كثيرًا ما يتغنّى العرب
بأمجاد اللّغة العربيّة. ولا بأس في ذلك لو كان العرب حقًّا يحترمون لغتهم ويعملون على تطويرها وتطويعها لتشمل مستجدّات البحوث في جميع المجالات العلميّة والحضاريّة المتسارعة. غير أنّ نظرة سريعة على حال هذه اللّغة تُفضي بالمرء إلى الاكتئاب لما آلت إليه حال هذه اللّغة وحال أصحابها. مرارًا وتكرارًا يحاول العرب أن “يُطعموا أنفسهم جوزًا فارغًا” من خلال الاستهتار باللغة العبرية على سبيل المثال، مقارنة باللغة العربيّة. لا شكّ أنّ هذا الاستهتار نابع من الجهل التّام بهذه اللغة العبريّة وما تقدّمه لأهلها في جميع المجالات الحضاريّة علميّة وفكريّة وأدبيّة، إبداعًا أصيلاً بها أو ترجمة إليها من أبداعات الشّعوب الأخرى.
يكفي أن نذكر هنا في هذه العجالة أنّ ما يُكتب ويُترجم ويُنشر ويُباع في سوق هذه اللّغة العبريّة هو أكثر بكثير من كلّ ما يُنشر ويباع في العالم العربي بأسره من المحيط إلى الخليج. ليس هذا فحسب، بل إنّ جميع العلوم الطّبيعيّة والإنسانيّة تجد طريقها إلى هذه اللّغة كتابة وترجمة وفوق كلّ ذلك قراءة، بينما يركن العرب إلى دغدغة عواطفهم ببلاغة تليدة وبليدة في آن معًا مدّعين بكون العربيّة لغة غنيّة لا تضاهيها لغة أخرى. قد تكون العربيّة غنيّة حقًّا في كلّ ما يتعلّق بحياة البداوة والطّبيعة، غير أنّ هذا الغنى هو غنى قاموسي لا يعرفه أهل هذه اللّغة ولا يستعملونه أصلاً. فما فائدة هذا الغنى، إذن، إن كان مُكدّسًا في أكياس مهترئة ملقاة في المزابل لا يلتفت إليها أحد؟ ناهيك عن أنّ هذا الغنى الصّحراوي، على ما فيه من جماليّات بلا شكّ، لا ينفع النّاس واحتياجاتهم العلميّة والثّقافيّة في هذا الأوان.
وإذا حاول العرب تعريب
مصطلحات أجنبيّة، فإنّهم يعرّبونها خطأ، وإذا نقلوها لفظًا إلى لغتهم فإنّهم ينقلونها خطأ أيضًا، فتشيع تلك المفردات المخطوئة في اللّغة العربيّة فيختلط حابل العرب بنابلهم. وهم، “ما شا اللّه”، مكثرون في مؤسّسات تسمّى مجامع اللغة العربيّة الّتي لا ندري ما تعمل وكيف تعمل. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يُعرّب العرب المصطلح “پاسيڤي” (passive) كـ”سلبيّ”، فيكتبون مثلاً: تدخين سلبي، بدل تدخين پاسيڤي، وكأنّ هناك تدخينًا “إيجابيًّا” خلافًا للتّدخين السّلبيّ. ويكتبون “انتهت اللعبة بين فريقي كرة القدم القدم بالتّعادل السّلبي”، إذا انتهت المبارة بالنتيجة صفر:صفر لكلا الفريقين. فلماذا سلبيّ؟ وما علاقة السّلب والإيجاب بهذا السّياق؟ وإذا قاوم متظاهرون محاولات الشّرطة لتفريقهم مقاومة “باسيڤيّة”، يأتي جهلة العرب فيسمّون هذه المقاومة “مقاومة سلبيّة”، علمًا أنّ
كلّ ما في هذه المقاومة ليس سلبيًّا بل إيجابيّ بالتأكيد.
