فكّرتُ، قبل الانتهاء من قراءة الصفحات المائة الأولى، برصد سنوات الاعتقال، وعدد البيوت السريّة التي اختبأ فيها نعيم الأشهب بعيدا عن الأعين، والمناسبات التي أفلت فيها من قبضة رجال الأمن، ثم تراجعتُ عن الفكرة طالما أن ما تقدّم لا يمثل سوى الثلث، في سيرة تغطي ثلاثمائة وأربعين صفحة، تتمحور حول الدخول إلى السجن والخروج منه.
ومن حسن الحظ أن الأشهب وفّر هذا الجهد في الصفحات الأخيرة من كتابه المعنون “دروب الألم، دروب الأمل”، الصادر عن دار التنوير في رام الله (2009) فذكر أن سنوات السجن بلغت سبع سنوات ونصف السنة في السجون الأردنية والإسرائيلية، إضافة إلى 12 عاما في العمل السري، تحت الأرض، منذ أواخر الأربعينيات وحتى مطلع السبعينيات، بلا عنوان معروف، ولا مهنة بعينها ما عدا مهنة المناضل الحزبي، المتفرغ في صفوف عصبة التحرر الوطني، ثم الحزب الشيوعي الأردني، وأخيرا الحزب الشيوعي الفلسطيني.
تتحرك سيرة الأشهب خلال الفترة المعنية، بالمعنى الجغرافي، ما بين القدس وعمّان، وتكاد تكون نموذجا كلاسيكيا يختزل سيرة جيل من الشيوعيين الفلسطينيين، الذين بلغوا سن الرشد قبيل النكبة، أو بعدها بقليل، وكان عليهم التأقلم مع متغيّرات راديكالية بعيدة المدى من نوع انهيار الكيان السياسي والاجتماعي الفلسطيني في العام 1948، ثم تحوّل الضفة الغربية إلى جزء من الدولة الأردنية، ووضع قطاع غزة تحت الإدارة المصرية، وأخيرا الاحتلال الإسرائيلي للضفة والقطاع في العام 1967، وما رافقه وتلاه من صعود للمنظمات الفدائية، ومنظمة التحرير الفلسطينية.
لن يجد القارئ تأريخا لما سلف من تحوّلات في كتاب الأشهب، بل سيجد وصفا تسجيليا لما أسفرت عنه من آثار سياسية واجتماعية وثقافية، وما تجلى منها في حياة ما لا يحصى من أفراد، وجدوا أنفسهم فجأة (كما يحدث في كل زمان ومكان) جزءا من صلصال حار وملتهب، لا يكف عن الحراك كما تفعل أفعى أسطورية، اسمه التاريخ في لحظة تشكيل. وهم غالبا صنّاعه وضحاياه.
وإذا تغاضينا عن الأخطاء المطبعية، وإمكانية تحرير الكتاب بطريقة مغايرة، لتحريره من مشاكل بنيوية تعرقل سيولة وسلاسة السرد، ناهيك عن التكرار غير المبرر، وضرورة الاستطراد في مواضع بعينها، والاختزال في مواضع أخرى، فإن كتاب الأشهب ينجح في تذكير القارئ بحقيقة أن حروب وصراعات الحاضر، بالمعنى الثقافي والسياسي، غالبا ما تدور وتُدار على جبهة الذاكرة.
وفي زمن انهيار الحركة الوطنية الفلسطينية، والصعود السياسي والأيديولوجي للميليشيات في فلسطين، فإن الدفاع عن الذاكرة، بتكريس حقائق من نوع ثراء وتعددية تجاربنا السياسية والثقافية، ووجود أكثر من خيار، دائما، لكيفية التعامل مع الواقع، والخروج من مآزق تبدو عصية على الحل، يعني حرمان الأصوليات الجهادية والقومية الجديدة من الحق في تبرير وجودها بادعاء انسداد الأفق، وعدم وجود خيارات أخرى.
كان ثمة خيارات كثيرة لحل الصراع في فلسطين وعليها منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. وفي هذا الصدد كان الشيوعيون الفلسطينيون الأكثر التصاقا بالواقع، لكن حظوظهم كانت، للأسف، قليلة.
