الثقافة البشرية الحالية ، لابد أن تتعدل تعديلا كاملاً وان تتبدل تبديلاً شاملاً ، ذلك بأنها قامت وتقوم وإستمرت وتستمر على خليط متنافر من الحكايات الخرافية ، والتراثات الشعبية ( الفولكلور ) ، والإشاعات المنتشرة ، والتأكيدات الكاذبة ، والأقاويل المتنافرة ، والاخلاقيات الفارغة ، فما نجح بها البشر ولا أفلحت البشرية . وقوام التغيير اللازم والتبديل الضرورى يستقيم على ضمائم متكافلة ويستديم على قسائم متكاملة ، وهى تتحدد إبتداء فى الخماسية التالية :
أولا : أن الله واحد ، واحدية كلية تشتمل على الجميع وتحتوى على الكل . فهو ليس واحد عددى ، لأن الواحد العددى يستدعى الرقم إثنين ثم الرقم ثلاثة .. وهلم جرا . فالواحدية العددية ( واحد أحد ، والواحد هو رقم (1) فى العربية وهو أحد فى العبرانية ) أرهقت العُقول وبلبلت الفهوم ، لوقفها عند العددية دون أن تتأدى إلى الكلية .
وقد خلق الله الإنسان ليخلق به ، فالإنسان بهذه المثابة عوْن الله وليس عبد الله ، ينفذ إلى الألوهية الصادقة والكونية الصحيحة من خلال قلبه ، متى كان القلب معبد الله الحى . ومتى كان الإنسان من الكون ، وصار عون الله ، لا تكون هناك جبرية ولا قسرية ، إذ يتحرر الإنسان من أى جبر وأى قسر متى صار فى الكل ، وكان الكل فى واحد .
ثانياً : أن الحركية ( Timing )– كما قال السيد المسيح فى أحد أناجيل المعرفة – هى علامة الله فى الإنسان . فكل ما فى الكون يتحرك حركة متساوقة . وما يبدو سكوناً هو خيال أو جدته المحايثة والمسايرة والمصاحبة على درجة أو درجات متقاربة . أما الحقيقة فهى أن الكون أشعة متدفقة أو أمواج متلاحقة فى بعضها البعض ، يظهر لنا وجه منها فى صور مادية متعازلة متفاصلة ، أما الحقيقة فهى كما يبين من جزيئات ( Particles ) المواد ، أشعة متدفقة وأمواج متلاحقة ، تتداخل وتتواصل ثم تتباعد وتتفاصل ، وهكذا حتى الأبد .
والزمنية خاصية أساسية فى الموجودات جميعاً . وفى اللغتين العربية واليونانية يُوجد لفظان ، أحدهما يعبر عن الوقت والثانى يعبر عن الزمان . وبينما للوقت حساب مادى فإن للزمان طابع وجودى . لكن اللغات الأوربية فيها لفظ واحد هو Time بالإنجليزية ، يساق على هذا النحو مرة ثم يساق على ذاك النحو مرة أخرى .
ومعنى الزمنية أن لا شىء فى الكون يقف أو يظل على حاله ، فما لا يتقدم يتراجع ، وما لا يتجدد يتحلل ، وما لا يتحرك يتجمد .
وقد لوحظ ذلك من الفزياء ، فيما أضافته نظرية الكوانتوم الميكانيكية ، وهو يلاحظ فى كل شىء .
ثالثاً : كل أمْر ، فعلاً أو قولاً ، حركة أو سكوناً ، ضموراً أو سُفوراً ، يؤديه أو لا يؤديه الإنسان بنفسه ، هو وحده المسئول عما قال أو لم يقل ، عما فعل أو لم يفعل ، إذ لا توجد دفعة لملاك أو نزغة لشيطان تشاركه فى المفعولية أو تشاطره فى المسئولية .
ففى مصر القديمة ، كما يبين من كتاب بيان فى النور ( الذى يسمى خطأ كتاب الموتى ) يقف الإنسان فى المحاكمة بعد موته ليؤدى الحساب ، فيقول : لم أشرك بالله ، ولم أضر أى إنسان ، ولم أسىء إلى أى حيوان ، ولم أتعد حدودى قط .. إلى آخر ذلك ، دون أن ينسب أى خطأ حدث منه أو شر صدر عنه إلى الشيطان ؛ فلم يكن فى الفكر المصرى القديم شيطان يوسوس ولا ملاك يؤسّس ، بل كان المرء وشأنه ، أمامه طريق الخير الذى يجّسده رب ( سيد ) الخير أوزير ( إدريس ) ، وأمامه طريق الشر الذى يجّسده رب ( سيد ) الشر ( ست ) ، وهو وخياره ، إن اختار الخير تمثل به فى كل شىء وتجسد فيه طوال حياته ما أمكن ، أما إن إختار الشر فهو يتمثل به فى كل شىء ، و يتجسد فيه طوال حياته إلا ما ندر . وحين ما تحين ساعة الحساب الأخروى لا يدعى المتوفى أنه كان ضحية الشيطان الذى وسوس له الشر ، أو دفعه إليه ونزغه عليه .
