بتاريخ 25 مايو 1981 – أى بعد أقل من عامين من توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل – أنشىء مجلس التعاون الخليجى، بين دول الخليج العربى فيما عدا اليمن – وتم توقيع على وثيقة إنشائه فى الرياض بتاريخ 11 نوفمبر 1981، وكان أول شرخ فى كيان جامعة الدول العربية. وقد كان، فصل مصر منها إثر التوقيع على المعاهدة الآنف بيانها عام 1979 مجرد صدع، زال بعودة مصر إلى الجامعة العربية، وظل مجلس التعاون الخليجى، فكان بذلك أهم شرخ فى كيان الجامعة المذكورة، لما يفيده من إستقلال كتلة دول الخليج – التى زادت أهميتها بإزدياد عوائد النفط – فى إتخاذ القرارات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية وحدها دون مشاركة باقى دول الجامعة. وكان رد الفعل على تصرف دول المشرق العربى أن أقامت دول المغرب العربى، المغرب والجزائر وتونس وليبيا، ما أسمته الإتحاد المغاربى (العربى). وعندما أرادت مصر أن تكون عضوا فى هذا الإتحاد، حدث الرفض بإسلوب قـَبلي، قام على قالة إن المغرب العربى ينتهى حيث ينتهى “لبس البرنْس وأكل الكسكس”، أى عند الحدود الشرقية لليبيا.
وقع العراق – منذ الإنقلاب العسكرى الذى حدث به فى أغسطس 1958 – فى قبضة نظام عسكرى كان يزداد صرامة، وظل جاثما على كل نشاط مانعاً لأى تقدم. ولربما بدا فى الظاهر أن هذا النظام أبقى على وحدة العراق طويلا، لكن لأنه كان سبباً – كما هو شأن الدكتاتوريات والعسكرتاريا – فى تلاشى مفهوم المواطنة، الذى يوحد الشعب جميعاً فى ظل دستور واحد ونظام قانونى عادل، فإن النزعات العنصرية قويت واشتدت، حتى صار العراق جبهات ثلاث هى الشيعة فى الجنوب والأكراد فى الشمال والسنة وغير المسلمين فى الوسط. ومع الوقت، وبحدوث إحتلال العراق بواسطة قوى التحالف الدولى، فإن دوره الفعال، صار غائباً عن الجامعة العربية، وفى الغالب فإن العراق سوف ينقسم إلى ثلاثة أقاليم، تحت إسم الوحدة أو الإتحاد.
فى بلاد الشام قام فى سوريا نظام علوى شيعى مع أن أغلبية الشعب مسلمة سنية، ومن ثم كان من الطبيعى أن يتحالف نظام الحكم مع إيران الشيعية ليستمد منها مكانة وحماية. وتعامل هذا النظام مع لبنان، متعدد الأطياف، على أنه إقليم تابع، وليس دولة مجاورة، مما رسّب فى نفوس أغلب اللبنانين مرراة شديدة لن يقلل منها إلا أن يروا لبنان دولة حرة مستقلة. وظل الأردن على حاله، يمسك بكل الحبال ولا يجرى إصلاحاً جدياً فى أى ناحية. أما شعب فلسطين فقد اضطر جناح مهم فيه (منظمة التحرير) إلى قبول التعاقد مع دولة إسرائيل، بما إقتضى الإعتراف بها، والإعتراف الضمنى بخطأ كل ما كان قد صُوّر من قبل من أشكال المقاومة. غير أن الجناح الإسلامى رفض هذا الإعتراف، فإنقسم الفلسطينيون على أنفسهم، فالغالبية الوطنية تدعو إلى السلام والتفاوض والأقلية الإسلامية ترفض السلام والتعاون، مع أنها لا تقدر على حرب طويلة منظـّمة، ولا تستطيع الإستقلال بأنشطتها ومواردها وعمالها عن إسرائيل، فبدا الأمر وكانه كوميديا سوداء، فهو يبكى ويضحك فى وقت واحد ؛ خاصة عندما يتكلم المهزوم المحتل بنبرة عالية حادة كأنما هو منتصر مستقل يملى شروطه.
