كتبه د.. رالف غضبان بمراجعة المؤلف
صدر في العام 2000 كتاب للمستشرق الألماني (كريستوف لوكسنبرغ ) يعرض فيه قراءة جديدة للمقاطع الغامضة الواردة في القرآن الكريم بعنوان : Die syro-aramäische Lesart des Koran. Ein Beitrag zur Entschlüsselung der Koransprache (Das Arabische Buch, Berlin 2000) ” قراءة آرامية سريانية للقرآن ـ مساهمة في تفسير لغة القرآن ” (دار الكتاب العربي، برلين 2000 )
لمّا تعذَّر على أهل اللسان إيضاح ما غمُض في لغة القرآن مع قوله بالنزول بلسان عربي مُبين، ذهب المفسّرون إلى أنّ هذا الغموض يعود إلى لغة قريش مُعللين اعتقادَهم بقوله تعالى (وما أرسلنا من رسولٍ إلا بلسان قومِه ليُبيّن لهم) (سورة ابرهيم، الآية 4).
إنطلاقا من هذا الإشكال يتمَحْوَر البحث الجديد حول واقع اللغة، وبالأخص لغة الكتابة التي كانت منتشرة في مِنطقة الشرق العربي في الفترة التي دُوّن فيها القرآن الكريم. هذه اللغة هي الآرامية، وقد نعتها الإغريق منذ عصر ما قبلَ الميلاد بالسُريانية نِسبة إلى مملكة آشور في بلاد ما بين النهرين وسوريا الطبيعية. وتنتمي أقدم نقوش آرامية اُكتُشِفت حتى الآن إلى القرن التاسع قبل الميلاد. وقد عُرف الآراميون الذين اعتنقوا النصرانية بالسُريان تمييزا عن أبناء أمّتِهم الوثنيين بحيث أَضحى لقب الآرامي مُرادِفا للوثني. والطبرى لا يَذكر في تفسيره الآرامية بل السريانية. وما رفع من شأن اللغة السريانية ترجمة الكتاب المقدس (التوراة والإنجيل) منذ القرن الثاني الميلادي وربما قبله إلى سريانية الرُّهَى، وهي اللغة الآرامية المَحكِيّة في مِنطقة الرُّهَى (وهي أورفا الحالية) الواقعة في شمال غرب بلاد ما بين النهرين. ومع تنصّر الملك أبجَر الخامس، ملك الرُّهَى، في أواخر القرن الثاني الميلادي وانتشار النصرانية على يد السُريان انطِلاقا من سوريا وبلاد الرافدين، أصبحت السريانية بفضل ذلك لغة الكتابة ليس في سوريا وبلادِ ما بين النهرين فحَسْب، بل وتجاوَزتها إلى مناطقَ مجاورة، منها بلاد فارس وشبه الجزيرة العربية. وقد ورد في حديث نَبَوي شريف أن النبي (صلعم ) طلب من زيد بن ثابت الذهاب إلى بلاد الشام لتعلّم السريانية، مما يبيّن لنا أهمية اللغة السريانية (المسيحية) في العصر الذي نشأ فيه القرآن الكريم وما بعده. إذ نعلم من تاريخ الأدب العربي اللاحق أن للسريان حظا وافرا في تطوير اللغة العربية الكتابية بما أنجزوه من ترجمات من السريانية واليونانية إلى العربية في العصر العباسي، فأضحَت اللغة العربية بعد السريانية لغةَ الآداب والفلسفة والعلوم. والمعروف أن الآرامية القديمة بدأ تدوينها بحسب النقوش المكتشفة منذ القرن التاسع قبل الميلاد، وأن ملوكَ الفرس اتخذوها لغة دَواوينِهم واستعملوا الخط الآرامي لكتابةِ الفارسية الوسطى (البَهلويّة) كما اتخذها بنو اسرائيل بعد سَبيِـهم إلى بابل لغةً لهم، فدوّنوا بها جُزءا من كتبِهم المقدسة منها كتاب النبي دانيال وتراجمُها. وليست السريانية إلا امتدادا للآرامية القديمة بطابعها المسيحي بعد الميلاد وباتت اللغة الرسمية إلى جانب العربية في العصر الأموي حتى عهد عبد الملك بن مروان (685 – 705 م)، مما يبيّن الاتصال الوثيق الرابط بين العربية والسريانية حتى عصر ما بعد الفتوحات.
