…ثم أدركوا “الفراغَ” المبتغى والمشتهى، من مهندسي الفراغ، وصُنّاع الشغور، ورواد “الجمهوريات” المرتجلة، المفلتة من دساتيرها، وقوانينها، وديموقراطياتها وناسها. ها هم يحتفلون في “سرائرهم”، وفي علنهم، بما أوصلوا إليه البلاد: تعطيل الاستحقاق الجمهوري الأول، أي إبقاء الجمهورية بلا رأس، والرأس بلا جمهورية.
لم نُفاجَأ. ولطالما أكدنا أن معماريي الخراب، ورسّامي “الفوضى”، لا يريدون أن تستمر الجمهورية، إلا إذا كانت منفصلة عن مكوّناتها، وإلحاحاتها، وآثارها، وفاعلياتها، أي أنهم، وعلى امتداد تظاهرهم بقبول المبادرات: من لائحة البطريرك الى بعض الاقتراحات العربية والأجنبية (الفرنسية)، كانوا يحرقون الوقت إحراقهم هذه المبادرات، الواحدة تلو الأخرى. بل كانوا وبحس “عميم” و”حرّيف”، وبعقل أمني “سعيد”، وبذهنية إلغائية مميزة، يستدرجون الأكثرية، والموفدين من بلاد الله الواسعة، لتقديم المبادرات، لاستنفادها، وبترحيب ظاهر، وبنيات سود كامنة. ولطالما قلنا وكتبنا عنهم: “لا تصدقوهم!”. ولطالما أحسسنا أن هؤلاء عبر استنفادهم وسائل “الإنقاذ”، إنما كانوا يخططون لاستنفاد “الجمهورية”، ومختلف الفاعليات، وتعطيل إرادة الأكثرية وسط جعجعة الترهيب والتهديد والاغتيال وإشعال البلد من أقصاه الى أقصاه. (وهذه أمنياتهم).
سياسة الاستنفاد هذه رافقت كل ممارساتهم: من وجودهم في الحكومة، الى طاولة الحوار، الى اللقاءات، الى المبادرات، الى المناشدات، الى الضغوط، الى الحلول: لا شيء أو كل شيء مرشح للعطب. ويعنون أصلاً من كل ذلك تيئيس الداخل والخارج من إمكانية قيام الجمهورية بحسب المكوّنات الديموقراطية وبحسب مشيئة الشعب. بل كأن الجمهورية، والرئاسة، والحكومة، ومجلس النواب ليست سوى تفاصيل “عادية” في استراتيجيتهم “الشمولية” وبمنظور المربعات الأمنية، والارتدادات الكانتونية الانتحارية، والتناقضات الانقلابية: نحن جميعاً، اللبنانيين، بأرضنا وناسنا، وسمائنا، وقوانينا، وتراثنا، ومصائرنا، ودستورنا، لا شيء أكثر من تفصيل في مشاريع خارجية: أو مجرد تفصيل، أو ذريعة، أو وسيلة، أو ممر، لعبور الآخرين، أي الوصايتين (وربما أكثر غداً مَنْ يدري)، للإمساك بتلابيب البلد، عبر التفريغ، والالغاء، والتسفيه، كما قلنا الاستنفاد. لا شيء ممكناً في هذا البلد ضمن إرادة ناسه. هذا ما يريدون قوله وفعله: لا شيء قابلاً للحياة في هذا البلد، ضمن أي مفهوم أكثري: فالشيء الحقيقي الموجود (كما يريدون أن يظهروا) إن هذا البلد أصلاً غير موجود. وناسه أوشام وأرقام. وأرضه بلا أهل. وعبثاً، تحاولون أيها اللبنانيون (العُزَّل إلا من الديموقراطية في مواجهة أسلحة الدمار عندهم!) أن تبنوا شيئاً بأنفسكم. لا تحلموا. ولا تفكروا. ولا تهجسوا. والدليل (كما يريدون أن يقولوا لنا) أنكم عجزتم عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية، كما عجزتم عن فتح أبواب مجلسكم (الكريم)، وكما عجزتم عن الاستمرار في الحوار (!) وكما عجزتم حتى عن المحافظة على الديموقراطية، والسيادة، والاستقلال التي تدعون حصولكم عليها! هذه هي معاني سياسة “الاستنفاد” المستمر، واستنزاف المبادرات، واستهلاك “الآمال”: أمامكم الفراغ: لا أكثر ولاأقل! وإما الفراغ وإما الفراغ: لا خيار ثالثاً إلا الفراغ.
وها نحن في ذكرى الاستقلال الأول، نعاني “فراغ” الاستقلال الثاني، كأنّ نفي الاستقلال الأول ومن دستور الطائف هو نفي للاستقلال الثاني بمضامينه، وخواصه، وإنجازاته، وتالياً نفي الجمهورية نفسها: بحدودها الجغرافية، والسياسية، والاقتصادية، والوطنية، والاجتماعية: كل شيء مرشح للفراغ حتى “ثوابت” هذه الجمهورية، (هكذا يوحون) ويعني أنه عبر الفراغ المفروض، والمفتوح على كل الاحتمالات، إرساء مناخات كانتونية، و”تفقيس” جمهوريات بديلة، خاضعة لجمهوريتي الوصايتين، ولنظامي الكماشتين: وها هو أحمدي نجاد يعلن باسم اللبنانيين أنه أقام حلفاً ثلاثياً إيرانياً سورياً لبنانياً لمحاربة الأعداء: صَادَر الجمهورية كما صادر الحريات الديموقراطية في بلاده وشبّه المعارضة بالماعز فلماذا لا يساوينا، (ذو الرأس الماعز) بجمهور الماعز في بلاده، ويستل إرادتنا، ويقيم الأحلاف ويعلن الحروب باسمنا ما دام عنده أي عندنا وبحمده تعالى: قطعانه، وخرفانه، وماعزه بكل شرف ونظافة واباء… ووطنية يعلنها، ويسمنها، للأوقات القربانية الحاسمة! فاستعدوا!
الوضع دقيق: واللحظة حبلى بالمفاجآت، والأفق يستمر في سده، منذ زمان، “عبسيو الداخل”، و”نجاديو الخارج”: الاستمرار في العبث بكل ما يؤكد، إنجاز الاستقلال، وحيثية السيادة، ووجود الدولة. لا شيء من كل هذا: يتصرفون وكأنهم خارج الأعراف، والهويات، والانتماءات، الجمهورية. فقد يكونون “جمهوريين”، ولكن ليس في الجمهورية اللبنانية، ذلك لأن سعيهم الدؤوب هو الانقلاب عبر إطفاء أي شعلة “تبص” في النفق اللبناني. ونظن، ان استراتيجية “الرفض والاستكبار” والتهويل وتعميم “الفوضى”، وبث الفراغ، والتشكيك في الدولة، وتخريب المؤسسات الدستورية، (رئاسة الجمهورية، مجلس النواب، الحكومة) وتسميم الشارع، واستغلال الديموقراطية لضربها، والحرية لإلغائها، كل هذا مرحلة من المراحل الانقلابية: جعل لبنان أرضاً محروقة ليكون البديل جاهزاً. هذا ما فعلته الهتلرية عندما استخدمت “الشرعية” لضرب الشرعية وسط تهليل الجماهير (الجرمانية) المغسولة الأدمغة والنفوس)، والفاشية، والانقلابات العسكرية (الفئوية) العربية: لا شيء قابلاً للاصلاح في الدولة والنظام والسلطة القائمة، ولا شيء قابلاً للحياة، وكل ما هو موجود “فاسد”… إذاً فلننقض على الدولة. أي ترك الأمور تهترئ وتستنقع على كل المستويات: الاقتصادية وعبسيو الداخل من شَهَرَة الترهيب، يحاولون ضرب الاقتصاد واللبناني وضرب أي احتمال لقيامه وتعافيه. (هذه نقطة مهمة. فمختلف الانقلابات في العالم جاءت أحياناً بعد نكسات اقتصادية: (كالهتلرية)، والاجتماعية أي الحؤول دون ترسيخ دور المجتمع (المدني) والسياسي والحزبي والنيابي والنقابي، وهذا ما فعلته سابقاً الوصايات المتعاقبة على لبنان، لتهميش قيام إرادة اجتماعية ـ سياسية تواجهها، وهذا ما ورثه “عبسيو” الداخل اليوم بعد ثورة الأرز: استكمال التشكيك في هذه الارادات المدنية، للتيئيس منها، تمهيداً لتعزيز الانفصالات داخل هذه البنى، (ومنها الوحدة الوطنية)، وتنويعاتها، وصلابتها، وتماسكها كعناصر أساسية لمكونات وحدة الأرض، والدولة، والشعب. وقد عمل وَرَثَة الوصايتين على امتداد السنوات الماضية، على زرع الشقاق المذهبي والطائفي بين فئات، ليتحوّل الصراع صراعاً مذهبياً بدلاً من أن يكون (كما كان الى حد ما قبل حروب الاستتباع الوصائية على لبنان) صراعاً سياسياً وبرامج عمل وأفكاراً. أي صراعاً بين غيتوات معلنة أو غير معلنة، أي في المحصلة “صراع الخارج” بأقنعة الداخل، بحيث يتحوّل لبنان ساحة خناق، واستهدافاً، لتفاقمات الخارج، وها هي الغيتوية بامتياز: أن تتحوّل الفئات اللبنانية مجرد “محميات” على أرضها تُساس عبر الخارج، من خلال ذرائع طائفية أو حتى ايديولوجية. (هذا ما أسسه الاستعمار في القرن التاسع عشر واستمر حتى الآن). أي أن يتحوّل التقسيم سبباً رئيسياً لنفي كل إمكانية للاستقلال أو للسيادة، أو لقيام الدولة القوية والعادلة والديموقراطية. أوليس هذا ما اقترفته مختلف “الوصايات” العربية وغير العربية وصولاً الى العدو الصهيوني: العبث بوحدة الأرض والناس للتسرّب عبر الشقوق وتمزيق كل شيء بالقوة والتهديد والقمع؟
اليوم، وفي ذكرى الاستقلال الأول، وبعد تأسيس الاستقلال الثاني، يحاول “كانتونيو الداخل”، وحملة لواء التقسيمات على المستوى التراتبي والشعبي، تكرار تلك الظواهر، ولعب الأدوار التي لعبها “المستعمرون” وأهل الوصاية والأعداء: استنزاف كل ما من شأنه أن يساهم في استكمال الاستقلال، وبناء الجمهورية، وتطوير الؤسسات المدنية، وتعزيز الوحدة الوطنية، والخروج من “العوالم” “الغيبية” الغريزية الى زمن العقلانية والانتماء، المواطني.
