أقدم تصور لجسد امرأة ووجها تجده في تمثال “فينوس”، صغير الحجم، الذي اكتشفت مئتان وخمسون قطعة منه، حتى الآن، في كل أنحاء أوروبا. وهو يعود الى العصر الحجري؛ أي تلك الحقبة الممتدة بين ثلاثة ملايين واثني عشر الف عام قبل الميلاد. لصغر حجمه، وللفتحة الصغيرة على رأس صاحبته، يعتقد علماء الآثار بأنه استخدم للزينة أو للطقوس الدينية. وهم يستنتجون بأن هذا التمثال يجسّد الاله المرأة، رمز الخصوبة والديمومة. لذلك سموه تمثال “فينوس”، الذي يرمز الى الجمال والحياة. كيف هي اذن “الفنينوس” هذه؟ انها بلا ملامح محدّدة لوجهها، ولكن جسدها مفصّل: هي قصيرة الرجلين، وكلها متضخمة؛ صدرها، جذعها، أطرافها. أي انها لو قيس وزنها وقتها، لتجاوز المئة وخمسين كيلو غراماً. بعض علماء تلك الحقبة يرجح بأن هذا التضخم للجسد النسائي، هذه الحاجة التي اصبحت، لشدتها، معيارا جمالياً، تعود ربما الى متطلبات الصمود في المناخ الجليدي والصقيع، والعيش في المغاور… وما يتطلبه ذلك من تراكم الشحم في الجسم، ليخلق عازلا بينه وبين والخارج، بحيث يقيه من الموت برداً. وقد يعود تمدّد الجسد وتضخمه بهذا الحجم، الى سِعَة المكان، وسِعَة الوقت. وما تحملانهما على أخذ الجسد الى الأوسع.
هكذا كان معيار الجمال الانثوي في العصور السحيقة. وقد بقي منه، في عصرنا، بعض التقاليد أو التصورات، أقصاها تلك التي تعرفها مناطق في السودان؛ وهي تقوم على إتخام البنات الشابات بالطعام طلبا للسمنة، التي من دونها لن يجدن عريساً ولكن باستثناء “فنْتزمات” جنسية لرجال يحبون ممارسة الجنس مع بدينات، فان البدانة في عصرنا اصبحت وزراً صحيا وجمالياً. أمراض البدانة الحادثة أو التي سوف تحدث، وآفاتها على كل الصحة، تعرفها كل امرأة، وتدركها من لحمها الحيّ. فيما الأمكنة، الداخلية منها والخارجية، ضاقت بأصحابها أو مستأجرينها. من الطائرة وحتى البيت مرورا بالمصعد الكهربائي…. البدانية مشكلة عملية.
اذن، سمات عصرنا: أن الرشاقة الممشوقة هي معيارنا للجمال. ولا نستطيع الخروج عن هذا المعيار إلا بنوع من الترنّح، أو من التملّق. سمة أخرى، هو مكانة الصورة في التعاملات الانسانية والفنية والمهنية… ربما في جميع التعاملات. وبما ان الصورة هي الأهم الآن، ومعها المرأة غير البدينة، النحيفة الممشوقة، فان السائد الآن في ذوقنا هو صورة المرأة الممشوقة، يُضاف اليها “المغرية” (sexy)؛ وهو لقب يضجّ الاعلام في وضع المتنافسات حوله، بصفته سبقاً صحافياً… بمعنى آخر، ان سوق العلاقة بين الجنسين تعطي السعر الأعلى لصاحبة هذه “المواهب” الثلاث: رشيقة وجميلة و”مغرية”. لا حاجة لاعطاء الأمثلة الزاخرة عن هذا النوع من الحضور النسائي. غير ذلك، مثل الكلام عن ان “المهم هو جمال الروح”، أو “الثقافة”، أو “الشخصية”…. هو من باب الموعظة الحسنة، أو تعزية النفس.
والمهم، ان ضمن قائمة هذه “الأمثلة”، تأتي عارضة الأزياء، التي راحت تبالغ في النحافة الى حدّ النحول… ومرض قلة الشهية (anorexic) الذي حمل بارزات من بينهن على الانتحار. فطلعت اصوات مندّدة بما ينتهك من اجساد مراهقات يتماهين مع أولئك العارضات، وغيرهن من نجوم الفن أو المجتمع.
قد يكون الاعتداد بالبدانة هو ردة الفعل المتطرفة على مرض انعدام الشهية. وقد تكون للبدانة أسباب معاصرة أيضاً، خصوصاً مع قلّة استخدام الجسم في العمل أو النشاط اليوميين. فمن يقعد طوال النهار ومعه اكياس البطاطا “شيبس”، التي يرى اعلانها على شاشته هو المتسمر أمامها، لا يمكن الا ان يراكم شحوما تفصل بينه وبين الخارج.