تأسيسا على هذه الخلفية التاريخية المُسَلَّم بها، ينطلق لوكسنبرغ في بحثه اللغوي من عصرٍ يسبِقُ وضعَ قواعدِ اللغةِ العربية على يد سيبَوَيْه (المتوفَّى سنة 795 م) بحوالي مِائةٍ وخمسين عاما، معتبرا أن اللسان العربي الذي أنزل به القرآن يختلف عن العربية التي وضع أسسها مجموعة من النحويين الأعاجم والعرب. ويشكك المؤلف بكفاءة هؤلاء النحويين وبالأخص الأعاجم منهم، الذين يجهلون “اللسان” الذي أنزل به القرآن، مستندا بذلك إلى صاحب “جامع البيان عن تأويل القرآن”، أبي جعفر محمد بن جرير الطبري (839 – 923 م) الذي أدرك الطابع الخاص المميز للغة القرآن، إذ ناشد “أهل اللسان الذين لهم علم باللسان الذي نزل به القرآن… والذين هم أوضحهم برهانا فيما ترجم وبيّن من ذلك… “، أن يتفضلوا بتفسير ما تيسر لهم من قبل علمهم، ومضيفا إلى ذلك: “كائنا من كان ذلك المتأول والمفسّر “.
يشير لوكسنبرغ إلى أن القرآن هو أول كتاب دوّن باللغة العربية لعدم وجود أي أثر تاريخي لمخطوط سابق ما خلا بعض النقوش النبطية القريبة من العربية. وكان الخط العربي في بداياته كنظيره النبطي مجردا من النقـاط والحركات. يشـهد على ذلـك العديـد من المخطوطات القرآنية وغيرها المحفوظة في المتاحف شرقا وغربا، وآخرها تلك التي اكتشفت في أوائل السبعينات تحت سقف جامع صنعاء الكبير. وهناك إجماع على أن النقاط المميزة لاثنين وعشرين حرفا من حروف الأبجدية العربية قد أضيفت إلى النص القرآني في وقت لاحق. إلا أن هناك غموضا حول الزمن الذي تم فيه التنقيط. لكن الملاحظ أن الطبري (القرن التاسع / العاشر ميلادي) قد اعتمد في تفسيره إجمالا على النص الحالي المنقوط.
يؤكد المؤلف أنه وضع جانبا كل النظريات السابقة الصادرة عن مستشرقين أو عرب في محاولاتهم العديدة لتفسير القرآن انطلاقا من عربية سيبويه وما بعده التي ليست بعربية القرآن، مستندا فقط إلى علم اللسان الذي يقضي بقراءة النص وفهمه في إطاره الزمني مجردا من المؤثرات اللاحقة. ولأن المفسرين اعتمدوا على النقل الشفهي اللاحق دون المبالاة باللغة طبقا لإطارها التاريخي، وقعوا في الخطأ ونتج عن ذلك ما يعرف بـ “المقاطع الغامضة” في القرآن. ويؤكد لوكسنبرغ بأنه علاوة على “المقاطع الغامضة”، هناك نصوص أخرى في القرآن غير مشكوك قي صحة فهمها العربي حتى الآن، بيّن البحث أنه ينبغي إعادة قراءتها على ضوء علم اللغة الموضوعي.