على أية حال، يكتب نعيم الأشهب ما يندرج في باب الأسلوب الأخير، الذي وصفه إدوارد سعيد بمزيج من الإحساس بالعزلة والمنفى والفكاهة والمفارقة. وهذا ما يحضر في النص، وهي خصائص منظورا إليها بأثر رجعي تبدو كوميدية تماما (من جانبي على الأقل) ففي أحد البيوت السرية في عمّان، التي لا يغادرها المناضلون الحزبيون إلا لماما:
“كان رشدي يشغل نفسه أحيانا، حين يمل من لعب الورق والطاولة، بترجمة شيء من أعمال لينين المختارة عن الإنكليزية، أما فهمي فكان يقضي الوقت في لعب الورق والطاولة معنا.. وكان سعيد مضية يحضر حاجة البيت من السوق.. وفي وقت لاحق حين استأنفنا إصدار مطبوعات على الستانسل كان يساعدني في هذا العمل، وأذكر أنه واظب على تعلّم الروسية بالراديو في تلك الأيام، التي نادرا ما غادرت البيت فيها، حتى أمور الحلاقة فإننا تزودنا بالمعدات الضرورية لذلك، وكنّا نتولى الحلاقة واحدنا للآخر”.
لا أتورع، في الوقت الحاضر، عن القول إن لينين كان كاتبا رديئا، وفي أفضل الأحوال فإن تسعة أعشار ما كتب في حياته لم يعد مفيدا لأحد، سوى الباحث في تاريخ الأفكار. وأزعم أن تعلّم الروسية لن يكون مفيدا لشخص يعيش ما بين رام الله وعمّان. ومع ذلك يشي الأمران، أي الترجمة وتعلّم الروسية، إلى ممارسات طقسية، وإلى نوع من التكريس بالمعنى اللاهوتي. فقد كان للماركسية كنيستها، وأساقفتها الكبار، وكتبها المقدسة.
وهذا ليس مهما في الواقع، المهم أن لكل أيديولوجيا شمولية، علمانية أكانت أم دينية، كنسية وأساقفة، وكتبا مقدسة. ومجرد إدراك حقيقة كهذه لن يحرر الأحياء، للأسف، لا في الحاضر، ولا في المستقبل، من الوقوع في هذا الشرك.
ومع ذلك، اللافت للنظر، من زاوية تاريخ الأفكار، وعلم الاجتماع، على الأقل، أن الماركسية، بصرف النظر عن الرطانة الفلسفية، ومزاعم القبض على ناصية الحقيقة التاريخية، مارست دورا تحديثيا في مجتمعات تقليدية متخلفة، ومكّنت هويات محلية في طور التكوين من إنشاء علاقة سوية بالعالم، الذي أصبح بفضلها قابلا للانقسام على أسس طبقية وسياسية، بدلا من الانقسام والتقسيم على أسس دينية وطائفية وعرقية وقومية.
وهذا ما يتجلى في سيرة نعيم الأشهب، الذي نشأ في ظل ثقافة بطريركية تكره الآخر، وتحتقر النساء، ثم تمكّن بفضل ما تيسر من أدبيات في ذلك الوقت، من اكتشاف ضرورة التحرر من تحيّزات اجتماعية وثقافية تقليدية، جوهرانية، ومتخلفة.
وفي هذا الجانب ما يبرر النظر باحترام إلى تجربة شخصية، لكنها ذات دلالات اجتماعية وثقافية وسياسية لم تفقد أهميتها مع مرور الوقت، بل أصبحت أكثر إلحاحا، وفيه، أيضا، ما يبرر مديح الشيوعيين.
Khaderhas1@hotmail.com
* كاتب فلسطيني – برلين
مديح الشيوعيين..!!
التاريخ يشهد للشيوعيين العرب بدورهم الثقافي وبالتصاقهم بقضايا الفقراء وجرأتهم في معارضتهم لسياسات الحكومات العربية
على المستوى الفلسطيني كانوا ابناء الواقع وعلى المستوى اللبناني اطلقوا حركة المقاومة وعلى المستوى السوري عارضوا اعدام الاخوان المسلمين ودفعوا ثمنا اكبر وعلى المستوى العراقي قدموا الشهداء من زمن قاسم حتى المالكي
مقال بعنوان “مديح الشيوعيين” يستحق جهدا اكبر وبحثا اطول وحقائق اكثر
مديح الشيوعيين..!!حقيقة الأمر تكمن ” عقدة ” هي دفعت لينين إن يتحول من واطن- مثقف- عادي إلى ثوري, مناهض للسلطة القيصرية الروسية , اعدم القيصر أخاه الأكبر الاكسندر لمشاركته في إعمالا مضادة للأمن و القيصر قبل الثورة البلشفية بكثير جدا . نفس الشيء جرى للخميني في بداية حياة , ادا السبب في الإطاحة بالنظامين في كلا من روسيا وإيران يعود إلى سبب شخصي أولا ومن ثمة تحول إلى نشاط منظم سياسي هدفه انتقامي وليس نابع من جانب فكري, سياسي واعي , إضافة إلى دور ألمانيا في تموين تلك الثورة التي وقف على رأسها لينين أدى إلى نجاح ثورة عفوية في… قراءة المزيد ..