أما مصر والسودان (وادى النيل) فأمرهما أصعب وأغرب. لقد قامت كل الإتجاهات السياسية فى مصر، قبل إنقلاب يوليو 1952، على مبدأ “وحدة مصر والسودان”، وكانت هتافات الطلبة وإعتناقاتهم تستوى على أن (مصر والسودان لا يتجزءان). وقد فشلت كل المفاوضات المصرية البريطانية عندما كانت تصطدم بصخرة السودان. وقال أحد الزعماء “تـُقطع يدى ولا تـُقطع السودان عن مصر”. وكان الساسة يرددون أنه لولا السودان لتم جلاء القوات البريطانية عن مصر منذ زمن بعيد. وفى أوائل عهد الإنقلاب ذاعت الأغانى التى كانت تردد وتشيد بوحدة مصر والسودان، ومنها أغنية صُورت لتـُعرض فى كل دور السينما، وهى تردد (السودان لمصر ومصر للسودان). لكن رغبة العسكرتاريا فى حكم مصر سريعاً، جعلتهم يفرّطون فى السودان، بغير إتفاق شرعى معتمد من الشعب، ودون أن يدركوا عواقب ذلك، وهى عواقب أليمة ومريرة وكثيرة ومتشعبة. فكما ذكرتُ منذ أكثر من عشرة سنوات فى مقالة منشورة بإحدى المجلات المصرية (أن السودان هو البُعد الإستراتيجى لمصر، وأن مصر هى البعد الإستراتيجى للسودان) وهو تعبير ردده، بعد أن نشرناه بأكثر من خمس سنوات، أحد زعماء السودان البارزين دون أن يشير إلينا كمصدر له، وهو أمر معتاد فى الثقافة الخاصة بالشرق الأوسط ؛ وله منا عودة.
ساعدت بريطانيا مصر فى إتفاقية مياه النيل التى عقدت 1929 بين دول حوض نهر النيل، فجعلت لها حصة الأسد. ونظراً لأن نظم الحكم الغاشمة والجاهلة قد قلـّصت من الأراضى الزراعية فى مصر، فقد إتجه البعض إلى دعوى إستئجار أرض فى كندا لتزرع فيها مصر القمح (بأيدى كندية بالطبع)، ثم قيل أخيراً إن مصر سوف تستأجر أرضاً فى أوغندا تقوم فيها الشركات الخاصة بزراعة القمح الذى تحتاج إليه مصر، وهذا العرض وذاك، مما يؤثر سلبياً على السيادة المصرية، ويضاعف تكاليف القمح، ويمكـّن دول حوض نهر النيل من أن تصر على مطـْلبها بتغيير الحصص، وخاصة حصة مصر من مياه نهر النيل، لإعادة توزيعها على بلاد الحوض تبعاً لحاجاتها الحقيقية والتى تغيرت عما كانت عليه 1929. ولو كان نظام الحكم مُرشّدا، لما فرّط فى الأراضى الزراعية الخصبة، ولاستكمل المشروعات الجانبية التى لا يعمل السد العالى بكفاية دونها وإلا تأثرت التربة المصرية بما يقلل من خصوبتها ويساعد فى تقلصها. هذا فضلا عن عدم قبول ضياع السودان مقابل جلاء الجيش البريطانى، وهو جلاء سرعان ما استـُبدل به الجيش الإسرائيلى (حدث جلاء الجيش البريطانى يوم 18 يونيو 1954 ثم دخل الجيش الإسرائيلى إلى صحراء سينا يوم 29 أكتوبر 1954، وعاد ودخل مرة ثانية يوم 5 يونيو 1967 ليظل حتى 1981 فلم يخرج إلا بعد عقد معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل).
قال الشاعر أحمد شوقى (المتوفى 1932) فى قصيدة له:
وأين الفوز ؟ لا مصر إستقرت.. على حال ولا السودان داما.
لقد رفض المثقفون السودانيون وحدة مع مصر حتى لا تحكمهم العسكرتاريا، لكن سرعان ما زحفت هذه العسكرتاريا إلى السودان، وكلما قام حكم مدنى قلبته العسكرتاريا، حتى صار السودان مقاطعات متناحرة متحاربة، فضاع وتبدد وتشتت، وسوف يحدث تقسيم له إلى أقاليم إن آجلا وإن عاجلاً.