وقد سلك لوكسنبرغ في بحثه هذا منهجية تتلخص بخطة تدريجية قوامها خمسة وهي :
1) يراجع لوكسنبرغ في خطوة أولى تفسير الطبري تقديرا منه بأن التقليد الاسلامي ربما احتفظ بالشرح الصحيح دون أن يأبه به المفسرون داعما ذلك بالأدلة اللغوية. وإلا فيلجأ في خطوة ثانية إلى موسوعة لسان العرب لابن منظور (1232 ـ 1311 م ) ربما يعثر فيه على الشرح المناسب، سيما وأن الطبري لم يرجع في تفسيره إلى أي قاموس عربي كان، معتمدا على النقل الشفهي دون سواه ولو أنه استشهد في بعض الحالات بالشعر العربي مع بعده من لغة القرآن. وكثيرا ما يؤدي هذا التحقيق إلى نتيجة إيجابية.
2) فإن لم يكن ذلك، عمد لوكسنبرغ إلى قراءة الرسم القرآني دون أي تغيير قراءة سريانية أعطت النص في عدد من الحالات معناه المنطقي.
3) وإن لم يكن ذلك، باشـر لوكسنبرغ في محاولة أولى بتغيير نقاط الحروف التي ربما وضعت عن عدم إلمام المحقق العربي بمفهوم نص القرآن في قراءته العربية. وقد أدت هذه الخطوة في حالات غير قليلة إلى نتائج إيجابية.
4) وإن لم يكن ذلك، شـرع الباحث في محاولة ثانية بتغيير نقاط الحروف بهدف إيجاد مصدر لقراءة سريانية، وقد أدت هذه المحاولة في حالات عديدة إلى قراءة تعيد للنص معناه الحقيقي.
5) وإن فشلت جميع هذه المحاولات وكان التعبير كتابة وقراءة عربيا لا شك فيه وإنما دون أن يعطي معنى مناسبا للنص، لجأ الباحث حينذاك إلى محاولة قصوى تكمن في ترجمة التعبير العربي إلى السريانية لاقتباس مفهوم هذا التعبير من معانى مرادفه السرياني. وقد بيّن البحث بأن هذه الخطوة تتجاوز الخطوات الأربع السابقة أهمية، إذ كثيرا ما يعطي مفهوم التعبير السرياني النص القرآني العربي الغامض معناه المنطقي الجلي.
وفي سياق تطبيقه اللغوي المفصل لهذه المنهجية تطرّق لوكسنبرغ لبعض التعابير والآيات القرآنية معتمدا في ذلك بانتظام على المراجع العلمية عربية كانت أم سريانية، نعرض منها نموذجا مبسطا لكل من الخطوات المذكورة:
أ) من جملة الآيات غير المشكوك في فهمها إلى يومنا هذا الآية 64 من سورة الإسراء. وموضوع هذه الآية أنه تعالى طرد إبليس من الجنة لرفضه السجود لآدم، فاستأذن منه إبليس أن يسمح له عز وجلّ أن يجرب الناس إلى يوم الدين، فأذن له تعالى وأردف بقوله ما يلي : (واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الآموال والأولد وعدهم وما يعدهم الشيطن إلا غرورا)
شرح الطبرى هذه الآية بالمفهوم التالي: (استفزز) بمعنى أفزع بصوتك، مع أن هذا المفهوم يناقض المفهوم القرآني القائل بأن إبليس (يوسوس في صدور الناس) (سورة الناس، 5 ). ويشير لوكسنبرغ إلى أن لسان العرب يشرح استفزه بمعنى ختله حتى أوقعه في مهلكة، وهو المفهوم الصحيح لهذا التعبير المطابق للمفهوم القرآني. ويشرح الطبري (وأجلب عليهم بخيلك ورجلك) بمعنى الهجوم على الناس بجلبة لتخويفهم بالخيالة والمشاة، وهذا المفهوم يخالف أيضا المعنى القرآني. فيقرأ لوكسنبرغ اعتمادا على اللسان أخلِب عوضا عن (أجلِب) بمعنى احتل أو أنصِب عليهم. ولمّا تعسّر الاحتيال على الناس