الكريم /مالك مسلمانى بداية اود ان احييكم على جهودكم فى مدوناتكم المنشورة على الشبكة العنكبوتية وماتتميز به من عقلية نقدية تحليلية قل ان تتوفر للعديد من مشاهير المؤرخين ، على الرغم من حداثة سنتكم ( على مايبدو لى )، الا اننى فى عرضكم الموجز لمؤلف د.عبد الرزاق عيد وفى ختام تقديمكم للكتاب ، ورد مانصه (لا شك أن الكتاب سيجعل القارئ المنفتح الذهن قلقاً فهو يزعزع مسلمات ترسخت في ذهنه، ووعيه تتعلق بقدسية شخصيات التاريخ الإسلامي؛ وهذا ما يوفر فرصة كبيرة لتحريره من سلطان السدنة.) فلم تنسجم هذه العبارة مع نفسها من… قراءة المزيد ..

Share.

اكتشاف المزيد من Middle East Transparent

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading