أجنحة النظام السابق هي النظام الحاكم اليوم، وهي التي تتحكم بمقاليد الأمور بنفس الأدوات وتمارس نفوذها الطاغي على المجال العام وتقتسمه وتتنازعه وتتوزعه بعنفوان متفلت، وتدير الفوضى والخراب، وتحرك المافيات والمليشيات ومعظم عناصر الإرهاب والتهريب كأبناء وإخوة في الرضاعة والدم.
تلك الأجنحة تقتسم النفط ومشتقاته وتنظيم القاعدة ومعظم العقارات والوزارات والسفارات والبنوك و…الخ.
وتعمل هذه الأجنحة التي كانت تقتسم تفاحة السلطة ولا زالت بكل ما أوتيت من قوة وسطوة، ومن حيل التاريخ وخبراته ومكائده ومصائده على منع الرئيس عبدربه منصور هادي من ان يكون هو، والحيلولة دون تمكينه من ممارسة دور ترتسم بموجبه بصمته الخاصة، أكان من خلال تجسيد خريطة طريق “المبادرة الخليجية” والوصول الى عتبات الدولة، أو من خلال تصديه لملف الإرهاب و”القاعدة” وغير ذلك من الملفات.
ولئن كانت الظروف التي أتيحت للرئيس هادي أفسحت أمامه الفرصة بأن يشكل فرقا لافتا، إلا أن تلك الأجنحة وقفت له بالمرصاد، وبدا واضحا أنها كانت قبلت على مضض بالتوقيع على المبادرة وبمبدأ التقاسم والمحاصصة في إطار ما سمي بـ”حكومة الوفاق” من قبيل كسب الوقت أولا، وبعد ان اقتنع كل طرف انه ليس بمقدوره حسم المعركة عسكريا والانفراد بالحكم واحتكاره ثانيا.
وبوضوح كانت الأجنحة التي اقتسمت كعكة السلطة لعقود مديدة تشكل الدائرة الضيقة للحكم وعندما كبر حجم الكعكة وكبر “العيال” انقسمت ثم ارتضت بصعود البديل “المؤقت” –هادي- وسعى كل طرف باتجاه الانفراد بهادي عبر ممارسة كافة أشكال الاسترضاء والاستدراج والضغط والابتزاز وفي اتجاه صياغة دوره بما يلبي مصلحته.
وبدا واضحا ان المساومة في حسابات هذه الأجنحة لا تذهب الى أبعد من التنازل عن الانفراد بكرسي الحكم إلا في مقابل الانفراد بالحاكم وكرسيه وبما لا يمنع من ان يكون “باسندوة” أنموذجا.
وأراد هؤلاء الفرقاء “الأجنحة/ الاعدقاء” ترويض الرئيس هادي على الاستنامة في الظل مع ان منطق الأشياء والمعطيات والمتغيرات قد قفز به الى الواجهة بجد وأملى عليه ممارسة دوره بجدارة.
وتصاعد احتدام عمليات الضرب تحت الحزام وفوق الطاولات، وجرى استنفار شتى وسائل السياسة والخساسة والاغتيال والتفجير وقصقصة أجنحة الرئيس هادي حتى قبل ان يبزغ ريشها، وظهر للعيان بأن “حمران العيون” المتنازعين في الظاهر قد أبرموا اتفاقا غير معلن بوضع هادي في برواز المنصب الاحتفالي على ان يترك الأمور الحساسة والمصيرية لهؤلاء “الحمران”، وكأنما كان على هادي ان لا يصدق نفسه ولا يتلبس دور الرئيس عن حق!
في الأثناء كانت تسري همهمات واسعة بشأن انعطافة عجائبية تمثلت بانتقال المنصب الأول في البلاد الى “شافعي”، وفيما إذا كانت هذه النقلة تكتيكية او شكلية تنحصر وظيفتها في استرضاء الجنوبيين وتسكين خواطرهم المهتاجة برئيس جنوبي بعد أن جنحوا الى المطالبة بفك الارتباط واستعادة دولة الجنوب.
وفي العموم انزلقت أوضاع البلاد الى منحدر سحيق لم تستوعبه التخطيطات والترسيمات الذهنية المستعجلة، واتسع نطاق الانهيار وخرجت الكثير من الأمور عن نطاق التحكم والسيطرة على نحو تجاوز قدرات جميع “الأجنحة” والأطياف والأطراف الأخرى.