بالهجوم عليهم بجلبة بالخيّالة والمشاة يرى لوكسنبرغ من الأنسب قراءة بحبلِك (بمعنى حبالِك أو حيَلِك) بدلا من (خيلِك) ودجلِك بدلا من (ورجِـلِـك)، مما يتوافق والمنطق القرآني. أما (وشاركهم بالأموال والأولـد) فيعجب أهل التفسير من سماحه تعالى لإبليس بمشـاركة الناس بالأموال والأولاد مع علمهم بأنه عزّ جلاله هو الذى يرزقهم إياهم، فيرى الطبري الحل بشرحه هذا المقطع بمعنى مشـاركة إبليس الناس بمال الحرام وأولاد الزنى، بينما يشـير لوكسنبرغ إلى أن مصدر (سـرك) بالسريانية مشتق منه الشَرك والأشراك بالعربية والمقصود منه مصدر شرّكَ بمعنى أغرى، مستشهدا لذلك بالحديث النبوي الشريف القائل: (أعوذ بك من شرّ الشيطان وشَرَكِه). والمفهوم القرآني أن إبليس يغري الناس بوعده الكاذب إياهم بالمال والبنين وليس بمشاركته إياهم بهم، ويتضح هذا المفهوم من نهاية الآية: (وعدهم وما يعدهم الشـيطن إلا غرورا) (أنظر كتاب لوكسنبرغ ص 216 – 220 ). وتعطي هذه الآية لوحدها خمسة أمثلة نموذجية عن نقاط المنهج رقم 1 و 2 و 3.
ب) مثالا عن المنهج رقم 2 هناك كلمة بسيطة عجز المفسرون شرقا وغربا عن شرحها حتى الآن وردت في سورة المدّثر الآية 51 وهي (قسْوَرة)، ومفهومها من نص الآيات 49 -51 : (ما لهم عن التذكرة معرضين / كأنهم حمر مستنفرة / فرت من قسورة )
أجمع المفسرون العرب على أن هذه الكلمة حبشية الأصل لبعدها عن العربية وقـدّروا بأنه لا بد أن المقصود منها الأسـد لفرار الحُمُر (أي الحمير) منه، بعد أن تبيّن لأحد المفسرين بأن الأسد يقال له بالسريانية (أريا)، مما يدل على أن بعضهم كان له إلمام بالسريانية. ثم جاء المفسرون الغربيون فبحثوا في أصل هذا التعبير ولم يجدوا له اشتقاقا من الحبشية، فاستنتجوا بأن معنى الأسد أقرب ما يمكن اشتقاقه من أصل قسـر العربي الذي يعني أرغم وأجبر، وأن المعنى الحقيقي لهذا التعبير ما زال غامضا. إلا أن الرسم القرآني يشير إلى اسم فاعل سرياني على وزن (فعولا) (بقراءة فاعولا fa‘ola ) المشتق منه الوزن العربي فعول وفاعول. والكلمة هي في الواقع سريانية الأصل ويمكن اشتقاقها من أصل قسر وقصر كما تثبته لنا القواميس السريانية، فنجـد هذا التعبير بقلب السـين والواو بكتابة (قوسرا qusra ) بالسين و(قوصرا) بالصاد، وهي كتابة سريانية لا تختلف لفظا عن كتابة (قوسره) qusra و(قوصره) في غيرها من اللهجات الآرامية. ويذكر لسـان العرب بأن أهل البصرة يقولون للمرذول إبن قَوْصَرة qausara (والأصح قوصْرَه qusra أو قوصْرا لفظا والقاصر أو الفاشل معنى) ناسبا إلى أبن دُرَيد قوله: لا أحسَـبُه عربيا ولو نطقوا به قديما، مما يثبت مجددا اختلاط اللغتين العربية والسريانية سابقا. والرسم القرآني قسوره أصحّ سريانيا ويلفظ قاسورا qasora (بلفظ الواو بالإمالة نحو الواو) وليس قَسْوَِرَة qaswara بتشكيل مُصحَف القاهرة. أما المعنى بشهادة المراجع السريانية فهو الحمار الهرم الذي لا يستطيع الحَمل. والمراد بالتعبير القرآني أن هناك احتمالين لفرار الحمر المستنفرة: أ ) إما الهرب من شيء مرعب