ترجمة/ فاخر السلطان/ شفاف-خاص
ادعائي الرئيسي في هذا المقال ليس صعوبة فصل “الحقيقة” عن “الأسطورة” في واقعة عاشوراء. هذا الادعاء بديهي، ولا يتطلب الكثير من الجدل. ادعائي هو أن تنوع التصورات والتفسيرات عن واقعة عاشوراء واسع جدا وعميق ومتناقض لدرجة أنه من المستحيل فصل “الحقيقة” عن “الأسطورة”.
إن مسار نقاشي في شرح وتبرير الادعاء أعلاه هو أنني سأتحدث، أولا، عن أهمية التوجه العقلي والموضوعي لواقعة عاشوراء، ثم سأجادل لصالح مجموعة واسعة من التصورات والتفسيرات عن الواقعة. إنني أسمي تنوع التصورات والتفسيرات والفصل المستحيل عمليا بين “الحقيقة” و”الأسطورة” بـ”مشكلة عاشوراء”. في الجزء الأخير، سوف أتطرق إلى السؤال عما سيحدث إذا كان تنوع التصورات والتفسيرات حول الواقعة غير ممكن، وإذا كان من المستحيل عمليا الفصل بين “الحقيقة” و”الأسطورة”؟ باختصار، ما العمل أمام “مشكلة عاشوراء”؟ هل الخلط المحرج بين “الحقيقة” و”الأسطورة” غير مرغوب فيه بالضرورة؟ هل هذا الخلط الحتمي يجعل من عاشوراء حدثا خرافيا وغير ملهم؟
وردّا على هذا السؤال، أجادل بأن التداخل الغريب بين “الحقيقة” و”الأسطورة” في واقعة عاشوراء لا يجعلها بالضرورة حدثا مليئا بالخرافات وغير ملهم؛ على العكس من ذلك، فإن الإلهام جاء نتيجة للتصورات والتفسيرات شديدة التنوع والمتناقضة، بحيث يصبح من المستحيل عمليا التمييز بين “الحقيقة” و”الأسطورة”.
أهمية عاشوراء
إن واقعة عاشوراء جرت عام 61 للهجرة، وهي تمثل حدثا دائم الأهمية بكل المقاييس (أهمية عقلية أو موضوعية). من وجهة النظر الموضوعية (أي النظر إلى الأحداث التاريخية أو إلى الفرق الدينية التي ظهرت ردا على حدوث الواقعة)، شهدنا بعد استشهاد الإمام الحسين مباشرة احتجاجا لشخص في الكوفة. فحينما صعد عبيد الله بن زياد والي الكوفة على المنبر ووصف الإمام الحسين بأنه “كذاب ابن كذاب”، احتج أحد صحابة الإمام علي والإمام الحسين بحدة، وكان مكفوفا، ويدعى عبد الله بن عفيف الأزدي، وقال: “الكذاب هو أنت ووالدك ومن منحكما السلطة. هل تقتلون أبناء الانبياء وتتكلمون بكلام الصالحين؟”. وقد تم قطع رأس الأزدي ليلا بأمر من عبيد الله وعلق جسده في سوق الكوفة.
بعد 4 سنوات فقط من استشهاد الإمام الحسين، أي عام 65 للهجرة، حدثت انتفاضة التوابين في الكوفة، والتي على الرغم من هزيمتها إلا أنها ألهمت حركة المختار. المختار، الذي لم ينضم إلى حركة التوابين، استوحى تحركه من انتفاضة التوابين، حيث سيطر على الكوفة بعد عام أي في 66 للهجرة، فعاقب قتلة الإمام الحسين. استشهاد نجل ابنة النبي في كربلاء وفاجعة الحرة التي حدثت في المدينة المنورة بعد عام أو عامين من واقعة عاشوراء (في 62 أو 63 للهجرة) يعتبرها المسعودي “أبشع حادث بعد استشهاد حفيد النبي”. إن انتفاضة التوابين والمختار، وكذلك حركة حسن المثنى (ابن الإمام الحسن وصهر الإمام الحسين الذي أصيب بجروح خطيرة في عاشوراء ونجا) بعد عقدين من الزمن، وانتفاضة عبد الرحمن بن أشعث ضد الحجاج بن يوسف الثقفي حاكم العراق في 81 للهجرة، وانتفاضة زيد ابن الإمام السجاد في 122 للهجرة، إن جميع تلك الأحداث ساهمت في تقوية المشاعر المعادية للدولة الأموية وأدت في نهاية الأمر إلى سقوط تلك الدولة وإلى إعطاء قوة وتوجه جديد للهوية الشيعية المتنوعة.