أما مصر فقد تكالبت وتكاثرت عليها المشاكل والرزابا، حتى إنحصرت – كحد أدنى – فى طلب رغيف العيش والمسكن الملائم أو الإيواء (لسكان العشوائيات على الأقل، وهذه العشوائيات التى يبلغ عددها فى القاهرة 14 عشوائية لم تنشأ إلا بعد حكم العسكرتاريا 1952). وعما قريب فسوف يضاف إلى هذا الثنائى المخيف مُشكل آخر سوف يهز مصر هزا عنيفاً، ألا وهو مياه النيل، شُربا وريا وحياة.
ولو خلصت النوايا وصدقت الفهوم لكان السودان، بمساحته الشاسعة، سلة الغذاء للعالم العربى كله، يقوم بالزراعة فيه شباب مصر ورجالها، الذين كانوا ليتأقلموا مع حرارة الجو بمثل ما تكيفوا مع حرارة الجو فى بلاد الخليج، ودفع الحماسة فيهم أنهم يعملون فى بلدهم، وأن المسافة بين الخرطوم والقاهرة هى بالطائرة، ساعة واحدة فقط.
وغنى عن القول أن الصومال صارت مشكلة للبلاد العربية تضر أكثر مما تفيد، وأن دور موريتانيا ضعيف للغاية، بهذا تكرس وتزايد التبعثر والتفاصل والتخاصم بين البلاد، ولم تعد الجامعة العربية إلا مكالم (مجالس كلام) للشجب والتنديد والإستنكار دون أى فاعلية أو إيجابية.
هذا التبعثر والتفاصل والتناحر بين الحكومات العربية، كرّس وثبت الحكم الأوتوقراطى أو العسكرى، كما ظهر فيه الحكم العائلى (حكومة الأسرة) وهى جميعاً أشبه بنظام العصور الوسطى الذى كان يقوم على العمدة وشيخ الخفر. فتراجع دور الحكومات والمؤسسات كثيراً، وأصبح جلـّها يعمل لصالح نفسه لا لصالح الشعب، مما أحدث فجوة تتسع كل يوم بين الحكام والمحكومين؛ الذى تـُركوا لتدبير شئونهم، وحدهم، كُل بطريقته، دون أن توجد مشروعات متكاملة أو سياسات مستقبلية.
تركزت كل قضايا العرب فى المسألة الفلسطينية، بل وصرح بعض الحكام بأن لا إصلاح ولا تنمية إلا بعد حل المشكلة الفلسطينية. ومن له دراسة أو دراية بعلم السياسة يدرك أن هذه المسألة لن تحل فى المستقبل المنظور، وأن فريقاً من زعمائها يعمل على ذلك بوعى أو بجهل. وتطالب كل الدول العربية بعودة الجيوش الإسرائيلية إلى مواقعها يوم 4 يونيو 1967 (وهو اليوم السابق لهزيمة 5 يونية)، وهى بذلك تدين ما ادّعت أنه كفاح وتقضى على كل ما قالت أنه أمجاد، وألقت فى بحر الجهل وظلام الغوغائية بدماء شهدائها وأموال الأسلحة التى جاع أبناؤها لتسديد ثمنها.
عندما تخوفت الولايات المتحدة من النمو الإقتصادى والتنمية البشرية فى الصين والهند (بلدا المليار سكان) فقد أوعزت إلى بعض الشركات بالمضاربة على أسعار البترول من خلال الأسهم المتداولة فى البورصات العالمية. وقفز سعر برميل البترول إلى مُستوى لم يحدث من قبل، فبلغ 147 دولاراً، بما حقق للبلاد النفطية فى الخليج العربى والمغرب العربى فوائض مالية خرافية لم تـُوجه إلى صالح الشعوب أو صوالح الأمة العربية، بل أودع بعضها فى بنوك الولايات المتحدة وأوروبا، حيث يستفيد بها إقتصاد هذه البلاد وحكوماتها، وذهب البعض الآخر فى شراء أسلحة من البلاد الغربية المنتجة للسلاح، وهو أمر ينعش إقتصادها ولا يفيد البلاد العربية فى شىء لأنها تفتقد إلى الجيوش القادرة – علمياَ وفنيا وتقنيا – على إستعمال هذه الأسلحة.