كالأسد، وهذا أمر بديهي يبرر الهربَ منه، ب ) وإما الهرب من شيء غير مفزع، كقولك عن أحد يهرب من خياله! وهذا هو المقصود في النص القرآني الذي يشـبّه استنفار الهاربين من تذكرة القرآن بالحمير الهاربين ليس من نظيرهم فحسب، بل ومن دابة هرمة هالكة ليس فيها ما يدفع إلى الهرب. ويقابل هذا التعبير بالعربية القاصر المثبت للأصل السرياني لفظا واشتقاقا ومعنى (انظر كتاب لوكسنبرغ ص 45 – 47). ج ) يشير لوكسنبرغ إلى أن المفسرين العرب فهموا كلمة قسورة qaswara qasora / بمعنى الأسد بينما المقصود منه الحمار الهرم بالسريانية، وقرأوا الرسم القرآني (وانظر إلى حمارك) (سورة البقرة، 259 ) بمعنى الحمار عربيا، بينما المقصود منه سريانيا صفة لبني آدم. وتوضيحا لهذا التعبير نأخذ عن لوكسنبرغ (ص 176 – 183) الآية المذكورة كمثال عن المنهج رقم 2 و 4 (وموضوع الآية أن الله أمات إنسانا لا يؤمن بالقيامة ثم بعثه بعد مائة عام فقال له) : (وانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر ألى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما) قبل الوصول إلى كلمة (حمارك) يتساءل لوكسنبرغ عما عساه تعالى يقصده بالإشارة إلى هذا الإنسان الذي بعثه بعد ممات مائة عام إلى طعامه وشرابه، مع أنه ليس هناك أي صلة بالطعام أو الشراب. ولما لم يمكن فهم هذين التعبيرين عربيا بغير مفهوم الأكل والشرب، يرى الباحث شرحهما بمفهوم سرياني يوافق النص القرآني. ولما كانت الألف الوسطى مضافة غالبا في المصاحف اللاحقة، يقرأ لوكسنبرغ سريانيا طعما بشرح المراجع السريانية التي تعطي 1) معنى العقل والفهم ومشيرا إلى التعبير (السرياني الآصل) الشائع في الدارجة القائل (حكي بلا طعمه) بمعنى بلا فهم، و 2) معنى الحال والشأن والأمر. ولما كان هذا المعنى مطابقا للتعبير السرياني التابع (شـربا sharba ) (بغير معنى الشراب العربي)، يرى لوكسنبرغ بأن هذين اللفظين مرادفان بدليل الفعل التابع لهما بصيغة المفرد المذكر (لم يتسنّه)، وناسبا هذا الفعل أيضا إلى أصله السرياني (إشتني) eshtni الذي يعني تغيّر طبقا لشرح الطبري، فيكون المفهوم: (أنظر إلى حالك وأمرك، لم يتغيّر ).
ويشـرح لوكسنبرغ بأنه علينا أن نفهم الرسم (حمارك) بقراءة سريانية (جمارك) gamárika أي كمالك (ومنها بالعربية كلمة الجمر أي اكتمال النار في الفحم)، فيقرأ لوكسنبرغ الآية كالآتي: (وانظر إلى كمالك)، مما يعطي معنى منطقيا إلى ما سبق بخلاف القراءة التي درجت منذ تنقيط القرآن بمعنى الحمار الذي ليس له أي مكان في هذا النص. ودليـل ذلـك أنّ تعـالى يُردِف قائلا : (ولنجعلك آية للناس) وليس (لنجعل حمارك آية للناس). ويشير لوكسنبرغ أخيرا إلى أن قراءة (ننشزها) خاطئة والمفروض قراءتها (ننشرها) داعما هذه القراءة العربية بدليل مرادفها السرياني (فشط) pshat الذي يعني عدا نشـر وبسط : أصلح وعدّل، فيكون معنى الآية بقراءتها العربية والسريانية: (أنظر إلى حالك وأمرك لم يتغيّر وانظر إلى كمالك ولنجعلك آية للناس أنظر إلى العظام كيف نصلحها ثم نكسوها لحما)..
