غزة ـ يوسف بزّي
آخر شخص التقيته قبل دقائق على مغادرتي قطاع غزة كان صبياً إسمه حسن (15 عاماً) من سكان مخيم البريج. كان وحده في باحة المعبر الفلسطيني، فيما والده يقف بعيداً وراء قضبان البوابة المطليّة بالأسود.
حسن مصاب بسرطان في الرأس، ورم يضغط على دماغه، يجعل نطقه بطيئاًَ. وها هو يقف تحت أشعة الشمس مع علبة بسكويت، ينتظر موافقة السلطات المصرية لدخول أراضيها بحثاً عن علاج أو مستشفى.
«هل انت طبيب؟» سألني. وعندما عرف أنني مجرد صحافي قال: «خذني معك إلى أوروبا». لم أفهم لماذا ظنّ انني ذاهب إلى أوروبا. كما لم أفهم لماذا رفضت السلطات المصرية طلبه. قال رجل «أمن المعابر» التابع لحركة «حماس» إن علاج السرطان هو نفسه في مصر أو في غزة، لا فرق.
ربما كنت الوحيد الذي انتبه إلى أن حسن كان على الأرجح يسعى لـ «الخروج» فحسب، أن يغادر المخيم في رحلة أخيرة قبل فوات الأوان.
ينقسم مجتمع غزة إلى «غزاويين» أي أهل المدينة والبلدات والقرى الأصليين؛ و«لاجئين» أي أهل المخيمات ممن تشردوا بعد العام 1948، و»عائدين» أي الذين أتوا مع الزعيم الراحل ياسر عرفات بعد العام 1994 واتفاقية أوسلو.
الغزاويون هم الذين يملكون العقارات والأراضي الزراعية والتجارة والمشاغل الصناعية ويتولون تقليدياً الادارة المدنية والبلدية، ولديهم امتياز «الأوراق الثبوتية» التي تخولهم التنقل والسفر حتى إلى إسرائيل أو عبرها، في حين يشكل اللاجئون الأيدي العاملة (والبطالة) والقوة البشرية التي تغذي الميليشيات المسلحة. وهم منذ العام 1949 يعتمدون على مساعدات «الأونروا» لتأمين أساسيات غذائهم وتعليمهم، ومعظمهم محروم من التنقل والسفر، ويشكلون مجتمع الفقر والعوز والاكتظاظ السكاني.
العائدون هم فلسطينيو الشتات. أغلبهم من أركان منظمة التحرير الفلسطينية وإدارتها وكوادرها. وهم تشربوا تجارب العيش في الأردن وتونس ولبنان والدول الأوروبية (الشرقية الشيوعية والغربية)، واتّصفوا بحيازتهم مقدّرات مالية وثقافية متنوعة واقبال على الرفاهية والترف.
الصدمة الأولى التي حدثت في غزة هي خسارة الغزاويين المناصب الإدارية والنفوذ السياسي الأهلي والحظوة الاقتصادية أمام «العائدين» الذين اندفعوا إلى المشاريع العمرانية والمنشآت السياحية الطابع وبناء القصور والفيلات والفنادق وأماكن الترفيه وشراء الأراضي والدخول في شراكات تجارية مع الإسرائيليين والعرب. وقد فاقم هذه الصدمة ميلُ العائدين إلى «الانفتاح» والاختلاط وتقبل الأنماط الغربية في العيش والأخلاق، فيما يتسم الغزاويون بالمحافظة الاجتماعية والدينية، وهم الميالون تقليدياً إلى «الأخوان المسلمين».
في هذا الصراع الصامت كان مجتمع اللاجئين (أغلبية السكان والمقيمين) هو مادة كسب الولاء والاستحواذ على الأغلبية. واستطاعت «فتح» أن تكسب تأييد معظم الشطر الجنوبي من قطاع غزة بالإضافة إلى الطبقات المتوسطة الجديدة الناشئة من اقتصاد المال والخدمات في مدينة غزة. وغالباً ما يكون كسب الولاء كتلاً وجماعات أي مجموع عائلي وعشائري وقبلي.
حتى في اثناء الحرب لم يتوقف صراع فتح ـ «حماس». واذ «تفتخر» فتح بأن الذين «استشهدوا» منها في الحرب الأخيرة هم 82 مقابل «استشهاد» 48 من«حماس»، يتبين لنا من رواية ممرض في مستشفى دار الشفاء أن كثيرين من شبان فتح أتوا إلى المستشفى مصابين برضوض قوية ورصاص في أرجلهم. وكان نوع الرصاص من بنادق كلاشينكوف. وفي روايات شفوية متواترة أنه حدثت إعدامات ومحاكمات ميدانية لشبان من فتح، هم الممنوعون أصلاً، من حمل السلاح.
الموظفة في «دار الشفاء» روت أن فتاة شاهدت من نافذة المستشفى شبان «حماس» وهم ينهالون ضرباً على شاب فتحاوي في الباحةالخلفية واذ صرخت بهم بادروا إلى اطلاق النار باتجاهها وعلى نوافذ المستشفى.
يفسر صحافي مقيم في غزة الأمر بأن «حماس» كانت مصدومة من دقة المعلومات الاستخبارية الإسرائيلية. فأن تشن هيليكوبتر إسرائيلية غارة على محل صيرفة محدد لأنه يتولى «تبييض» أموال «حماس» أو أن تغتال الطائرات سعيد صيام، أو أن تلاحق القياديين الحمساويين من فور تغيير أماكنهم، هذا ما جعل «حماس» تصاب بجنون الريبة ـ إذا صح التعبير ـ من كل من له شبهة الانتماء إلى فتح.
وضاعف من هذه الريبة أن إسرائيل، تجنبت نسبياً ضرب المناطق المعروفة بولائها لـ «فتح»، خصوصاً جنوب القطاع. وفي شرق مدينة غزة، دخلت كل المناطق: تلّ الهوى عزبة عبد ربه والعطاطرة وجبل الريس وجبل الكاشف لكنها التفت من حول منطقة الشجاعية المعروفة بفتحاويتها. لقد شعرت «حماس» ان إسرائيل تستهدفها أكثر. لذا وعلى الرغم من قلة التمييز الإسرائيلي بين المدنيين والمسلحين، بين فتح و«حماس»، كانت «حماس» مهجوسة بالتخوين، وكان مسلحوها يجوبون القطاع لـ «تطهيره» من الخونة المفترضين.
أروي هذه الحادثة كما هي، تاركاً تأويلها لمن يهمه الأمر (وأحتفظ باسم المكان وأسماء الشخصيات على سبيل الحيطة وعدم التشهير): كنت في مكتب مدير المدرسة أجري مقابلة صحافية معه. التلاميذ في الملعب يحتلفون بعرض ترفيهي بمناسبة عودتهم إلى الدراسة. لم نكن نعرف لا المدير أو الأساتذة أو التلاميذ ولا أنا أن هناك عملية عسكرية قامت بها «حماس» أسفرت عن تفجير جيب عسكري إسرائيلي ومقتل جندي وجرح ثلاثة.
سمعنا صوت طائرات حربية ولم نعر الأمر أي أهمية. فجأة دخل علينا شخص مهندم على طريقة الشخصيات السياسية الإسلامية. حدست انه من قادة «حماس». وقف المدير متفاجئاً بقدوم هذا الشخص الذي يبدو أنه معروف هنا. بعد السلام والتعارف، ومن دون استئذان أو سؤال جلس المسؤول الحمساوي قاطعاً مقابلتي الصحافية.
المدير يسأله: «خير انشاء الله؟» محاولاً معرفة سبب الزيارة. المسؤول يجيب: «الشباب نفذوا عملية.. وأتتنا الأوامر بإخلاء بيوتنا ومكاتبنا».
حل الصمت، وقفت وغادرت متأملاً التلامذة في الملعب يلهون ويمرحون والطائرات الإسرائيلية في السماء و«القائد» جالساً في مكتب المدير.
مقهى «مزاج» يقع في شارع الرمال، الذي هو شانزليزيه مدينة غزة. مقهى حديث يرتاده الصحافيون المتمركزون بالقرب منه في برج الشروق والشبان والشابات ورجال الأعمال والتجار والسيدات اللواتي يردن الاستراحة بعد مشوار التسوق.
هناك التقيت شابين غزاويين (ح.اليازجي 18 عاماً) و(أ.حجاج 19 عاماً) محاولاً معرفة كيف يقضي الشباب أوقاتهم وكيف يفكرون وما هو المستقبل الذي يخططون له، وأن أعرف المزاج المدني والشبابي.
اليازجي:عدت من أميركا قبل تسعة أشهر بعد أن قضيت سنتين فيها. كنت وأهلي في فرجينيا والتحقت بالمدرسة الثانوية هناك، والدي سفير السلطة الفلسطينية الآن وقبل ذلك كان وكيل وزارة الداخلية، ويدير مؤسسة «ناشد» للعلوم والتنمية والثقافة (التي تلقى الدعم من مؤسسات اسبانية).
أول ثلاثة أشهر في أميركا كانت صعبة، بعد ذلك تأقلمت، فالناس هناك اجتماعيون ولطفاء. وهناك تعلمت أن اكون كائناً اجتماعياً منفتحاً، ألعب الرياضة. ولم يكن لدي مشكلة مع الفتيات والاختلاط، فأنا كنت هنا في غزة تلميذ مدرسة «العائلة المقدسة» الكاثوليكية، وهي من أجمل المدارس وأفضلها.
في أميركا تعلمت الاعتماد على نفسي. الشغل هنا عيب وهناك مصدر اعتزاز. وعملت في مقهى «ستار باكس» ولم أشعر أني غريب فيه. والآن أفكر بالسفر إلى أميركا للعيش. المدرسة الأميركية في غزة دمرها الجيش الإسرائيلي بالكامل من دون سبب واضح. مستقبلي ليس هنا.
السلطة الحالية في غزة والسابقة ضيّعتا القضية الفلسطينية. لا أحد الآن يبحث لا عن القضية ولا عن القدس ولا عن العودة. الناس تريد «جرة غاز» و«غالون بنزين» عشنا سنتين تحت الحصار والحاجات الأساسية تحتكرها «حماس». الأنفاق هي التي تؤمن لنا الحياة. لكن البضائع الإسرائيلية أفضل بكثير من البضائع المصرية… تعوّدنا على جودتها.
سياسة «حماس» لن تؤدي إلى فك الحصار. والحرب ليست الحل.
اعتقد ان حادثة اقتحام أسوار الحدود مع مصر عبر معبر فيلادلفيا قبل سنة هي التي دمرت آخر فرصة لأهل غزة لفك الحصار.
اقتحموا الحدود بتشجيع من «حماس» وجلبوا من مصر ماذا؟ تبغاً يكفي غزة لعشر سنوات وموتوسيكلات ومعسل الأرجيلة وأكياس التشيبس!
حجاج: نستيقظ في الواحدة أو الثانية ظهراً. نبدأ بالمكالمات عبر الهواتف الخلوية: «ما الذي يجب فعله؟» في يومي الخميس والسبت نذهب إلى جمعية الشبان المسيحيين (ymca) فلدينا عضوية فيها، هناك نلعب التنس وكرة السلة ونتجمع في الكافتيريا ونتسلى بالأنترنت وألعاب الكومبيوتر.
الحياة قاسية ونسعى لتأمين ألف دولار لنشتري اقامة لثلاثة أسابيع في مصر. ما نطمح إليه هو المغادرة إلى أي جهة في العالم.
لا يمكننا أن نبقى تحت رحمة لعبة الصواريخ. فأيام سلطة فتح، كانت «حماس» ونكاية بالسلطة وبأي اتفاقيات مع إسرائيل تطلق الصواريخ. وعندما حكمت «حماس» كانت في أيام الهدنة صارمة جداً، وتزج بالسجن كل من يطلق صاروخاً. وجماعة «فتح» نكاية بـ»حماس» كانوا يطلقون الصواريخ أيضاً، ليخرّبوا على «حماس». والناس لا تدري ما هو الحل!
أسوأ ما صادفته في غزة ان حماس تروج لفكرة أن مأساة الفلسطينيين أبدية إذ تنشر شعاراً مفاده: «اننا أهل الرباط إلى يوم الدين» أي حروب مستمرة إلى يوم القيامة!