وفيما خص وضع الرئيس هادي و”حكومة الوفاق” وبعض القوى الجديدة الصاعدة الى الكراسي فقد كانوا في وضع يستحق الشفقة والرثاء، وأصبحوا من ضحايا ابتلاع الثقب الأسود للفساد المعمم واندرجوا، بقصد او من غير قصد، في مضمار انتاج الممارسات نفسها، وتحكمت بهم –الى ابعد الحدود- تلك الأجنحة التي كانت تقتسم السلطة وانقسمت عليها.
المصيبة ان انقسام أجنحة النظام –السابق/اللاحق- انطوى على انهيار المنظومة الامنية التي كانت مكرسة لحماية رأس النظام وأجنحته، وفتح الباب واسعا لانهيار ما تبقى من دولة في اليمن.
وجاء ذلك على خلفية من تداخل شتى الدوائر ببعضها وتعفن “النظام” الذي استمر يحكم البلاد بقوة قصوره وبأقصى درجات تحلله، وكان ولا زال يقف وراء كل ما تشهده اليمن من انهيارات على خلفية تملك البلاد والعباد من قبل شخص “الزعيم”، أو تقطيعها وتوزيعها على أشخاص في نطاق الدائرة الضيقة للحكم، وما يعنيه ذلك من شخصنة وتجيير للدولة لمصلحة هؤلاء، ومن أيلولة الدولة الى مجرد سلطة وأجهزة للتحكم والقمع والاستيلاء والنهب.
وفي مجرى الانهيارات المتدافعة لم يكن بمقدور الرئيس عبدربه هادي تكوين الدائرة الضيقة الخاصة به، ولم يتسع أمامه الوقت لتشكيل تلك الدائرة بالمحاباة والمصاهرات والعلاقات العائلية والجهوية والقبلية على نحو ما فعل السلف خلال اكثر من ثلاثة عقود.
وتجسمت محنة عبدربه في انه جاء الى كرسي الرئاسة بعد ان تحولت الدولة في اليمن الى مجرد فزاعة وقوقعة فارغة بفضل الجهود المحمومة التي بذلها سلفه و”الأجنحة” في تجريف البلاد من الثروات والخيرات، وفي تجويف أجهزة الدولة من الخبرات الكفاءات والخيال والذكاء الاجتماعي والإنساني، عبر انتهاج سياسات وممارسات ريعية، وعمليات نهب منظم وسمسرة متوحشة أجهزت على منظومة الخدمات وانقضت على العقارات وحصدت عمولات ضخمة من شركات النفط والغاز وعن المشاريع الكبرى على حساب الدولة التي لم تعد دولة.
لقد انقسمت أجنحة النظام مطلع 2011 بعد أن استنفد النظام كافة سبل تخويف المنتفضين على فساده واستبداده وتعفنه، وكما حدث في دول أخرى من دول “الربيع” طفت بعض فقاعات النظام إلى خارجه –حسب واسيني الأعرج- وذهب كل جناح يتهم الآخر ويفضح ممارساته جزئيا مع احتفاظ كل طرف بخط رجعة يضمن الحفاظ على المصلحة المشتركة وعلى ألا يصمت الطرفان إلا بعودة الترتيبات الجديدة الضامنة لطرفي الصراع، فالأموال المتراكمة لديهما والمتأتية من الريع تحتاج إلى تسويات خطيرة وكبيرة و”ناعمة” –غير منظورة- وفي هذه النقطة تقع مصيدة الرئيس عبدربه منصور هادي ومعظم المتطلعين لمقاربة الشأن اليمني بمنأى عن تدوير الزوايا.
وبما أن زوايا وظلال هذا المنعرج غامضة وملتبسة، في الغالب، فإن حالة اليمن تقع خارج مجال العقل وينسحب ذلك على وضع وأداء معظم نخب السياسة حيث تجد: “الزوج الأبكم يأمر زوجته الصماء بغلق النافذة لأن أعمى كان ينظر إليهما” –حسب وصف زميل جزائري لوضع بلاده.
* صنعاء