كمثال آخر عن المنهج رقم 4 نذكر عن كتاب لوكسنبرغ (ص 102 – 121) تفسير الآية 24 من سورة مريم : (فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتـك سـريا) يشير لوكسنبرغ في بداية شرحه إلى السيوطي (1445 – 1505 م) الذي يذكر عن أبي القاسم في كتابه “لغات القرآن” وعن الكرماني في كتابه “العجائب” بأن تحت كلمة نبطية (وهي لغة الأنباط السريانية أو مزيج من العربية والسريانية) تعني البطن (بمعناها السرياني جنين). ولم يأبه المشتشرقون لهذا الشرح معتبرين بأن تحت في اللغات الآرامية والعبرية والسريانية والحبشية لا تختلف عن معناها العربي بشيء. ولم يرد في تفسير الطبري أي شك عن معنى تحت ما خلا التساؤل عمّا إذا كان الذي نادى مريم من تحتها جبريل أم عيسى (عليه السلام)، بينما اختلف أهل التأويل في تفسير سريا، فاعتبره الطبري جدول ماء، داعما ذلك بقوله تعالى : (فكلي واشربي) (الآية 26). وأيد المفسرون الغربيون هذا المفهوم بالإشارة إلى مقطع من إنجيل منحول منسوب إلى متى ورد فيه بأن عيسى (عليه السلام) لدى هربه مع أمه مريم إلى مصر طلب من النخلة، حيث لجآ للاستراحة أثناء عبورهما الصحراء، أن تفتح جذورها لتخرج ماءا وتروي ظمأ أمه. واعتبر المفسرون الغربيون هذه الرواية مطابقة لما ورد في القرآن إثباتا لكلمة سـريا بمعنى الجدول. ويرى لوكسنبرغ بأن المفسرين شرقا وغربا قد أخفقوا في محاولاتهم لتوضيح هذه الأية لاعتمادهم على مجرّد اللغة العربية اللاحقة من ناحية ولاستشهادهم بنص بعيد عن مفهوم النص القرآني من ناحية أخرى.
وفي شرحه المفصل لكلمة “تحت” يشير لوكسنبرغ إلى أن لا أصل لها في العربية وأنها مشتقة من الفعل السرياني (نحِت) nhet (بلفظ نحِث nheth وبمعنى نزل وانحدر) المشتق منه الفعل العربي نحت المفهوم منه نحت الحجر وغيره لتسويته أو صقله، والمراد منه سريانيا تنزيل ما زاد منه، ومنه النحاتة أي ما نزل من كسارة لدى النحت. وقد ورد هذا التعبير بالمعنى المجازي في بيت للشاعرة الخرنق، أخت الشاعر طرفة (حوالي 538 – 564)، ونصه : الخالطين نحيتهم بنُضارهم وذوي الغنى منهم بذي الفقر
يلاحظ لوكسنبرغ بأن لسان العرب أخطأ بشرحه معنى النحيت بالدخيل على قوم لعدم فهمه أصل فعل نحت السرياني بمعناه المجازي، مع أن تعبير النُضار (أي الأشراف) يوضح المعنى المناقض للنحيت الذي يعني بالسريانية الوضيع الأصل، القليل الحسب والنسب، كما يتضح هذا النقيض من خلط ذوي الغنى منهم بذي الفقر. وتمهيدا لقراءة الرسم الفرآني (تحتها وتحتك) بمعنى البطن (أي الجنين) المنسوب إلى النبطية بحسب السيوطي نقلا عن أبي القاسم والكرماني، ينفي لوكسنبرغ هذا المفهوم، إلا أنه يرى له علاقة بالمقصود به إذا قرأنا بدلا من (تحتك) نحتك بلفظ نُحاتكِ بمعنى وضعك أو توليدك بالسريانية. وإثباتا لهذا المعنى يشرح لوكسنبرغ بأنه علينا أن نفهم حرف من ليس بمعنى ظرف المكان العربي (من تحتها) بل بمفهوم ظرف الزمان السرياني (من نُحاته)ا nuhatiha أي حال وضعها. ويثبت هذا المعنى السرياني لحرف من قولك في الدارجة: (من وصلتي قلتلّه) أي حال وصولي قلت له.