لم تكن واقعة عاشوراء ذا أهمية سياسية فحسب، بل أصبحت أيضا العامل الأساسي في تكوين طائفة مؤثرة في بداية التشيع تسمى بالكيسانية، وهي طائفة تُنسب إلى مختار الثقفي. وعلى الرغم من أن الكيسانية لم تدم طويلا، إلا أن تبنّيها للرفض الأيديولوجي استمر في الجماعات اللاحقة للشيعة. اقترح المختار فكرة إمامة محمد بن الحنفية (ابن الإمام علي والأخ غير الشقيق للحسن والحسين) لإضفاء الشرعية على انتفاضته. والأهم من ذلك أن الكيسانية هم أول من طرحوا اسم محمد بن الحنفية كشخصية خاصة لفكرة المهدوية. إلا أن هذه الفكرة لدى الشيعة الإمامية استمرت حتى استقرت في نجل الإمام الحادي عشر.
بدأت طقوس زيارة كربلاء تقريبا بعد دفن الإمام الحسين. وتُعتبر زيارة التوابين إلى قبر الإمام الحسين من أوائل الزيارات الجماعية الكبيرة. وثواب زيارة ضريح الإمام الحسين أصبح بعد فترة زمنية كثواب أداء شعيرة الحج والعمرة، حتى أن هناك إشارة لهذا الموضوع في الروايات المنسوبة للإمام الباقر والإمام الصادق. أصبح ضريح الإمام الحسين
مهما جدا لدرجة أنه تم تدميره عدة مرات (كليا أو جزئيا) ولكن تم إعادة بنائه في كل مرة. تم تدمير الضريح أولا على يد الخليفة العباسي الثاني منصور الدوانيقي، ثم على يد الخليفة العباسي هارون الرشيد، ثم على يد الخليفة العباسي المتوكل.
آخر تدمير كبير لمرقد الإمام الحسين كان على يد الوهابيين في نجد. ففي بداية القرن التاسع عشر الميلادي، وبالتزامن مع عيد الغدير وعاشوراء، هاجم الوهابيون كربلاء وقتلوا الآلاف من سكان هذه المدينة ودمروا قبة الضريح وأخذوا المجوهرات التي تم التبرع بها للمرقد. ومع ذلك، تم ترميم الضريح وازدهر مجددا. لقد كانت كربلاء مجرد صحراء، لكنها بعد استشهاد الإمام الحسين أصبحت مدينة بصورة تدريجية. في العصر الحديث، كانت مدينة كربلاء النواة المركزية للثورات في العراق، وخاصة ثورة العشرين ضد الاستعمار البريطاني وكذلك الثورة ضد نظام البعث.
هذا ليس سوى جزء من الأهمية الموضوعية لواقعة عاشوراء. الأهمية الأخرى للواقعة عقلية. البعض، من غير الشيعة وكذلك من غير المسلمين، استلهموا من الواقعة. ويعد المهاتما غاندي الزعيم الروحي والسياسي للهند ضد الاستعمار البريطاني (1869-1948) أحد أشهر من استلهموا من استشهاد الإمام الحسين. إلا أن كل التصريحات المنسوبة لغاندي عن الإمام الحسين في الفضاء العام والمتكررة على المنابر تُعتبر غير موثقة.
تحدث غاندي سبع مرات على الأقل عن الإمام الحسين، وفي جميع الحالات قال كلمات جديرة بالثناء. على سبيل المثال كتب غاندي في رسالة بتاريخ 2 سبتمبر 1917 (الترجمة لي):
شعر الإمام الحسين بالظلم. عندما طلبوا منه الاستسلام، رفض. كان يعلم أن موقفه لا يعني شيئا سوى الموت. ولكن إذا استسلم للظلم، يكون قد أخلّ بواجبه وخان دينه. في مثل هذه الظروف، قُتل ووضعوا رأسه على الرمح في ساحة المعركة. في رأيي أن عظمة الإسلام ليست نتيجة لقوة السيف، بل نتيجة لتضحية أتباعه بأنفسهم”.
