As below so above
ما يكون على الأرض يكون فى السماء
رابعاً : أوزير
أوزير هو أهم شخصية فى التاريخ المصرى القديم ، بل وأهم شخصية فى التراث البشرى بأكمله ، إذا كان تقدير الأهمية ينبنى على مدى التأثير والإنتشار والديمومة (الدوام) والنفاذ .
فيما كان يُعد من الأساطير ، ثم لم يعدْ كذلك ، بعد تقدم علم الفلك وعلم المصريات ، وابتناء هذا العلم على ذلك ليتعرف على أصل أوزير ، وآبائه ؛ كان يقال فى مدوّنات التاريخ أنه الأبن الأكبر لجبْ ، وهو الأرض ؛ ولنوت ، وهى السماء (وكذلك الشأن بالنسبة لزوجه إيزيس ، فهى إبنة نوت أى السماء ، وجب وهو الأرض ، ويضيف التاريخ أن جب الذى هو رب وليس ربة عند قدماء المصريين ، قد أنجب مع أوزير وإيزيس ثلاثة آخرين منهم “ست” دفعة واحدة ، وواحدا تلو الأخر ، مما يؤكد أن الميلاد لم يكن بالطريقة المعروفة بين البشر الآن) . وقد أصبح من المقرر أن أوزير هو روح و تشخيص لكوكبة الجبار ، وأن إيزيس هى روح وتشخيص لنجم الشعرى اليمانية . ومفاد فـهْم الأسطورة على أنها حقيقة ، أن يكون أوزير قد جاء من كوكبة الجبار ، كطاقة عقلية مركـّزة ، أى إنه طاقة غير معروفة وليست مفهومة للبشر ، الذين تركن ثقافتهم إلى الطاقة الكهرومغناطيسية ، ويحجبهم هذا الفهم عن تقدير وجود طاقات أخرى أسرع وأكثر فاعلية . لكن الجلالة (Deity) فكر مركّز بشدة ، أو عقل مكثف جدا ، وبهذه المثابة يمكن أن تصدر عنه طاقات أخرى ، لا يحيط بها إلا العارفون . وفى أفلام الخيال العلمى صُوَّرت كائنات هلامية (لكى يمكن للمشاهد رؤيتها) على هيئة تستطيع منها أن تتشكل بأىّ شكل آخر ، بشرى أو حيوانى أو غير ذلك من صور و أحوال . فإذا كان أصل أوزير طاقة عقلية (مثلا) صدرت من كوكبة الجبار ، ثم أخذت من الأرض كَمّا يمكن أن تتجسد به ، فإن القول بأنه ابن نوت أى السماء ؛ وجب أى الأرض ، لا يكون أسطورة ، بل حقيقة لا تـُفهم على أصولها ، إلا بعد تقدم العلوم وارتقاء الفهوم .
أصل إسم أوزير غير معروف المعنى تماما ، لكن للتقريب فقد أصبح إشتقاق إسمه من لفظ يسر وهو ما يفيد معانى القوة والقدرة والعزْم . وقد يكون كل ذلك ، الإسم ومفاهيمه ، ذا دلالات فى كوكبة الجبار (وبالنسبة لإيزيس ، فى نجم الشعرى اليمانية) .
أصبح لإسم أوزير 52 نـُطقاً أو إسما وفى قول آخر 60 نـُطقاً أو إسما ، وفى قول ثالث 158 لهجة فى مختلف المناطق بمصر ، منها أوسير وأوسار . وعلى الأول ، أوسير ، استقر نطق الغالبية من المصريين . ولما اتصل الأغريق القدامى (اليونانيون) بمصر ، نطقوا الإسم أوذريس ، على عادتهم فى نطق الإسم بإضافة ى س ، للتنوين . وهو ما حدث بالنسبة لإيزيس ، التى كان إسمها الأصلى إز أو إست ، فنطقوه إيزيس . وقد صار اوذريس عند العرب ، وبتصحيفهم له ، إدريس ، كما صار إسم ازّ هو العـُزّى . ولما إنتشر أوزير فى بلاد كثيرة من العالم أصبح إسمه إيزيد بالالمانية وإيزوف بالروسية وأوزيان بالرومانية وآَذار بالفينيقية وإسرا أو عزرا بالعبرية وهكذا . وكلمة اسرائيل تتكون من لفظين , اولهما مصرى وهو تصحيفاً للفظ اسرا او عزرا العبرية وثانيهما يفيد معنى الرب فى كل اللغات السامية القديمة.
