تُسوَّق خطة معالجة الفجوة المالية التي أعلنتها حكومة نواف سلام على أنها مسار نحو الانتظام والإصلاح والتعافي في نهاية المطاف. لكنها في الواقع تفعل أمراً أخطر بكثير: تُشرعِن السطو التاريخي الذي ارتكبته الدولة بحق المودعين، وتبرّئ سنوات من التسيِّب المالي والنقدي، وتَحبِسُ لبنان في ركود اقتصادي طويل الأمد.
في جوهرها، ترفض الخطة مواجهة الخطيئة الأصلية لانهيار لبنان: أن الدولة أنفقت الودائع. فعبر عقود من سوء الإدارة المالية، والعجوزات المزمنة، وسياسة نقدية جامدة ثبّتت الليرة عند 1500 مقابل الدولار بعد أن بات ذلك غير قابل للاستدامة، جرى استهلاك الودائع بشكل منهجي لتمويل الدولة. لم يكن ذلك حادثاً عرضياً؛ بل كان سياسة.
ومع ذلك، لا تُلزِم الخطة الدولة اللبنانية بأي رقم واضح وملزِم يتعيّن عليها سداده لمصرف لبنان. فالدين المتوجب على الحكومة لمصرف لبنان — والبالغ ما لا يقل عن 16.5 مليار دولار، قبل احتساب الخسائر شبه المالية الأوسع المتضمَّنة في النظام — تُرك عمداً في إطار ضبابي. هذا الإغفال ليس تقنياً؛ بل سياسي. فبرفضها التحديد والالتزام، تُفلت الدولة بهدوء من المساءلة عن تفريغ النظام المالي من مضمونه.
وبدلاً من ذلك، يُنقَل العبء — مرة أخرى — إلى المودعين والمصارف.
مصادرة بطيئة للودائع
تُعد الخطة خادعة بشكل خاص للمودعين. إذ تقترح أفق “تعافٍ” طويل الأمد يمتد من 10 إلى 20 سنة، وهو إطار زمني يتجاهل الواقع الديموغرافي للبنان. فحصة كبيرة من المودعين الذين يملكون أرصدة معتبرة تتجاوز أعمارهم الستين. بالنسبة لهؤلاء، ليست هذه إعادة هيكلة — بل مصادرة مؤجَّلة. كثيرون منهم سيكونون في الثمانينيات من العمر، إن كانوا على قيد الحياة أصلاً، عندما يُفترض أن يستعيدوا مدّخراتهم.
حتى الوعد المتداول بسقف يصل إلى 100 ألف دولار لكل مودع يثير شكوكاً جدية. فمتطلبات السيولة الضمنية للوفاء بهذا الالتزام قد تتجاوز بسهولة 15 مليار دولار. ولا يمتلك أي جزء من النظام اللبناني — لا المصرف المركزي ولا المصارف — مستوى سيولة قابل للاستخدام يقترب من ذلك. الادّعاء بعكس ذلك متهوّر.
والأسوأ أن بنية الخطة نفسها تقضي على الشروط اللازمة لتوليد تلك السيولة أصلاً.
قتل النظام المصرفي يعني قتل الاقتصاد
تدعو الخطة إلى محو كامل لحقوق الملكية في القطاع المصرفي، مع تجريد المصارف في الوقت ذاته من قدرتها على العمل كمؤسسات قائمة بذاتها. نظام مصرفي بلا رأس مال، ولا ربحية، ولا ثقة، لا يمكنه توليد سيولة. حكومة مفلسة لا تولّد سيولة. والمصارف المركزية تنظّم وتؤمّن شبكة أمان، لكنها أيضاً لا تولّد سيولة.
المصارف وحدها تولّد السيولة: عبر منح الائتمان للأسر والشركات، وتمويل النشاط الإنتاجي، وتحويل المدّخرات إلى نمو. ومن خلال القضاء على القطاع المصرفي من دون استبداله ببديل قابل للحياة، تضمن الخطة ألّا تعود السيولة إلى الاقتصاد أبداً.
والنتيجة متوقعة: كبح الاستهلاك، انهيار ثقة المستهلكين، وركود طويل الأمد. لا يمكن لاقتصاد أن يتعافى عندما يُقال لمواطنيه إن مدّخراتهم مجمّدة في الزمن، وتُحوَّل مصارفه إلى كيانات خاملة اقتصادياً.