هناك اقتباس آخر جدير بالاهتمام، يقارن غاندي خلاله بين الإمام الحسن والإمام الحسين وبين فئة من النبلاء في الهندوسية:
“روح <الكشاتريا> ليست قسوة وقساوة، لكن روح <الكشاتريا> تتكون من الاستعداد للتسامح والرحمة وعدم الاكتراث بالحملات الحربية والحزم والصمود حتى ضد أمطار الرصاص. <الكشاتريا> الحقيقية لا تقتل، بل تصوب بالسهام على صدره. الإمام الحسن والإمام الحسين كانا <كشاتريا>، والذين اضطهدوهم كانوا ظالمين”.
اختلاف التفسيرات حول عاشوراء
ليس مستغربا أن يكون حدث بهذه الأهمية الواسعة وطويلة الأمد، والذي انتشر تأثيره في الثقافات الإسلامية، يخضع لتفسيرات متعددة وحتى متضاربة ويتخلله اختلافات دائمة. يمكن تقسيم هذه الاختلافات إلى نقطتين: 1- حول تفاصيل عاشوراء 2 – حول أهداف عاشوراء.
واسمحوا لي أن أتناول كل نقطة على حدة.
اختلاف التفسير حول تفاصيل عاشوراء
على حد علمي، لم ينكر أي مؤرخ الوجود التاريخي للحسين بن علي أو أصل عاشوراء. وإذا كان هناك اختلاف، فهو يتعلق بتفاصيل هذه الواقعة، والأهم من ذلك حول أهدافها. ولا أنوي هنا أن أتعامل بتفصيل مع الاختلاف في تفاصيل الواقعة. ومن خلال طرح مثال، سأشير بشكل عابر إلى بعض الاختلافات.
عرس القاسم
من تفاصيل عاشوراء المتنازع عليها زواج القاسم نجل الإمام الحسن من فاطمة ابنة الإمام الحسين في منتصف يوم عاشوراء. القصة التي يرويها المداحون وخطباء المنابر بشكل عام هي أنه في خضم الحرب، أمر الإمام الحسين بتنظيم الأمور بأسرع وقت لكي يتمكن من رؤية عرس القاسم. لكن فاطمة، ابنة الإمام الحسين، كانت متزوجة من الحسن المثنى، شقيق القاسم، قبل عاشوراء، وليس للإمام الحسين ابنة أخرى اسمها فاطمة. حتى أن بعض الباحثين رأوا وجود نوع من الارتباك والخلط في أصل فكرة عرس القاسم، وهو أن رواية زواج الحسن المثنى من ابنة الإمام الحسين تداخلت مع رواية عرس القاسم.
ثم أن رواية عرس القاسم لم تكن موجودة قديما، وأول من ذكرها هو ملا حسن واعظ كاشفي (910-840 للهجرة، ولد في سبزوار، وتوفي في هرات) المفسر والواعظ المنتمي للعصر التيموري، حيث ذكر رواية العرس في كتابه الشهير “روضة الشهداء”، وهو كتاب مليء بالتزييف، بشهادة الكثير من الباحثين في واقعة كربلاء، وأشهرهم على الإطلاق مرتضى مطهري. يقول مطهري في كتابه “حماسه حسيني” إنه في يوم عاشوراء لم تكن هناك حتى فرصة للصلاة، حتى أن الإمام الحسين (ع) صلى صلاة الخوف. ويسأل مطهري كيف يمكن للإمام في هذه الظروف أن يقيم عرسا للقاسم؟ جدير بالذكر أن عرس القاسم يعتبر جزءا رئيسيا من موضوعات الخطباء في مجالس عاشوراء، بل جزءا لا يتجزأ من “دين عامة الناس”.
رُقيّة
الاختلاف الآخر في التفسيرات هو حول وجود أو عدم وجود ابنة للإمام الحسين تدعى رقية. ويبدو أنه لا يوجد اختلاف في الآراء حول حقيقة أن للإمام الحسين ابنتين أخريين هما فاطمة وسكينة وأنهما كانتا حاضرتين في عاشوراء. لكن وجود ابنة اسمها رقية هو موضع اختلاف، حيث لم يذكر القدماء ممن كانوا يحققون في واقعة عاشوراء سوى ابنتين: فاطمة وسكينة. في حين أن بعض الباحثين يعتقدون بأن رقية المذكورة في الواقعة هي ابنة الإمام علي التي أنجبها من صهباء أم حبيب، وليست رقية التي يفترض البعض أنها ابنة الإمام الحسين.