قصة أوزير بدأت منذ عهد الأسرة الخامسة تـُدون فى متون الأهرام (هرم أوناس وهرم بيبى وغيرها) كما بدأت تدون على المسلات والأوراق ، أو على التوابيت أو غيرها . وتقول القصة التى كتبها المؤرخ الإغريقى بلوتارك فى كتابه (إيزيس وأوزريس) أن أوزير كان أول ملك لمصر ، وقد واصل جهوده فى تحضير شعبه (أى تعليمهم الحضارة) ، فعلمهم الزراعة (وخاصة زراعة القمح والشعير والعنب) ، والرىّ والصناعات البسيطة ، والموسيقى والفلك (Astrology) والتنجيم (Astronomy) ، والكتابة والحساب ، والختان ، وعموما كل ما يتصل بالحضارة ، ومنه صُنع النبيذ “والجعة غالباً” . وحرّم عليهم أكل لحوم البشر (Cannibalisms) .
وفضلا عن هذا كله ، علمهم عبادة الله الواحد الأحد (Neter Uno) الذى لا يُرى ولا يُسمع ولا يلمس ، ولا تدركه الأبصار ولكن تعرفة البصائر ، وطلب اليهم عبادته ، وإقامة قانونه الذى هو الحق والعدل والإستقامة والنظام ، والذى يتركز فى كلمة واحدة هى ماعت ، أحد أوجه أوزير نفسه ، وقرينه (Consort) ، حتى تتحقق مملكة السماء ، بأن يكون ما فى الأعلى (السماء) هو ما على الأرض ، وهو العدل والنظام .
وبعدما حضّر أوزير شعبه فى مصر ، وإذ كان يدرك أن رسالته هى لتحضير وتمدين البشرية جمعاء ، فإنه ترك حكم مصر لزوجه ايزيس ، وطفق ومعه جماعة من أتباعه (ربما يكونون من كوكبة الجبار) يزور مناطق عدة ، فنزل جنوبا حتى بلغ الحبشة ومنها سار ، ربما من خلال اليمن وعلى ساحل العرب ، حتى وصل إلى الهند ، واتجه بعد ذلك إلى مناطق غير معروفة فى أوروبا ، ولما عاد إلى مصر ، كان أخاه ست قد امتلأ حنقا منه وحقدا عليه ، فتآمر على قتله ، مع بعض أنصاره ، وأقام له حفلا ضخما (Banquet) ثم وضع تابوتا فخما أمام الجميع ليكون هدية لمن يجىء التابوت على مقاسه . ولما وصل الدور إلى أوزير – وبحسن نية وسلامة طوية – اشتهر بهما ، دخل إلى التابوت ورقد فيه ، وبسرعة أغلق ست وأعوانه التابوت وألقوه فى النهر . ولما علمت زوجه إيزيس بالواقعة ظلت تبحث عن التابوت حتى وجدته ، ووضعته بين الأحراش إلى أن تدفن زوجها على صورة لائقة ، لكن ستْ كان فى رحلة صيد فصادف التابوت وفتحه ومزق جسد أخيه أوزير إلى 14 قطعة ، ألقاها جميعا فى النهر . وهامت ايزيس على وجهها فى كل أنحاء مصر تجمع اشلاء زوجها ، وكلما وجدت عضوا انتشلته وأقامت فى الأرض بجوار المكان الذى وجدت فيه العضو مقاما له (Shrine) حتى جمعت كل الأشلاء ، عدا عضو أوزير الذكرى ، فصنعت له عضوا من الذهب وتلت عليه كلمات عـلّمها لها تحوت (سيد الحكمة ورسول الإله إلى الناس ، وهو هو اوزير فى احدى صوره ، أو أشكا له أو حالاته) فقام أوزير من الموت ، وجامع زوجه حتى حملت منه ، ثم عاد إلى الموت . وولدت إيزيس إبنهما حورس ، وظلت تحمله على كتفها وتختفى به فى الأحراش حتى شبّ عن طوقه ، فحارب عمه ست حروبا طويلة مستمرة ، حتى يستردّ منه عرش أبيه . وانتهى الأمر بانتصار حورس وموْت ست . فصار أوزير ملكا لمملكة الموتى وصار حورس ملكا لمصر ، تحكم جميع ملوك مصر باسمه .
ظلّ تقدير المصريين لأوزير طويلا ، منذ عهد ما قبل الأسرات ، حتى تحول التقدير – كعادة الطبيعة البشرية – إلى تقديس ، ثم صار التقديس شعائر كما لو أنها عبادة (Cult)، بدأت تظهر فى متون الأهرام ، خلال الأسرة الخامسة والسادسة ، حتى اشتدت ، فظهرت لأوزير صور عدة ووجوه متعددة ، فهو رع (الشمس) ، وهو تحوت (سيد الحكمة ورسول الاله إلى الناس جميعاً وإلى الأسياد كذلك) وهو ماعت ، قانون السماء والأرض الذى يتأدى فى : الحق والعدل والإستقامة والنظام .