هذا ما أراده عبسيو الداخل، وفشلوا في تحقيقه، وإن نجحوا نسبياً في عرقلة بعض التطور المطلوب لإنجازات الاستقلال.
وإذا كان هذا ما يرمي إليه “فراغيو” الوصايتين، بنشر “فراغهم” الواقع، لتأكيد ثقافة “الفراغ” التي يتبنونها كمنهج ووسيلة للتخريب، فإن حماة الاستقلال، أقصد الأكثرية من الناس، تستمر، في مقاومة محاولات عبسيي الداخل (الخوارج) لتيئيسها من قدراتها، وقضاياها وانتماءاتها، واقتناعاتها، من خلال الاصرار على ما تحقق، ورفض العودة الى الوراء، والى نقاط الصفر التي يرسمها أهل “الاصفار” وصحارى “الإحباط” التي يبشرون بها. وإذا كان همُّ مرتزقة الوصايتين والوصايات الأخرى، ملاحقة فصل الارادة الأكثرية عن القرارات الاستقلالية والوطنية والديموقراطية، متجسداً ـ بتعميم الفراغ ومنع المؤسسات من لعب أدوارها الدستورية، فالمطلوب، تجديد المقاومة الوطنية الشعبية والنيابية والسياسية، للحفاظ على ما تحقق، وتطوير ما تحقق، ومجافاة الاحباط، والخوف، والرهبة، التي يبثها كالأوبئة أهلُ الترويع والتفريغ والتربيع والتدوير.
وكما قاومت أكثرية الشعب اللبناني المحاولات الانقلابية التي ارتكبها أهل الوصايتين، من حركات كانون الثاني، الى جرائم العبسي، الى احتلال وسط العاصمة، الى قطع الطرقات، الى الاعتداء على المواطنين العزّل، الى التهديد بالسلاح الآتي من الخارج، الى إغلاق مجلس النواب، وتهميش رئاسة الجمهورية، ومحاولات إسقاط الحكومة الحالية، ستقاوم هذه الأكثرية مختلف التداعيات التي قد تخلفها مبادرة هؤلاء، الى تعطيل الاستحقاق الرئاسي، وعلى كل المستويات وبالوسائل الديموقراطية.
أمس. نزل نواب الأكثرية الى مجلسهم، ليؤكدوا ثوابت الجمهورية، والدستور، وموقع الرئاسة، والمؤسسات، ودور الناس، والآليات الديموقراطية. نزل نواب الأكثرية الى مجلسهم برغم الارهاب الدموي المسلط عليهم، والذي يرصدهم، ويتهددهم به الفاشيون والخوارج والقَتَلَة، مؤكدين أولاً وأخيراً على وحدة صفوفهم وتماسكهم في مواجهة “مجنون السلطة” ومجانين الخراب!
فالجمهورية المعززة بتضحيات الناس والشهداء أقوى من ترهيب من هنا، وتهويل من هناك، وتفريغ يشهده أهل التفريغ، وتلويح بحروب وفوضى، فالجمهورية أقوى، من أي فراغ يدار أو يساس أو يشوش، أو يوظف للشرور والانقلابات. وإذا كان على اللبنانيين أن يشهدوا كيف أوصل هؤلاء الاستحقاق الرئاسي الى الأدراك والأسافل، وكيف حوّلوه بازاراً رخيصاً، وكيف نشروا بين الناس مشاعر القلق والتخوّف والترقب، فإن أهل الجمهورية، من ناس 14 آذر (موحدين) والحكومة برئاسة السنيورة، فسيعرف الناس أن مخططاتهم هذه ستنقلب عليهم (ككل محاولاتهم السابقة)، وسيعرف السنيورة، رجل الدولة الكبير، وحكومته، كيف يستمرون في إدارة البلاد ويؤمنون مصالح العباد… صخرة الحكومة التي لم تقوَ عليها قوى الشر والقتل والفساد، لن تَقوى عليها قوى الشر والقتل والفساد، لن يقوى عليها الفراغ: فلها أن تدير الجمهورية في فراغ الجمهورية من “رئيسها” الجديد، ولأهل الفراغ ان يديروا دواماتهم وضلالهم، فلم يعد لأهل الفراغ إلا أن “يقودوا” فراغهم الذي سيقودهم بإذنه تعالى الى خرابهم، وتفكيكهم وإن غداً لناظره قريب!
المستقبل