وهناك حالات اختلاف أخرى حول تفاصيل عاشوراء، مثل ما إذا كانت ليلى (والدة علي الأكبر إحدى زوجات الإمام الحسين) حاضرة في كربلاء أم لا؟ في حين أن هناك إشارة لها في مجالس عاشوراء وذكرا لأقوالها وأفعالها. أو أنه هل أخذ أتباع يزيد خاتم الإمام الحسين غنيمة، أو أن الخاتم انتقل إلى أئمة آخرين من جيل إلى جيل؟ فذكر هذه الأمثلة العابرة يكفي لإظهار وجود اختلاف في الرأي حول تفاصيل واقعة عاشوراء.
ومع ذلك ، يمكن حل جزء من الاختلاف في التفاصيل، على الأقل من حيث المبدأ، بالطرق التاريخية النقدية، على سبيل المثال، من خلال إعادة النظر في الروايات القديمة والمعتبرة عند الخطباء، مثل الروايات الموجودة في كتاب أبي مخنف، أو المقارنة بين الأحداث في الكتب التي ذكرت الواقعة. لكن ما يجعل الاختلاف حول عاشوراء مزعجا أكثر هو الاختلاف حول الأهداف، وهو أمر لا ينفصل عن الاختلاف حول التفاصيل.
اسمحوا لي الآن أن أنتقل إلى الاختلاف حول الأهداف.
اختلاف التفسير حول أهداف عاشوراء
محمد اسفندياري (مواليد 1338 هجري شمسي، طهران)، باحث في مسائل عاشوراء، يرى أن هناك سبع نظريات تشرح أهداف حركة الإمام الحسين في عاشوراء:
1. نظرية “رفض البيعة ليزيد” أو النظرية الدفاعية. وبحسب الذين يؤيدون هذه النظرية، فمنذ خروجه من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة ومن ثم رحيله من مكة إلى الكوفة ومحاصرته في كربلاء حتى استشهاده، لم يكن للإمام الحسين أي هدف سوى رفض البيعة ليزيد، ولم تكن نواياه “الثورة” على يزيد أو “التمرد” عليه.
2. نظرية “الحكم – الاستشهاد”. وبحسب من يؤيدون هذه النظرية، فإن الإمام الحسين كان ينوي إقامة حكم عادل بمساعدة الموالين من أهل الكوفة، لكن حينما قطعوا عليه طريقه وتراجع أهل الكوفة عن بيعتهم له، استعد للاستشهاد. ويعتبر نعمة الله صالحي نجف آبادي (صاحب كتاب “الشهيد الخالد الحسين بن علي”) من دعاة هذه النظرية.
3. نظرية “الاستشهاد العرفاني” التي طرحها السيد ابن طاووس في اللهوف، ويؤمن بها بعض المتصوفين. ووفقا لهذه النظرية، سعى الإمام الحسين في استشهاده إلى لقاء الله والوصول إلى الدرجات المعنوية الرفيعة.
4. نظرية “الاستشهاد التكليفي” والتي يعتقد صاحب الجواهر بها. حيث كان للإمام الحسين تكليف خاص للثورة على حكم يزيد لكي يستشهد، فيما هذا التكليف ليس واجبا على الآخرين.
5. نظرية “الاستشهاد من أجل الشفاعة”. وبحسب هذه النظرية، استشهد الإمام الحسين لكي يصل إلى مقام الشفاعة ليشفع ذنوب أمته، على غرار موقف يسوع المسيح بالنسبة للمسيحيين. ويعتبر محمد باقر شريف الطبطبائي، وهو أحد قادة الشيخية، من دعاة هذه النظرية.
6. نظرية “الاستشهاد السياسي”. بحسب هذه النظرية، كان الإمام الحسين يتبنى الاستشهاد بهدف الاحتجاج على حكم يزيد من أجل فضح السياسة الأموية. ومن أشهر مؤيدي هذه النظرية، علي شريعتي.