ويقول علماء علم الانثروبولوجى ( الأنسنة ) أنه لا يوجد أى أثر قديم فى التراث البشرى ( الفولكلور ) يشير إلى وجود الشيطان ، الذى أصبح معْلماً مهما فيما تلى كتابة أسفار التوراة .
فقد دُونت أهم أسفار التوراة ، فى عهد الإحياء الأول لليهودية ، ثمانية قرون بعد وفاة موسى ؛ وكان اللوحان الذان دُونت عليهما الوصايا العشر قد فقدا ، كما كان قد ضاع تابوت العهد ، وما كان قد سُجّل على صفحات متناثرة . وقد قام بتدوين أسفار التوراة الكاهن عزرا ، وآخرين تحت إشرافه ، بعد عودة من بقى من اليهود من الأسر البابلى ، والتى تعبر عنهم التوراة بالإشارة إلى أنهم بقية يهودا . ووقت التدوين كانت قد داخلت اليهودية أفكار وآراء وأقوال من مصر القديمة ، كما كانت قد غالبتها آراء وأقوال وشرائع من البابلية . وكانت كل هذه الآراء والأفكار والأقوال والشرائع والمعتقدات قد تخالطت وتغالطت ، على النحو الذى بينّاه تفصيلاً فى كتابنا ( الأصول المصرية لليهودية ) وكان أهم وأسوأ خلط ، هو المطابقة بين أوزير ( رب أو سيد الخير ) فى مصر ، وبين إله اليهودية ( يهوا ) إذ استعيرت صفات هذا من ذاك . وصارت جنة أوزير هى جنة عدن ، تقع فى الأرض ، إلى الجنوب من العراق ، ويخرج منها أربعة أنهار ، أحدهما هو نهر الفرات الموجود حالا ( حالياً ) فى العراق . وإذ كان الإله هو رب للخير وحده ، فقد تعين إيجاد إله يكون ربا للشر فحسب ، ومن ثم إتجه النظر إلى ست عدو أوزير ، على ما سلف البيان ، فصار ست هو رب ( سيد ) الشر ، وتصحّف نطق اللفظ عند العبرانيين – كما كان عند الكنعانيين الذين كان العبرانيون يتكلمون لغتهم حتى نشأت اللغة العبرية بعد أربعة قرون من عهد موسى – فصار ( اللفظ ست ) سيطان ، ثم إنتقل إلى العربية بإستبدال السين شينا فصار الشيطان .
ومن هذه الفترة غلبت فكرة خلط الشيطان بالشر ، وجعله منافساً لرب الخير ، فصارت ثمة ثنائية واقعية للألوهية ، توزعت بين الخير والشر ، وغاب التصور بأن الخير والشر هما صفتين من صفات الخلق ، وأن الله إله العالمين ( الذى كثيراً ما تعبر عنه التوراة بأنه إله الآلهة ) هو إله مجرد ، أى لا تستطيع الحواس المادية أن تدركه ولكن تدركه البصائر ، أو القدرات العقلية المجردة التى تتكون عند بعض الناس نتيجة التعليم أو التأمل أو المعرفة المقدسة أو الموهبة الفطرية .
فقلب الإنسان هو إلهه الذى يتبع الحق والعدل والإستقامة والنظام ، فيكون متوافقاً فى نفسه ، متعاشقاً مع الإنسانية ، متناسقاً مع الكونية ، متواشجاً مع الالوهية ، أو يجنح إلى غير ذلك من سبيل ، فيكون متزاحماً متصادماً مع الكل : نفسه ، والإنسانية ، والكونية ، والالوهية ؛ وتضيع حياته هباء ، ويذهب كما لو لم يكن قد جاء ، دون أثر إلا الفساد والشر والفوضى ، وما ينشأ عنهم من حلقات وتوابع وموجات .