لا إعادة هيكلة، لا نمو، لا مستقبل
على الرغم من خطابها، لا تُعيد الخطة هيكلة النظام المالي فعلياً. لا تُعيد الثقة. لا تُعيد رسملة المصارف بما يسمح لها بالعمل. ولا تخلق سيولة جديدة. بل تُقنِّن الشلل.
وما يجعل هذه النتيجة مقلقة على نحو خاص هو أن بدائل كانت موجودة.
كان ينبغي على الحكومة التفاوض بصلابة أكبر مع صندوق النقد الدولي، لا سيما بشأن افتراضات استدامة الدين. فالإصرار الجامد على عتبة 50% دين إلى الناتج المحلي في اقتصاد مشوَّه مثل اقتصاد لبنان لم يكن واقعياً قط. إن اعتماد نسبة أعلى، مثل 70%، مقرونة بإصلاحات موجَّهة للنمو وشروط حوكمة ذات مصداقية، كان من شأنه حماية حقوق المودعين مع تثبيت الاستقرار.
وبالمثل، كان يجب على الحكومة الاعتراف الصريح وتنظيم دين الدولة لمصرف لبنان، بدلاً من دفنه في الغموض. فمن دون معالجة مسؤولية الدولة، تبقى أي “تسوية مالية” محض خيال قانوني.
تكريس اقتصاد الكاش وإبقاء لبنان على اللائحة الرمادية
من خلال جعل المصارف مفلسة، غير تشغيلية، وغير قابلة للتعافي، تُسرّع الخطة انزلاق لبنان نحو اقتصاد نقدي.
فعندما تعجز المصارف عن إعادة الرسملة لأن المساهمين شُطِبوا، ولأن أي أرباح مستقبلية باتت مستحيلة بنيوياً، لا يبقى أي حافز لإعادة بناء الوساطة المالية الرسمية. ينتقل النشاط الاقتصادي بالكامل خارج النظام المصرفي: أجور نقداً، معاملات نقداً، ومدّخرات تحت الفرش.
هذا الانهيار في الوساطة المالية يعمّق العتمة، ويقوّض الجباية الضريبية، ويُرسّخ موقع لبنان على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF). فبلد بلا مصارف عاملة لا يمكنه تلبية أبسط معايير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، مهما سنّ من قوانين على الورق. وبدلاً من استعادة الامتثال والمصداقية، تحبس الخطة لبنان في عزلة مالية طويلة الأمد: تتبخّر تدفقات رؤوس الأموال، تختفي علاقات المصارف المراسلة، ويستمر الاقتصاد — لكن بشكل غير رسمي، وغير كفوء، ودون إمكانات كامنة.
تشريع السطو
هذه الخطة لا تُصحّح مظالم الماضي. إنها تُقدّسها. فهي تحوّل ما كان ينبغي الاعتراف به كتحويلٍ هائلٍ للثروة من المواطنين إلى الدولة إلى أمر واقع مُشرعن. وتطلب من المودعين الانتظار لعقود من أجل أموال أُنفقت سلفاً، فيما تُفكِّك المؤسسات التي كان يمكن أن تُسهم في إعادة بناء الاقتصاد.
لهذا، فهذه الخطة ليست معيبة فحسب — إنها خطِرة. إنها تُشرعن سرقة القرن وتُسميها إصلاحاً. ومن المؤسف ان يكون وزير الاقتصاد عامر بساط مرة جديدة رأس حربة في وضع الخطة، وهو كان أحد اركان قرار امتناع حكومة حسان دياب عن تسديد ديونها “اليوروبوند” بشكل غير منظم مما دفع لبنان الى انهيارمالي شامل، استفاد منها “حزب الله” والنظام السابق في سوريا على حساب الدولة اللبنانية واللبنانيين عموما.
لا يحتاج لبنان إلى حلول تجميلية للميزانيات. بل يحتاج إلى مساءلة، ونمو، وسيولة، ونظام مالي يعمل. هذه الخطة لا تقدّم أيّاً من ذلك — وتخاطر بأن تُبقي البلاد عالقة في “الليمبو” الاقتصادي لجيلٍ كامل.