7. نظرية “تشكيل الحكومة”. وبحسب هذه النظرية، كانت هناك أهداف متعددة الجوانب للإمام الحسين. فعندما انتقل من المدينة إلى مكة، كان هدفه الدفاع عن النفس. وعندما تلقى آلاف الرسائل من أهالي الكوفة وهو في مكة ثم غادرها، كان هدفه إقامة الخلافة. وحينما تم سد الطريق أمامه استشهد. بمعنى أن هدفه لم يكن الاستشهاد، مع أنه لم يرفض ذلك، بل حينما أُغلقت جميع الطرق أمامه اختار الاستشهاد.
اسفندياري، الذي يؤيد النظرية السابعة، لم يقدم سوى النظريات التي لها تأييد وتعاطف واسع. وهناك على الأقل نظريتان متضاربتان حول عاشوراء لم يقدمهما إسفندياري، ربما بدافع الاحترام (للإمام الحسين) أو لبطلانهما. لكن من الجيّد ذكر النظريتين، ليس من باب الاحترام أو اعتبار أن حقيقتهما محتملة، ولكن من أجل الحصول على صورة أكثر اكتمالا لتنوع التفسيرات المتعلقة بواقعة عاشوراء.
8. “نظرية الضياع والتيهان”. فوفقا لهذه النظرية، لم يكن لدى الإمام الحسين “عقل سياسي ناضج”، حيث كان تائها في كل مرحلة من مراحل الأحداث المتعلقة بالواقعة، وكانت القرارات التي يتخذها تخص كل مرحلة على حدة. وفقا لهذه النظرية، فإن الصورة السوداء التي يظهرها الشيعة عن يزيد ليست صحيحة، فيزيد لم يقصد قتل الإمام الحسين، بل كان يهدف فقط إلى الضغط عليه لكي يجبره على المبايعة، وما حدث (في كربلاء) كان بغير علم وموافقة يزيد. وقد طوّر الباحث في الشأن الإسلامي، البلجيكي هنري لامانس (1937-1862)، هذه النظرية في النصف الأول من القرن العشرين. وللحصول على ملخص لرأي لامانس، يمكن مراجعة مدخل “الحسين بن علي”، دائرة المعارف الإسلامية، الطبعة الأولى.
9. “نظرية الطموح”. وفقا لهذه النظرية، كان لدى الحسين نية “للسيطرة على السلطة” دون أن تكون لديه دوافع دينية، إضافة إلى أنه لم يكن يتصف “بالفضائل الأخلاقية”. لذلك، بعد أن رأى دعم الكوفيين له، مشى نحو الكوفة وكانت في نيته الثورة على يزيد بهدف الاستيلاء على السلطة، لكن سلطة يزيد تفوقت في النهاية. بعض السنّة مثل ابن تيمية كانوا يميلون إلى هذا الرأي. يصوّر ابن تيمية الحسين على أنه “متمرد”، حيث تمرد على أوامر النبي في وقت كان النبي قد نهى عن التمرد حتى على الحاكم الجائر. ومن بين الباحثين في الشأن الإسلامي الغربيين، قام يوليوس ويلهاوزن (1918 – 1844)، وهو مبشر ومستشرق ألماني، بالاهتمام بهذا الرأي.
مشكلة عاشوراء
دعنا نفترض، من أجل تطوير البحث، أنه يمكن تنحية النظريات المتناقضة حول تفسير واقعة عاشوراء. أعطي هنا ثلاثة أسباب لهذا الافتراض. بادئ ذي بدء، يعتبر كل من ويلهاوزن ولامانس لاهوتيين مسيحيين، ومن غير المستبعد أن تكون وجهات نظرهم المتناقضة قد تأثرت باللاهوت التبشيري المسيحي في القرن التاسع عشر. ثانيا، كانت الدراسات الإسلامية الغربية حتى عقود قليلة مضت تستهدف في الغالب الأعم الإسلام السني، يينما الدراسات حول الإسلام الشيعي كانت نادرة جدا، بمعنى أن هذه الدراسات تشكلت انطلاقا من منظور الأغلبية السنّية وكانت تحت تأثير “السنة المحافظين (التيار اليميني)، وكذلك الشيعة غير الأرثوذكس (أي أصحاب البِدع أو المنحرفين دينيا)”. فقط خلال العقود القليلة الماضية تغيّرت الدراسات الإسلامية في الغرب تدريجيا وانتقلت أطر البحث من المحور السنّي إلى نظرة بحثية أكثر شمولا لتنوع العالم الإسلامي.