ولأن أوزير لم يكن يفرض تعاليمه على الناس فقد صار هو الرحمة والرّشــْد ، مادام أنه كان يريد من الناس أن تتعقل تعاليمه بهدوء وأن تنفذها دون قهر . وكانت هذه المفاهيم – كما كان يفعل – تأخذ صورة الترانيم التى تـُنشد على أنغام الموسيقى .
وقد كان الملوك يتطلعون إليه كنجم فى السماء (أى إنهم كانوا يعرفون أنه كوكبة الجبار) ومن ثم كان منتهى أمل كل واحد منهم أن يلحق به فى السماء بعد الوفاة ويصير نجما من نجومه ، وهو – كما سلف – ما يَضِح من الرسوم التى وجُدت من عهد الأسرة الخامسة ، وخاصة هرم أوناس فى سقارة .
أما أثناء الاحتفال الذى كان يقام يوم 17 هاتور (13 نوفمبر) من كل عام إحياء لذكرى وفاته فكان العبّاد يتناولون خبزا أعد بطريقة خاصة ، ومعه ماء من ماء النيل (وكان أوزير يمثل العمود الفقرى لمصر باعتباره نهر النيل) . وكان هذا القربان بديلا عن أكل لحم البشر وشرب دمه ، ما دام الناس قد نبذوا أكل لحوم البشر ، ولكى يكون الخبز عوضا عن جسم أوزير والماء بدلا من دمه . وكان المقصود بالقربان أن يتوحد الناس مع أوزير فى الحياة ، كما يرنو كل واحد أن يتوحد به بعد الموت .
ولأن جسم أوزير كان قد قطـّع أشلاء ، فقد كان يُرمز له بالخروف .
لديودور الصقلى قصة أخرى عن أوزير فيها بعض الإختلاف عن هذه القصة ، لكن ما ذكره بلوتارك صار هو المعتمد ، خاصة بعد أن تـُرجم الكتاب إلى الألمانية (De Isis et Oside) ثم إلى الإنجليزية ، وله ترجمة عربية.
وقد ظلت شعائر أوزير طوال الحضارة المصرية ، وكان يعد رمزا لنفع البشرية وزعيما للإستنارة وقائدا للحضارة . كما كان يعتبر مبدأ الرطوبة ، والقوة والسبب (السببية) لكل الأجيال ، والمادة الكامنة فى كل بذرة زرع ، والرمز المحدد للموت ولإعادة الميلاد .
ولما عُرفت أفكاره ، خارج مصر ، ابتدأ فهم العلم كسلسلة ذهبية تؤدى كل حلقة منها إلى الحلقة الأخرى ، ويتكامل فيها البعض بالبعض . كما أنه صار ملكا لمملكة الموتى ولجميع البشر .
وحوالى عام 380م ، وبناء على أمر الإمبراطور ثيودوسيان سارت الفيالق الرومانية حتى جزيرة فيلة ، فى أقصى الجنوب من مصر ، لتحطم ما كان قد بقى من معابد أوزير .
ومع ذلك فقد ظل أوزير مؤثراً بصورة مباشرة فى أفكار وعادات الكثيرين ومنها الماسونية. وكنا فى كتابنا “الأصول المصرية لليهودية” قد أثبتنا نشأة الماسونية المصرية عندما تزوج الملك سليمان (وهو عند اليهود والمسيحيين ليس نبياً) بإبنة الفرعون ، فأرسل معها هذا ، أو قبلها ، نفرا من البناة المصريين والرهبان العلماء فبنوا لها معبدا على النمط المصرى ، وقصرا بجواره على الأسلوب المصرى . ومع الأيام صار المعبد هو هيكل سليمان ، وخلال ذلك كان لفظ الماسون يرمى إلى البنائين الذين كانوا يتكلمون بينهم بالمصرية القديمة ويتصرفون دينيا وإجتماعيا على أساس الديانة المصرية . ولفظ الماسون موجود فى كل اللغات ، دون أن يشير أى قاموس إلى أصله وإنما يفسره بأنه يعنى البنائين ، ولذلك رجحنا أن يكون سِيمـَاً أو يكون جماع حروف لمعنى مجهول كما يختزل إسم الولايات المتحدة فى حروف USA. وظلت الماسونية المصرية حتى الحروب الصليبية التى شارك فيها فرسان المعبد (Templars) وقد ساهموا فيما بعد مع اليهود فى أنشطة مالية ، ونقلوا الماسونية ، ما دام أهلها قد تركوها ، حيث جعلوها ذات نشاط عالمى ، وأضفوا عليها ملامح يهودية ، إلا أن الأصل المصرى واضح فيها لم يزل . فخلال المراسم التى يقوم بها المنتسب إليها ، وفى الدرجة الثالثة من درجاتها ، يحدث تمثيل لقصة موت أوزير مع استبدال اسم حيرام أبيف باسم أوزير . ويعنى لفظ حيرام بالعبرية : النبيل أو الملكى ؛ وهو ما يمكن أن يقال معه إن الصفة قد استـُبدلت بالاسم . غير أن الذى يؤكد الأصول المصرية للماسونية أنه يتحتم على المنتسب إليها أن يقول فى هذه المرحلة : Ma’at – neb – me – aa – Ma’at – aa وهو ما ترجم إلى اللغة الإنجليزية خطأ :
Great is the established Master of free Mason (Ma’at) great is the spirit of freemason (Ma’at) .