وتوضيحا لشرحه تعبير النُحات بمعنى الوضع أو التوليد، يلاحظ لوكسنبرغ بأن هذا المفهوم لم يرد في المراجع السريانية، وإنما ورد مرادف له وهو (نفَل) nfal أي هبط وسقط في مرجع آرامي آخر بمعنى الوضع أو التوليد غير الطبيعي أو الفائق الطبيعة بخلاف الولادة الطبيعية. ولما لم يرد في القرآن سوى وَلَدَ ووَضَعَ للتعبير عن التوليد أو الولادة الطبيعية، ينبّه لوكسنبرغ إلى أهمية تعبير النُحات الذي لم يرد في القرآن إلا في هذه الآية تعبيرا عن ولادة عيسى (عليه السلام) غير الطبيعية أو الفائقة الطبيعة مميزا إياه عن ولادة أي مخلوق آخر، والمعنى الحقيقي للنُحات هو التنزيل، وربما كان المراد به تنزيله من العُلا. ويرى لوكسنبرغ في هذا المقطع من سورة مريم وبالأخص في هذا التعبير اصطلاحا لاهوتيا ذا أهمية قصوى بالنسبة إلى تاريخ الأديان.
استنادا إلى ما سبق يكون مفهوم المقطع المذكور: فناداها حال وضعها ألا تحزني قد جعل ربك وضعك سـريا !
لإيضاح معنى سريا المختلف عليه، يباشر لوكسنبرغ بنقض ما حاول المفسرون شرقا وغربا فهمه بمعنى جدول الماء، مشيرا إلى أن استناد الغربيين إلى المقطع المذكور من إنجيل منحول منسوب إلى متى لا يأخذ بعين الاعتبار النص القرآني. فإن أمر الطفل عيسى (عليه السلام) النخلة بتفجير الماء لإرواء ظمأ أمه، بحسب هذا الانجيل، فالسبب يعود إلى انقطاع الماء في الصحراء المجاورة. أما في النص القرآني فالوضع يختلف تماما. فهتاف مريم (يليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا) (الآية 23 ) لم يأت عن خوف منها من الموت عطشا، بل بالأحرى عن يأسها لاتهامها بصورة غير مباشرة بالحمل الحرام كما يتضح ذلك من الآية 28: (يأخت هرون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا)، ولنبذها لهذا السبب من بيت أهلها وفقا للآية 16: (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا).
ويشرح لوكسنبرغ فعل انتبذت بمعنى طُرِدت من (قبل) أهلها بصيغة المجهول وفقا للنحو السرياني الذي يجيز استعمال المجهول مع ذكر الفاعل بخلاف النحو العربي الذي وُضعت قواعده فيما بعد عن يد أعاجم لم يلمّوا بأصول لغة القرآن. ويشير لوكسنبرغ إلى مقاطع أخرى في القرآن ورد فيها الفعل المجهول مع ذكر الفاعل بواسطة حرف مِن، منبّها إلى أن القرآن لا يخضع لقواعد العربية اللاحقة وأنه على الباحث أن يأخذ بعين الاعتبار قواعد السريانية التي تفتح لنا أبعادا جديدة لفهم لغة القرآن وإدراك معانيه.