وكان من المفترض أن تكون مصر قاطرة للبلاد العربية جميعاً، تقود عرباتها بالأخلاق والعلوم والفنون والآداب والتقنيات الحديثة والعمل الجاد، لكن ذلك لم يحدث، فتراجع دور مصر كثيراً، وحل محلها فى كل مجال دولة أخرى أو أكثر، وهى فى الحقيقة تفتقد مقومات القاطرة، فتبعثرت عربات القطار العربى، واتجهت إلى التقليد من جانب، ومحاربة التقليد من جانب آخر، وهو ما قسمها بحدة بين دوافع الماضى وجواذب المستقبل، فمزقها ووضع فى صميمها صراعاً لن يحسم، وقتالا لن يخف، وخلافاً لن يُحل.
إن الناس فى جلّ البلاد العربية، وخاصة مصر، تجأر بالشكوى من فساد الحكم، وسقوط النظام القانونى، وتآكل المبادىء الأخلاقية، وتغلب الإنتهازية اللاأخلاقية، وندرة الطعام وغلائه، وزيادة النفاق وسطوته، وظهور الإجرام السياسى، وتوحش الإجراءات القمعية، وتفشى الرشوة والمحسوبية والولاء الزائف لمن لا حق له فى أى ولاء؛ وزيادة العتامة وخفاء الشفافية، والكلام بعد الكلام، والتصريح تلو التصريح، وهو كله كذب فى كذب وغش ما بعده غش؛ هذا فضلا عن ضياع النظام المصرفى بمدخرات المودعين، وانتشار البطالة دون أى أفق يشير إلى حلها، وفساد الأغذية، وسرطنة الأسمدة، والإقطاع المالى الجديد، والغلبة العشوائية للقرارات، وعفوية السياسات، وإرتجالية التصرفات.
وفى تركيا حدثت نهضة صناعية نتيجة لأخذها بالأساليب الصحيحة للإنتاج، لكن كل جهدها السياسى يقوم منذ فترة على ضرورة الإنضمام إلى الإتحاد الأوروبى الذى يسوّف ويؤجل دون أن يُصدر قرارا واضحاً برفض قبولها عضوا فى هذا الإتحاد، تخوفا من أن تصبح بذلك منفذا لهجرة الباطلين والمتطرفين والمتغولين الى البلاد الأوروبية.
وإيران لم تأخذ عبرة مما حدث لعبد الناصر، ولا اتعظت بما وقع لصدام، فهى تسير فى ذات الإتجاه، من صوت مرفوع، وتهديد مسجوع، وإدعاء مسموع. ويلوح أنها سوف تتلقى ضربة قاصمة، تنهى نظام الملالى وتقضى على الطموح الذرى. وهى ضربة أيا كان من يتخذها فهى تحظى بقبول الغرب كله.
وإسرائيل تسير على خطط رسمها المؤتمرون الهصيونيون العالميون فى بازل بتاريخى 29 أغسطس 1887، 1997، وقد إستفادت كثيراً من جهل جيرانها وفساد الحكم عندهم وإنتشار الجهل والتطرف والإرتجالية. وسوف تتقدم بخطى وئيدة لكنها وطيدة فى تطبيق حكم القانون والأخذ بالتقنية الحديثة (فقد ذكر أحد المهاجرين الروس أنه وزملائه المهاجرين من روسيا تقدموا بالتقنية الإسرائيلية فى سنة واحدة بما كان يمكن أن يحدث فى 15 سنة)، هذا مع إحترام حرية وكرامة مواطنيها (حتى رفات الموتى منهم) وتبعية الإقتصاد والعمالة الفلسطينية لها، حتى ليمكن أن يتحقق لها ما تصبوا إليه وتكدح فيه من أن تكون واحة الديموقراطية والحرية والإنتاج التقنى المتقدم ؛ فتسحب وراءها كل الدول المتخلفة، ولا عزاء للشعارات الفارغة والمقولات المتكررة والإدعاءات المكذوبة.
saidalashmawy@hotmail.com
القاهرة