والترجمة الصحيحة للنص هو (يالعظمة السيد المؤسس ماعت ، ما أعظم روح ماعت) لكن ما حدث أنهم أضافوا تعبير “الماسونية” للدلالة على ماعت مع إبقاء اسم ماعت فى النص .
وامتدت طقوس أوزير إلى كافة أنحاء العالم القديم ، وإستقر فهم المصريين القدماء لأوزير على أنه “كلمة الله، وروح الله ، وملك الملوك ، وأمير السلام ، ورب الارباب (الذى تعبر عنه التوراة بقولها إله الآلهة) سيد السادة ، أمير الأمراء ،حاكم العالم ، الجميل فى عدة أشكال وبطرائق مختلفة ، بكر المادة التى لم تكن قد تشكلت بعد ، واهب الحياة منذ البداية ، إله إبن إله” . ولما دخل إلى مصر المسحيون الأوائل ، الذين لم يكونوا من أهل مصر ، صدمهم أن يكون فهم المصريين لطبيعة أوزير مطابقا للاهوت المسيحى تماما ، فأنكروه وادعوا أن ما يـُقال عن أوزير هو من فعل الشيطان سبق به ظهور المسيح فنقله إلى المصريين . وهكذا قطع هذا الفهم المبتسر السلسلة الماسية للفكر الصحيح . فلو أن هؤلاء المسيحيين الذين وفدوا إلى مصر قد أدركوا أن تناسخ الأجساد (Transmigration) هو من صميم المعرفة المقدسة ، وأن المسيح قد أكده فى الأنجيل مرتين حين ذكر أن يحى المعمّد (المعمدان) هو بذاته النبى ايليا أى الياس ، الذى كانت التنبؤات تتواتر على أنه لابد أن يوجد قبل أن يظهر المسيح ؛ لو أنهم أدركوا ذلك ووعوه ، لفهموا أن السيد المسيح هو تجسد فى وقته لكلمة الله وروح الله (وفى ذلك يقول القرآن : إنما المسيح كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه) . ولو أن ذلك حدث ، لكان التاريخ قد اتخذ مجرى آخر ، لكن يبدو أن الوقت لم يكن وقته ، وأن الأجل لم يكن قد حان بعد ، لتتكامل وتترابط وتتداخل المعرفة المقدسة ويتكون بها إنسان جديد وإنسانية كونية إلهية .
وربما يكون قد حان الوقت ، وحلّ الأجل ، ودخل الكون فى دورة جديدة ليظهر الفكر الصحيح حينما يتجلى ضمير العصر.
(حاشية) فى محاورتى أفلاطون تيماوس وكر يتياس ، ذكر أنه فى عام 560 ق.م ، فى معبد سايس ، كانت توجد قاعة تحتوى على وثائق (لفافات) تاريخية تعود إلى 9000 سنة (قبل عام 560 ق.م) وأن كاهن هذا المعبد بات نيت (Pateneit) ، هو معلم فيثاغورس . وقد كان فى السجلات المقدسة واقعة صدام نيزك بالأرض فى زمن بعيد. وهو ما يؤكد أن حضارة مصر موغلة فى القدم بأكثر مما نعرف ، وأنها كانت تعرف مسائل كونية ليس من السهل أن تعرف إلا من كائن سماوى كأوزير مثلا .
ashmawy2@hotmail.com
* القاهرة
مصر صفحة السماء (6)
كلام لا يصدر الا من عالم واسع الاطلاع موغل فى المعرفة –افادنا اللة بعلمة