كل هذا ولّد مناخين: الأول يحارب البدانة، التي تشجعنا عليها حياتنا المعاصرة، ولكنها تقاومها باسم المعايير الصحية والجمالية؛ هو الغالب ويتمثل عالميا بحملة ميشال اوباما، زوجة الرئيس الاميركي، ضد البدانة. والثاني أقل هيمنة، ولكن له محبيه وربما هواته. انهما عصران يختلطان، ويتعايشان، مع سطوة الاول على الثاني. وبينهما “متطرفون”، أكثرهم “متطرفات”، ومن كلا الاتجاهين. بحيث يمكن ان يكون احد عناوين عصرنا هو ثنائية الشراهة (bulimia) وانعدام الشهية؛ والمتمثلة بما تقوم به بعض المصابات بالمرضين: يأكلن حتى الثمالة تمهيدا لتقيؤ كل شيء بعد برهة.
فكرة قناة “ال بي سي” باقامة حفلة متلفزة لانتخاب “ملكة جمال بدينات العرب” هو ابن الجناح المتطرف من تلك الثنائية. الحافز طبعاً هو “السكوب” الذي يؤمن نسبة عالية من المشاهدين وكذلك من الاعلانات. والطريقة أيضاً معروفة؛ استنساخ برنامج غربي، أوروبي أو أميركي، شراؤه أو استئجاره، لا نعلم بالضبط، وإشراك أحد ممثليه في البرنامج المنسوخ؛ في حالتنا، ملكة جمال البدينات الفرنسيات. مع هيئة تحكيم بملامح ثقافية، “تشدّد” على الشخصية أو الثقافة، تكاد توحي بـ”جمال الروح” وتفوقه على الشكل، وكأنها بذلك تنتقص قدرا من جمال المتباريات وجاذبيتهن… الملكة، إليانة نعمة، واحد وعشرون عاماً، بدت في غاية الحماسة والحيوية. بكت مثل غيرها من الملكات عند اعلان النتيجة. كل الطقوس الاخرى كانت حاضرة. والمقارنة تفرض نفسها بين صيغة جمالية متداولة جداً، شعبية جداً، لنجوم في الفنون، المثقلة بالحقن والعمليات، المجنونة بالغرام الواحد الزائد، والتي لا تقدر المواطنة العادية مضاهاتهن الا بتشويه جمالهن “الربّاني”. وبين صيغة جمالية كالتي تقدمها مسابقة “ملكة جمال بدينات العرب”، المثيرة للفضول وللدهشة؛ ولكنها في الوقت نفسه تحتل مكاناً قليلاً في المشهد العام.
هكذا، مرة أخرى، تعيش النساء التعذيب الجسدي المرئي، يوميا، ومن دون هوادة. فلا رحمة مع قلة الشهية، ولا مع انعدامها. في الحالتين هن صنيعة تصورات غيرهن. مثل الحجاب والنقاب. خصوصا في هذه الايام التي يقل فيها الرجال الراغبون بالنساء؛ ما يفرض منافسات ضارية للفوز بالرجل، تدور كلها في الجسد الأنثوي، داخله وحوله. وهذه المنافسة تؤرق النساء، في أعماقهن البعيدة.
الفرنسيات ناضلن سنوات من اجل الغاء القانون الذي يمنعهن من ارتداء البنطلون. وكانت الحجة وقتها بسيطة: بما ان الفرنسيات بتن يخرجن من بيوتهن فعليهن ارتداء ما يريح حركتهن. الراحة فقط، كانت هي المطلوبة. راحة الجسم، سعادته بليونته وقدرته على التواجد اينما كان. هو شرط من شروط الوزن الصحيح. المتباريات في إنتخاب “ملكة جمال بدينات العرب” كن يلهثن عندما قدمن عروضهن الراقصة، قليلة الحركة أصلا، وهن ما زلن شابات. الصحة اذن. البدانة سبب او نتيجة لأمراض شتى. من حسن حظ المتباريات انهن شابات. هل يتصورن حالهن بعد عقد او اثنين؟
ثم علينا ان لا نخدع غيرنا بأقوال براقة تحجب الرأي الفعلي، غير الإيجابي، بالبدانة. خصوصاً من الناحية الجمالية. انه نوع من لي الأذرع. نفهم ان يكون هناك “ذواقة” لهذا النوع من الجمال؛ ومعظمهم اصحاب “فنتزمات” قصيرة الأجل. لكن السؤال الذي يجمل كل هذه الأحكام هو ما اهتم به أجدادانا من العصر الحجري: هل النماذج الجمالية “المتطرفة”، البدانة والنحول، هي معينة لجنسنا البشري على البقاء، أم على الفناء؟ أو السؤال مقلوباً: هل نحن مهمومون ببقاء الجنس البشري؟ هل هذا هو سؤالنا الأول؟ أم اننا نخالف اسلافنا ونغيّب نزعة البقاء عن أولوياتنا؟
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية
المستقبل