ثم يردف لوكسنبرغ في شرحه لِما اتهمت به مريم بأنه لا يعقل أن يكون أول كلام وجهه اليها ابنها حال ولادته للتخفيف عن يأسها عبارة عن جدول ماء جعله ربها تحتها. إنما المنتظر أن يكون في كلامه لها عزاء يناقض اتهامها بالحرام لإزالة هذا العار عنها. ولما كان نقيض ابن الحرام (وفقا للكلام الذى ما زال دارجا) ابن الحلال، يثبت لوكسنبرغ بالمراجع السريانية بأن الرسم القرآني (سـريا) sariyya يلفظ سريانيا شـريا shary، وهو عبارة عن صفة فعلية مشتقة من فعل شـرا shra (أي حلّ) وتعني الحلال. وعليه وجب قراءة الآية كما يلي : (فناداها من نُحاتِها ألا تحزني قد جعل ربك نُحاتكِ شـريا ) كما وجب فهمها وفقا للعربية المعاصرة كالتالي : (فناداها حال وضعها ألا تحزني قد جعل ربك وضعَكِ حلالا ).
الـخــلاصــة
لم يُعرض في هذا الملخّص إلا نماذج يسيرة عما غمض في القرآن توضيحا للمنهج الذي اتبعه الباحث في دراسته التي تزيد عن 300 صفحة. ويقول المؤلف في المقدمة بأن هذه الدراسة لا تشكل سوى جزءا من أبحاث واسعة حول لغة القرآن يأمل نشر نتائجها فيما بعد. وبذكره الأبحاث اللغوية التي نشـأت في الغـرب منذ منتصف القرن التاسع عشـر، يشـير لوكسنبرغ إلى أن هذه الأبحاث اقتصرت على شرح اشتقاق عـدد محدود من الألفـاظ غير العربية في القرآن دون تغيير معانيها، بينما تبيّنت من هذه الدراسة مفاهيم جديدة بعيدة كل البعد عما سبق تفسيره لألفاظ ومقاطع غير يسيرة في نص القرآن.
ومن جملة هذه المفاهيم التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من العقائد الاسلامية بخصوص الجنة تفسير لوكسنبرغ الجديد لما أجمع التقليد الاسلامي على تسميته بـ “حوريات الجنة”. وفي تحليل لغوي معمّق للآيات المنسوبة لها، يشرح لوكسنبرغ على 40 صفحة (221-260) بأن أهل التفسير شرقا وغربا قد أخطأوا في فهمهم التعابير القرآنية اعتمادا على عربية ما بعد سيبويه. ويبيّن لوكسنبرغ لغويا وموضوعيا بأن هذه التعابير ترجع إلى نصوص سريانية معروفة بالـ “ميامر” ألفها أفرام السرياني (306 – 373 م) في القرن الرابع ميلادي عن الجنة. وخلاصة الشرح أن لفظة حـور صفة سريانية للعنب الأبيض وأن عين صفة اسمية تعبر عن صفاء وبريق الحجارة الكريمة التي ينعت بها القرآن نصاعة العنب الأبيض إذ يشبهه باللؤلؤ المكنون. ولما نعت القرآن (الولدان المخلدون) بنفس التعبير، تبيّن كذلك بأن المراد بالولـدان وفقا للمرادف السرياني (يلـدا yalda ) : الثمار، فتوجّب قراءة مجلدون بدلا من (مخلدون)، أي أن ثمار الجنة تؤكل باردة (مجلّدة) بخلاف أهل الجحيم (الآكلون من شجر من زقوم … فشربون عليه من الحميم) (سورة الواقعة، الآية 52، 54 ).
ويستنتج لوكسنبرغ من تحليله اللغوي بأن “اللسان الذي أنزل به القرآن” لا يمكن فهمه إلا بالرجوع إلى لغة القرآن الأساسية ضمن مفهومها التاريخي والتي يكمُن سـرُ فهمها في انسجام عناصر من اللغتين العربية والسريانية.
ralphghadban@gmx.de
فيديو لمترجم الكتاب إلى الإنكليزية تحت عنوان The Syro-Aramaic Reading of the Quran يقدّم عرضاً مبسّطاً للكتاب:
مقال مهم جدا