ومن بين أعراض هذه المحنة
أنّ العرب يخلطون الأمور دون وازع أو رادع فيستخدمون مصطلحات يجدونها في الصّحافة دون أن يفهموا المعنى الدّقيق لها، فيطفقون في دسّها في كلّ شاردة وواردة. وعلى سبيل المثال أيضًا، ها قد اكتشف جهلة العرب مفردة جديدة في السّوق، ويكاد المرء يجدها في كلّ صحيفة عربيّة من المحيط إلى الخليج، وأعني هنا مفردة “مقاربة”. لا أدري من أين جاءت وكيف شاعت هذه المفردة في الكتابة العربيّة؟ لقد تعوّدنا عقودًا كثيرة على مصطلحات عربيّة تفي بهذا المعنى المقصود، وهو “تَوَجُّه” أو “نَهْج” أو “منهج” وما شابه ذلك. غير أنّ الفهلويّين من صحافيّي العرب والمترجمين في هذه الصحافة قد قرّروا أخيرًا ترجمة هذا المصطلح (approach) حرفيًّا، ومذّاك شاعت مفردة “مقاربة”، وصار كلّ شيء في حياة العرب وكتاباتاتهم “مقاربة”، وهم لا يفهمون أصلاً ما يعنيه هذا المصطلح. وصرنا نقرأ جملاً مثل: “وهنا يقارب ابن رشد المشكل مقاربة تسائلية لا مقاربة حاسمة…” (عن: محمد أركون، عن موقع ابن رشد). أو نقرأ عنوانًا مثل: “مقاربة الفساد صحفيًا مدخل لمحاصرته قانونيًا” (عن النور، نشرة الحزب الشيوعي السوري). مقاربة الفساد صحفيًّا! ما هذا الهراء؟ أمّا في مجلّة “العربي الحرّ” (لاحظوا التسمية البليدة للمجلّة)، فنقرأ: “الملاحظ أن هذه المداخل تتكامل فيما بينها بالشكل الذي يجعل مقاربة إشكالية التجديد في الفكر التربوي عملية مركبة …”، فماذا يعني هذا الكلام، مقاربة إشكاليّة التّجديد؟ وفي المعهد العربي للثقافة العمالية نقرأ: “يُشكل مفهوم السوق في الاقتصاد السياسي عاملا لابد من استحضاره إن أردنا إنجاز مقاربة للواقع الاقتصادي.”، فأيّ شيء هذا “إنجاز مقاربة”؟
أمّا صحيفة “الزّمان” فتنقل على لسان أحد الجهلة من الكتّاب، آلينا ألاّ نذكر اسمه: “ويلوم (فلان الفلاني) الخطاب النقدي العربي لكونه ظل متردداً في مقاربة حقيقية للفضاء الروائي”. أليس مضحكًا هذا الكلام؟ كُنّا مع مقاربة فأضحينا مع فضاء أيضًا: “مقاربة حقيقيّة للفضاء الروائي”، فازداد الطّين بلّة على بلّة. وانظروا إلى هذا العنوان: “مقاربة مريض بألم مفصلي…”. هل يفهم القارئ هذا الكلام؟ وإن لم يفهم فلعلّه يفهم هذا الكلام: “مقاربة التدريس بالكفايات أو الكفاءات واستخدامها في تعليم اللغة العربية….”. وإذا يئس فلعلّ في هذا الكلام ما يشرح صدره: “منهجية مقاربة القولة:… وفي هذا الإطار، وجب التنبيه إلى بعض الصعوبات، التي يمكن أن نجدها في مقاربة القولة…”. فلا يسع القارئ سوى الرّكون إلى الحوقلة.
وأخيرًا، ومن أجل تلخيص هذه الحال اللّغويّة العربيّة، إليكم هذا المثال: “مقاربة حول محنة الأمة وضرورة مواجهة الذات العربية” (عن صحيفة الرأي السورية). حقًّا إنّها محنة، لقد تحوّلت مفردة “مقاربة” إلى محنة عربيّة، أو وباء عربيّ مردّه إلى الجهل. وهكذا، فقد أضحت اللّغة العربيّة فقيرة جدًّا في هذا العصر على أيدي أصحابها.