رابعاً : أنه إذا أريد تقريب معنى الألوهية الناس ، فيمكن – تجاوزاً – تمثيله بالضوء الذى يتحلل عند الأمطار ومن خلال المواشير إلى سبعة ألوان هى البنفسجى ، النيلى ، الأزرق ، الأخضر ، الأصفر ، البرتقالى ، الأحمر ، لكن لا لون من هذه الألوان يجبّ اللون الأبيض أو يطاول وجوده . كما أن اللون الأبيض ليس هو هذه الألوان السبعة فحسب ، ذلك أنه يزيد عنها ويفوق عليها ويغايرها تماماً
ونور الله أشبه بنور العلم ونور العقل ، نور بلا ظل ، والعارف به يحيا به ، أما من لا يعرفه فهو جاهل يعيش فى ظلام دامس ، مهما اكتسب من معلومات أو كدس من أموال أو أنار أضواء العالم الدنيوى حوله . إذا أراد إنسان أن يتواصل به ويتداخل إليه ، فعليه أن يفعل ذاك من خلال الفهم الصحيح للحقيقة الكونية ، والعمل على توحيد ذاته هو ، فلا يكون عقل وقلب ، ولا يكون إيجاب وسلب ، ولا يكون جوهر ومظهر ، ولا يكون جواّنى وبرانى ، إنما يكون هذا وذاك ، مع التوازن والتوافق بين قوى الذكورة وقوى الأنوثة ، فينال الخلاص من نفسه أولاً ثم يصل إلى الخلاص الكونى بعد ذلك ، ويصير فوق الأقدار لا تحتها ، هو من عواملها وعناصرها دون أن يكون من توابعها ونواتجها .
وفى أحد أناجيل المعرفة يقول السيد المسيح ( الحق أقول لكم ، لا يدخل أحد مملكة السماء بناء على دعوتى ، ولكن فقط لأنه إكتمل ) .
وفى القرآن ( كل إمرء بما كسب رهين ) سورة المدثر 38:24 . فالمرء إذ يتوازن فى ذاته ويعرف الحقيقة الكونية ، ينمو فى الحقائق ( development ) ولا يتورم ( tumescent ) فى المظاهر ، فيكون صلباً من الداخل متماسكاً بكل قواه ، فلا تفرغه شكة ولا تفّزعه ضغطة .
خامساً : ان الله ليس هو الأول والآخر ، إنما هو ما قبل الأول وما بعد الآخر . أما الأول والآخر فهو الكون المادى رباعى الأبعاد ، أو روحانيه هذه الكون وحده ، دون باقى الأكوان ، فهى صفات لرب ( أو سيد ) الكون الذى خُـلق بالكلمة ( Big Bang ) . ومع هذا الكون المادى رباعى الأبعاد ، نشأ الزمان كبعد رابع لمواده ، وعمق داخلى للإنسان . وهذا الزمان داخل الله ( على نحو ما ) فهو يفيض عنه ويزيد منه ، يعلو عليه ويسمو فوقه . أى إن الزمان كماض وحاضر ومستقبل ، داخل الله ، يعرفه كله ويراه جميعاً ، ما وقع منه لنا وما حدث فى الوجود ، وما لم يقع وما لا يزال لم يحدث . ومن هذا يبين أن علم الله بالحوادث قبل أن تقع غير فرضها على الخلق . العلم بما لم يقع ولم يحدث سببه أن الله فوق الزمان بأقسامه ، الماضى والحاضر والمستقبل ومن ثم فهو يعلمه أو يراه ، أما ما يحدث من الناس أو يقع من حوادث فهو يحدث ويقع وفقاً للسنن الكونية والقوانين الأزلية والقواعد الإلهية ، التى خلقها الله وأوجدها عندما خلق الكون ، وبثها فيه . فعلم الله بالأحداث هى نتيجة لذاته الفريدة التى لا يضاهيها شىء ، لكنه لا يعنى فرضها على البشر .
وقصارى القول ، وعصارة البحث أن الإنسان حر فيما يفعل أو يقول ، حرية غير مطلقة لأنها متأثرة بعناصر وفيرة وعوامل كثيرة ، وفقاً للقواعد والسنن والقوانين التى كتبها الله منذ الأزل . فالمكتوب عند الله منذ الأزل هى موازين الكون ، لكنه شاء أن يعطى الإنسان حريته ليفعل ما يريد ويقول ما يشاء ، وهو يُحاسب عن أعماله وأقواله طبقاً للموازين الأزلية القائمة منذ بدء الخلق ولا يكون فعل الإنسان الحر شركاً بالله ، لأنه خلقه ليكون خليفته ( وإذ قال ربك للملائكة إنى جاعل فى الأرض خليفة ) . أما مناط هذه الخلافة فهو ما جاء فى صحف إدريس ( التى نشرناها فى مجال آخر ) أن الله خلق الإنسان ليخلق به .
( أنتهت الدراسة )
saidalashmawy@hotmail.com