ترتدي الضاحية الجنوبية مكانة مميزة في نسيج الهوية الشيعية المحدثة التي بلورها خلال الحرب مهجرون من الشيعة، فبإزاء ماض قوامه الهجرة والاقتلاع تعني الضاحية لهؤلاء الشيعة المقام الذي استقروا فيه بعد رحلة التيه والتهجير، وهي في هذا المقام جامع ما تبدد وتفرق لولا نزولهم فيها وثباتهم عليها، ولولا ذلك لما غدا حالهم اليوم على ما هم عليه من قوة ومنعة. وهي المكان الذي احتضن صيرورتهم قوة يعتد بها ويُرهب جانبها، بعدما كانوا ضعيفي الحيلة ووقوداً لسياسات لا تعير مصالحهم وحياتهم أدنى اهتمام، جرت عليهم ما جرت من ويلات جعلتهم يتصدرون قائمة المتضررين من الحرب.
الناظر في أحوال الشيعة، لا سيما المقيمين في الضاحية منهم والنازلون فيها إبان الحرب، يلحظ نزوعهم، في معرض سرد تاريخهم الحديث، إلى قسمته قسمين اثنين: واحد سبق الصحوة يوم كانوا مشتتين وموزعين على مناطق عدة تخالطهم فيها جماعات مختلفة يشكلون هم أقلية بينها، وتتنازع أبنائهم أهواء شتى قومية ويسارية، وما لحق بهم جراء ذلك من ضعف ومآسِ، وثان يلي الصحوة التي تجلت باجتماعهم في الضاحية.وهو الاجتماع الذي آل بهم الى انكفاء وداخلية يخالفان النزول في الضواحي. ذلك ان المدينة التي تحمل الجماعات الوافدة اليها والنازلة في ضواحيها على الخروج من عاداتها وتقاليدها ونمط علاقاتها السابقة القائمة على صلات الرحم والقربى، واستبدالها بعلاقات جديدة تقوم على القبول بالجديد والسعي اليه، وهذا ما يضع الجماعات الاهلية ازاء ظروف مستجدة تمتحن لحمتها وعصبيتها وتفككها الى ذرات فردية ذات مصالح ذاتية بعيدا عن معايير الجماعة العامة وعصبيتها.
كل هذه الامور التي يسع المدينة فعلها تفترض، في محل أول تعدد روافد الهجرة والجمع بين أناس من منابت قرابية وسكنية متفرقة ومختلفة في المكان الواحد. ومثل هذا الجمع هو ما تكون عليه الضواحي التي تستقبل الوافدين الى المدينة.بيد ان هذا ما لم يتيسر حدوثه في اجتماع الضاحية، وما لم تتحه ظروف الهجرة إليها التي أملتها، في وجهها الغالب، ظروف مغايرة لما تكون عليه عادة الهجرات الداخلية من الريف الى المدينة. بل كانت الحرب وظروفها هي من حتمت نزول من نزل في الضاحية، وهم جمع من مهجرين هجروا قسراً من مناطق الضواحي الشرقية في النبعة والكرنتينا والدكوانة، إلى آخرين قدموا بعد ذلك من الجنوب غداة انتقال المناوشات الحربية الى القرى الحدودية عام 1976 و ثم تبعهم بعد ذلك مهجرو اجتياحي 1978 و 1982 . اضف الى هذا بقاعيين وفدوا منذ الخمسينيات وتضاعفت هجراتهم خلال الحرب، فأقام معظمهم في التجمعات السكنية الناشئة عى اراضي الغير في المرامل والجناح وحي السلم والاوزاعي. وكان لنزول هؤلاء مجتمعين في الضاحية، بالتزامن مع تعطل آلة المدينة الآنفة الوصف، الأثر البالغ على الوجهة التي سيسلكها اجتماع الضاحية بعد ذلك.
المؤامرة أو عقدة الاضطهاد
وقد كان لضعف مساهمات تنظيمات اهالي الضاحية الطائفية وهامشيتها في بدايات الحرب أن مكنهم من التخفف من مسؤولية المساهمة المباشرة في الحرب. في وقت استحكمت بهم الى حد بعيد عقدة الاضطهاد. هكذا وعلى الرغم من ان القسم الكبير من البيوت التي نزلوا فيها في بادىء الأمر تعود ملكيتها الى ملاك مسيحيين هجروا منها قسراً، فقد بقي التهجير بالنسبة الى أهالي الضاحية عملً التصق بالاخر وصنيعه ضدهم. ذلك ان من أخلى هذه الأحياء والمنازل التي نزلوا فيها من أهلها كانت التنظيمات الفلسطينية.
على ان الهامشية التي اتسمت بها تنظيمات الشيعة العسكرية، في بداية الحرب،وسّعت لهم في وقت لاحق تصور الحرب كؤامرة حاكها ضدهم الفلسطيني واعداؤه على حد سواء. هكذا اختلطت في رواياتهم لسقوط الأحياء التي هجروا منها اخبار عن تقاضي مسؤولين فلسطينيين أموالا لقاء تسليم المناطق هذه. وعزز مثل هذه الأوهام شيوع أخبار اثناء الاجتياح الاسرائيلي عن عمالة بعض المسؤوليين الفلسطينين لاسرائيل وارتقاء بعضهم الى مراتب عالية ومرموقة في صفوف جيشها.
هذا النحو من التصور لحياتهم السابقة على نزولهم في الضاحية، ورد كل ما لحق بهم من احداث ومآسِ أثناء الحرب الى الفرقة والتشتت اللذين كانا سائدين في أوساطهم، وحملهم الحياة المختلطة أو ما حسبوه حياة مشتركة قبل الحرب، على محمل الضعف الخالصن وتصورهم الحرب كمؤامرة.
ان هذه التصورات والخلاصات الآنفة الذكر لم تعدم الأثر البالغ في إمعان الجماعة في نزوعها إلى الانكفاء على نفسها وتسوير دارها، والارتداد الى أصل متوهم حسبت انها نكصت عنه، وان ما لحق بها لم يكن سوى نتيجة لهذا النكوص.
يبقى أن الآثار المتولدة عن مثل هذه التصورات تصح في جانب منها على جيل الآباء، فيما جيل الأبناء من الذين ولدوا ونشأوا في الضاحية فأن هؤلاء لم يتسن لهم التعرف على أي حياة مشتركة بينهم وبين غيرهم من اللبنانين، وهذا ما يجعلهم يشعرون أن انكفائهم ليس انقلابا على سوية عيش ألفوه أو خبروه سابقاً.
صحيح ان ما لحق بالشيعة من احداث ومآسِ في مجرى الحرب، والشكل الذي تمت عليه روايتهم له، كان له الآثر البالغ فيما انتهوا اليه بعد توطنهم في الضاحية واستقرارهم فيها، غير أن مثل هذه الأحداث لا تعدو كونها مقدمات محفزة على انكفاء ما كان له أن يتحقق لو لا سعي تنظيماتهم الطائفية إليه سعياً دؤوباً.
سعياً اتخذ شكل حرب تحرير توجت بانتفاضة 6 شباط 1984، تاريخ خروج الضاحية على سلطة الدولة واستكمل بعد ذلك على أيدي حزب الله موصلاً إياه (الخروج) إلى ما يقرب من نصاب دولة تامة في الضاحية الجنوبية.
اوجه التباين بين شيعة الضاحية من أهلها الأصليين والشيعة النازحيين اليها (2)
خروج الضاحية على الدولة افتتحه اللاجئون الفلسطينيون وتابع عليه المهجرون الشيعة (فصول من كتاب)