ومن بين المسبّبات لفقر العربيّة
في هذا الأوان يمكننا أن نشير إلى تلك النّظرة الأصوليّة في هذا الأوان حول كلّ ما يتعلّق بهذه اللّغة. إذ يعتقد كثيرون خطأ أنّ المعاجم العربيّة القديمة نقيّة من تأثيرات اللّغات المجاورة، غير أنّ النّاظر في هذ التّراث اللّغوي العربي يرى الكثير الكثير من المفردات والمصطلحات الأعجميّة الّتي دخلت على هذه اللّغة بطبيعة الحال. ويكفي، على سبيل المثال، أن نُذكّر القارئ العربيّ إنّه في حياته اليوميّة قد لا يجد مفردة عربيّة واحدة في مأكله ومشربه، في حلّه وترحاله، فلا الـ”بندورة”، ولا الـ”بطاطا” والا الـ”باذنجان” ولا الـ”خيار” الّذي يتناوله العربيّ يوميًّا يعود إلى اللّغة العربيّة. ولا الـ”فستق” ولا الـ”بندق” الّذي يقشره ويتسلّى به، يوميًّا أيضًا، يعود إلى العربيّة، ولا الـ”نموذج” الّذي يعبئه بين فينة وأخرى في معاملاته الإداريّة يعود إلى العربيّة، ولا حتّى الـ”قلم” الّذي يعبّئ به ذلك الـ”نموذج”. وكلّ هذا ناهيك عن مفردات الحياة المعاصرة، فالعربيّ إذ ركب سيّارة فهو لا يعرف أجزاء تلك السيّارة باللّغة العربيّة، وإذا استمع إلى “راديو”، أو شاهد “برنامجًا” “تلفزيونًا”، فهي كلّها مفردات أجنبيّة. وإذا استخدم الحاسوب فهو لا يعرف لغة الحاسوب وبرمجاته باللّغة العربيّة، كما أنّه لا يعرف لغة البحوث والعلوم باللّغة العربيّة. وإذا رغب في شرب “فنجان” قهوه، أو “كوب” شاي، فهو لا يستخدم لغة عربيّة لأنّ الفنجان والكوب والإبريق كلّها ليست عربيّة، وغير ذلك الكثير الكثير.
وأخيرًا، سأصارحكم القول.
أستطيع أن أؤكّد لكم أنّ التّرجمات والكتابات باللّغة العبريّة، أكانت هذه كتابات وترجمات علميّة أو ترجمات أدبيّة شعرًا وقصّة ومقالة، هي أكثر دقّة وأمانة وجمالاً من حال كلّ هذه الأمور في اللّغة العربيّة. وهنالك قواميس ومعاجم عبريّة معاصرة تتجدّد كلّ بضع سنوات، بينما لا يجد الطّالب العربي لا في الثّانويّة ولا في الجامعة ما يروي ظمأه في كلّ ما يتعلّق باللّغة العربيّة المعاصرة. لهذا، أشكّ كثيرًا إذا كان الطّالب العربيّ يفهم ما يقرأ أصلاً في هذه الصّحافة أو يفقه شيئًا من هذه التّعريبات. وإذا كان كلامي الصّريح هذا يثير حفائظكم وحفائط مجامعكم اللّغويّة، فهذا شأنكم وشأنهم في تلك المجامع. أمّا أنا، فما عليّ إلاّ البلاغ.
والعقل وليّ التّوفيق!
* القدس
salman.masalha@gmail.com
محنة لغويّة عربيّة
مقالة جريئة عن ظاهرة مؤلمة فعلاً.
شكراً يا أستاذ سلمان.
محنة لغويّة عربيّة
أين ردي يا حضرات ؟
أنتم نموذج للديموقراطية وحرية التعبير في عصرنا الأغبر .
حذفتم النصالذي كتبته بعد ساعتين ، فأعيدوه ، وإذا كانت هناك كلمة نابية فاجعلوا مكانها نجمات أو إشارة تحفظ ، فالعيب كل العيب أن تتركوا مقالات حاقدة بكل صفاقتها وسخريتها ، وتصفقوا لها دون نشر رد ، وكأنكم تتبنون موقفها .
انشروا الرد في جوهره ، وهو رد على مقال مغرض يحوي أخطاء لغوية معيبة ، ولا يحمل أي اقتراح أو إصلاح وإنما هو رداح في رداح ، وإلا فاسرحوا وامرحوا يا أبطال !
محنة لغويّة عربيّة
طيّب بماذا توصي يا دكتور؟ ما هي اقتراحاتك لتحسين وضع اللغة العربية؟ لقد وضعت اصبعك على المشكلة بينما نحن واضعون أيدينا كلها على المشكلة منذ زمن. فما الذي تقترحه لحل هذه الأزمة من موقعك ومنصبك ومعرفتك؟
محنة اللغة العبية .. محنة الفكر العربي !!مقال رائع وهام جدا للغيورين على لغتهم العربية . في مقال كتبته “هل سيطرت اللغة العبرية على لسان العرب في اسرائيل ” واجهت نقدا حادا واتهامات اني انظر لانتصار اللغة العبرية ، وذنبي اني ذكرت ان العبرية تطورت في ال 100 سنة الاخيرة أكثر من العربية ، وان المترجمين يشكون ان الترجمة من الانكليزية الى العبرية أسهل من الترجة الى العربية … وان العبرية ملأى بالاصطلاحات حين يفتقدونها بالعربية . ووصل بالبعض الى اتهامي باني أنظر لانتصار اللغة العبرية ، وواجهت نقدا حادا لأني أعترفت اني عجزت عن قراءة كتاب الاستشراق لأدوارد سعيد… قراءة المزيد ..