ثالثا، بالنظر إلى أن الباحثة في الشأن الإسلامي الإيطالية ليورا وتشا فالييري (1893-1889) في نقدها لويلهاوزن ولامانس، تقول بأنهما لم يهتمّا بالعبارات التي صدرت عن الإمام الحسين فيما يتعلق بهدف التحرك نحو الكوفة، ويعتقدان بأن تلك العبارات تم اختراعها لاحقا. لكن فالييري تقول إنه على الرغم من أن المتصدّين لنقل ما حدث في كربلاء ربما تلاعبوا قليلا بالجوهر الرئيسي للعبارات المنسوبة للإمام الحسين، غير أن مِن مجموع هذه العبارات يمكن الحصول على صورة متجانسة لشخص لديه هدف ديني، وأنصاره ينظرون إليه باعتبار أنه سيشكّل حكومة الحق المحمدية والعدل العلوية. للتعرف على رأي فالييري يمكن مراجعة مدخل “الحسين بن علي”، دائرة المعارف الإسلامية، الجزء الثاني.
وإذا ما تركنا جانبا النظريات المتناقضة حول أهداف عاشوراء، لكن لا يزال هناك تنوع رائع بين النظريات غير المتناقضة. بالطبع، فإن مجرد وجود هذا التنوع ليس علامة على أن النظريات رائعة. ولكي نستدل دفاعا عن أي نظرية، بالإضافة إلى إظهار مسألة الاختلافات المتناقضة في التفسيرات (وهو ما فعلته سابقا)، هناك حجة معرفية تتمثل في التالي: أن فهم أي شخص لظاهرة ما، لابد أن يأخذ لون النظام القيمي لهذا الشخص. لذلك، حسين الثوريين هو ثوري، وحسين الليبراليين ليبرالي، وحسين غير السياسيين غير سياسي، وحسين من ينتقد الإسلام هو الحسين الباحث عن الجاه والهائم والخال من أي دوافع دينية.
هذه هى بالضبط النقطة التي تتمركز فيها مشكلة ومأزق عاشوراء. تكمن المشكلة في وجود اختلافات، ليس فقط في التفاصيل ولكن في الأهداف أيضا. أنا لا أدعي أن لدي حل لمشكلة عاشوراء، ولا أدعي أن مشكلة عاشوراء قابلة للحل، لكن المشكلة تبدو أشبه ب”ضعف العقل وثقل الواقع”. إن طبيعة المعرفة البشرية نسبية بالفعل، وليست معصومة عن الخطأ، ويجب مراجعتها باستمرار.
لدينا نفس الصعوبة مع التفسيرات الخاصة بنبي الإسلام. فنبي كل جماعة مشابه لهذه الجماعة: نبي الأصوليين أصولي، ونبي الليبراليين ليبرالي، ونبي التقليديين تقليدي، ونبي الفقهاء فقيه، ونبي المتصوفة صوفي، وقس على هذا. وهذه الصعوبة لا ترتبط فقط بمجال الدين، إذ نجدها تتكرر مثلا مع سقراط. فكيركيغارد يعتبر نفسه سقراطي وكذلك كارل بوبر، ومع ذلك فإن فلسفة كيركيغارد بعيدة كل البعد عن فلسفة بوبر، لدرجة أنه قد لا يكون من المبالغة القول إن اسم سقراط فقط هو الشائع في فلسفة هذين الاثنين.
كيفية التعامل مع مشكلة عاشوراء
أنا لا أدعي بأنني قادر على حل مشكلة عاشوراء، ولا أدعي امتلاك القابلية للحل. لدي فقط بعض الملاحظات. ويمكن لهذه الملاحظات أن تفشل في الحل، لكنني اعتقد بأنها ستمهد الطريق لمواجهة المأزق:
1. إن مشكلة عاشوراء بحد ذاتها لا تقودنا إلى الرأي القائل بأن كل تفسيرات عاشوراء خاطئة أو أنه لا يوجد رأي صائب ورأي خاطئ، لكنها تقودنا فقط للقول بأنه من المستحيل عمليا “إثبات” صحة نظرية ما. والقصد من “الإثبات” هنا هو المعنى المشترك في الرياضيات والمنطق. وعليه، فإن كل فرد مطّلع وواع بأصل المسألة لا يجب أن يقبل بالنظرية إلا بعد أن يتم “إثباتها”. وفي ضوء هذا المعنى من “الإثبات”، من الصعوبة بمكان “إثبات” فهم من الأفهام المتعلقة بتفسير عاشوراء ودحض الأفهام الأخرى.
وبناء على ذلك، لا تقودنا مشكلة عاشوراء بالضرورة كي نكون نسبيين بشأن التصورات التي تفسر الواقعة، لكنها قد تقودنا لكي نكون متواضعين في فهمنا، لا أن نعتبر فهمنا أو تفسيرنا معصوما عن الخطأ وثابتا بشكل قطعي، ومن ثم لابد أن ننفتح على التفسيرات الأخرى، حتى على تلك التي لا تتعاطف مع الواقعة ومع رموزها. وبناء على ذلك، وفي ظل عدم القدرة على “إثبات” صحة أي نظرية من النظريات، يجب أن يبقى النقاش حول معقولية الآراء مفتوحا.
2. دون وجود نظرية حول الأسطورة وعلاقتها بـ “الحقيقة” التاريخية، من المستحيل وصف المسائل “المزيفة” المتعلقة بواقعة عاشوراء بأنها “خرافات” ومن الأمور العبثية أو حتى الضارة. وبِقَدَر ما بحثت في مسألة الخرافات، توصلت إلى استنتاج مفاده أنه ما زلنا لا نملك نظرية منقّحة حول موضوع الخرافات، حتى في المناهج الدراسية الأكاديمية. وبالتالي، وحتى إشعار آخر، فإن “الخرافات” ستكون في الغالب موضوعا للتخلص من المنافس أو لحذف الرقيب، أكثر من كونه موضوعا إعلاميا ذي قيمة تفسيرية. على سبيل المثال، السنّة يعتبرون الشيعة خرافيين، والملحدون يعتبرون المؤمنين بالله خرافيين. ولأننا نفتقد نظرية منقحة حول الخرافات، فإنه بات عند البعض “ستيكر” يوضع على جبهة المنافس من أجل إيذاءه، وبطبيعة الحال لن يوصلنا هذا “الستيكر” إلى أي معرفة تتعلق بمحتوى معتقدات المنافس.
يمكن القول إنه بسبب وجود إجماع تاريخي على أن عاشوراء هو حدث تاريخي، وأن هناك إجماعا بين المؤرخين على بعض تفاصيل الواقعة، ونتيجة لذلك وبالرغم من وجود اختلافات حول تلك التفاصيل، لا يمكن اعتبار عاشوراء أسطورة. لكن هذا يعتمد على نظريتنا حول الأسطورة. فإذا اعتبرنا أن الأسطورة تعطي معنى للأحداث المركزية في حياتنا الفردية والجماعية، فإن واقعة عاشوراء، في حال لم تصبح أسطورة، ستفقد أهميتها وتخرج من سياق الحياة وتتبدّل إلى سياق ميت في قلب التاريخ (مثل صعود ملك من الملوك أو سقوط ملك من الملوك) ولن يكون للولقعة أي تأثير في حياة المؤمنين:
“العديد من القصص ذات الخلفية التاريخية في التقاليد الدينية المختلفة، لها تأثير عملي في حياة المؤمنين ما يستحق أن يُطلق عليها بالأسطورة. هذه القصص ليست خیالیة أو مجرد روايات تاريخية تروي حقائق الماضي من دون أي قيمة تضيفها إلى الحياة. وهذا الأمر يصدق على دراما كربلاء وعلى قصص أخرى مثلها. فهذه القصص تشكل رؤية الإسلام للحياة، وتجعل من الشعائر أسلوب حياة معين”.
تورستن هيلين، “الحسين الوسيط: تحليل بنيوي لدراما كربلاء”، صفحة 24.
من جانب آخر، إذا أظهر مؤرخ أن بعض الأساطير ليس لها جذور تاريخية، فلا ينبغي تكفيره أو تفسيقه أو لعنه. لكي لا أعمم، اسمحوا لي أن أذكر مثالا حدث قبل أقل من عامين. حيث أبدى الشيخ عبد الله أحمدي الشاهرودي، أحد أساتذة درس الخارج وأحد تلاميذ آية الله الشيخ جواد التبريزي، أبدى أثناء درس الخارج رد فعل حاد على انتقادات الباحث في التاريخ في الحوزة العلمية في مدينة قُم الشيخ محمد هادي يوسفي الغَرَوي. وكان الغَرَوي قد شكّك في الرواية الشهيرة التي تقول إن السيدة فاطمة الزهراء كانت تبكي ليلا ونهارا حزنا على وفاة نبي الإسلام، حتى أخبرها الناس إما أن تبكي في النهار أو في الليل. كما شكك في مصداقية وجود بعض أبناء الأئمة.
وفي رد فعله الحاد، وصف الشاهرودي الغَرَوي بأنه “ليس له دين” “وخسف الله فيه” وهو “غير متعلّم” و”لا قيمة له”، وقد لعنه عدة مرات وهدّده ضمنيا بأنه سوف يكفّره. الشاهرودي استخدم هذا التعبير أن “شيخنا الاستاذ” (في إشارة على الأرجح إلى آية الله الشيخ جواد التبريزي) كان يقول إن “الإسلام ضعف حينما سُحِب سلاح التكفير من العلماء”. إن اللعن والتفسيق وشبه التكفير وأوصاف مثل الأُميّة، أمور غير مقبولة على الإطلاق ولها عواقب وخيمة على تنمية روح البحث في الحوزات العلمية.
النتيجة
أحداث مثل واقعة عاشوراء هي تاريخية، كذلك ترتبط بما وراء التاريخ. طبعا أيادينا لا تصل إلى ما وراء التاريخ. مع ذلك، اكتسبت بعض الأحداث على مدار التاريخ مثل هذه التنوع الكبير في المعنى، وظلّت حيّة على الرغم من مرور الزمان عليها، فلم تتلوّن باللون القديم، وكأنها سر ما وراء تاريخي في سياق التاريخ. لذا، ليس من المستغرب أن تختلط هذه الأحداث بالأسطورة. فالإنسان في الأساس هو صانع للأساطير، ولا يمكنه العيش بدونها. إن إضفاء الطابع الأسطوري على أي حدث ليس سوى محاولة لوضع ما وراء التاريخ في التاريخ. وهذا السعي يعطي معنى للحياة، ويدعم الأخلاق، ويلهم الخير والجمال، ویرسخ الهوية.
ولكن هناك أيضا حقيقة ممثلة في أنه لا يمكن، من ناحية، التمسك فقط بـ “الحقيقة التاريخية الجافة”، أو باسم “نزع الخرافة” لا يتم ترك مجال للميثولوجيا، وأنه لا يمكن، من ناحية أخرى، التضحية في النقد التاريخي من أجل تثبيت أقدام أسطورة ما وراء التاريخ. فالسماء لا يمكن لها أن تحل محل الأرض. ويجب ضمان حقوق الأرض. إن الجمع بين “الحقيقة” و”الأسطورة” في واقعة عاشوراء، أو في أي واقعة أخرى مهمة، مثل الموت المأساوي لسقراط، يجعلنا في مواجهة مع مشكلة لها بعدان: الأول هو صعوبة التمييز بين “الحقيقة” و”الأسطورة”، والثاني هو التمييز بين شيئين: 1. الأساطير المفيدة والمتوافقة مع الجوهر التاريخي لحدث ذي قيمة 2. الأساطير المضرّة، القاتلة، البغيضة، والغريبة.
———————-
*
https://www.zeitoons.com/104127
**ياسر ميردامادي، كاتب ومترجم وباحث في الدين والفلسفة. فإضافة إلى دراسته في الحوزة العلمية (خاصة حوزة مشهد) حصل على درجة الماجستير الأولى في “اللاهوت الإسلامي” من جامعة فردوسي في مشهد، كما حصل على درجة الماجستير الثانية في “الثقافات الإسلامية” من “معهد دراسة الحضارات الإسلامية” في لندن، كما أنه حاصل على درجة الدكتوراه في “الدراسات الإسلامية” من جامعة إدنبرة باسكتلندا، وكان موضوع أطروحته “مشكلة الوحي الفلسفية في علم الكلام الإسلامي المعاصر”.