أكتب، اليوم، في الذكرى الثانية لرحيل محمود درويش، للتذكير بأمرين: أولا، أن محمود درويش أكبر وأهم من أن يُستعاد بطريقة موسمية، وثانيا للقول بأن يوم مولده، في الثالث عشر من آذار، الذي أصبح عيدا وطنيا للثقافة الفلسطينية، يمثل المناسبة التي تؤسس لتقليد ينبغي الحفاظ عليه، والاحتفاء به، على مر السنين. فنحن نحتفي بالحياة لا بالموت.
بيد أن الكلام عن الأمرين معا لا يقتصر على دلالة الاحتفاء بالحياة، بل ينطوي في جانب منه على محاولة للقبض على معنى محمود درويش في الثقافة الفلسطينية. وقد أصبح هذا المعنى بعد رحيله مفتوحا على احتمالات كثيرة.
لم يعد قادرا على حماية المعنى بنفسه، كما فعل في حياته، ومن واجبنا نحن، الذين عشنا في زمنه، واقتربنا من عالمه بهذا القدر أو ذاك، ألا نغض الطرف عمّا يُنذر بمصادرة وتأميم المعنى، أو يُهدد بتحويله إلى موضوع للمضاربة.
ولكي لا ندعي البراءة، أو ذهول الفجيعة، فإن المصادرة والتأميم، كما المضاربة، ليست حكرا على الفلسطينيين والعرب، ففي أربعة أركان الأرض، كان الصراع على معنى الرموز السياسية والثقافية الكبيرة جزءا من الصراع على هوية المجتمع والثقافة. لا مبرر للكلام عن الاستثناء الفلسطيني أو غيره.
تتجلى أهم علامات المصادرة والتأميم، وكذلك المضاربة، في عملية تحويل الرموز السياسية والثقافية إلى أيقونات، أي تجريدها من فرديتها وفرادتها، واختزال تاريخها، ومُنجزها السياسي أو الأدبي في مقولات، وتوظيفها بطريقة لا تنسجم، بالضرورة، مع المعنى الحقيقي لأصحابها. في الحقبة السوفياتية، مثلا، تحوّل مايكوفسكي إلى أيقونة، ولم يكن ذلك ممكنا دون تنظيف تاريخه الشخصي، ونصه الأدبي، من التردد والشكوك والهواجس والمخاوف التي راودته بعد انتصار الثورة.
ولو افترضنا، جدلا، بأن التردد والشكوك والهواجس والمخاوف التي راودته، ظلت جزءا من ميراثه الحي، ولم يحجبها موظفو الثقافة السوفياتية، لكان من الممكن التفكير في مصير مغايرة لتلك الثقافة، وربما في مصير التجربة الاشتراكية نفسها. فالتردد والشكوك والهواجس والمخاوف صفات إنسانية لا تصلح كشعارات، لكنها تحمى الثقافة من وطأة اليقين، وسطوة الموظفين، وفي الحالتين يخسر الاستبداد وتكسب الديمقراطية.
لذلك، وبقدر ما يعنينا الأمر، في هذا الجزء من العالم، فإن الصراع على: كيف نفهم محمود درويش ينطوي في جانب منه على حمايته من مصير الأيقونة. فما المقصود بمعنى محمود درويش؟
بداية، المعنى يُستمد من النص والسيرة الشخصية، وبين الاثنين في حالته علاقة لا تنفصم. فالنص وصاحبه عصيّان على التنميط والقالب الجاهز. أسموه مع صعود نجمه “شاعر المقاومة”، فتمرّد على التسمية على الرغم مما في رصيدها من غواية. لم يكف عن كونه مقاوماً، بل ابتكر مفهوما جديدا للمقاومة، وطالما أن “الشعر لا يحتاج إلى براهين وطنية، والوطن لا يحتاج إلى براهين شعرية” يصبح الإبداع فعلا من أفعال المقاومة في أصفى وأرقى معانيها.
والإبداع، أيضا، خروج على النمط والتقليد. النمط والتقليد هما ما ورث الفلسطينيون من فنون القول الشعري العربي باعتبارهم عربا، وما اجترحوا من صور لهويتهم باعتبارهم فلسطينيين. في الحالة الأولى لم يقطع محمود درويش مع الشعر العربي، بل أصبح وسيلة إيضاح ناجحة لكلام إليوت عن حضور السلالة الشعرية في نص الشاعر الكبير، وفي الثانية لم يغترب عن فلسطين بل رفعها وأعاد صياغتها: من مأساة صغيرة في آسيا، إلى تراجيديا كونية في تاريخ العالم.
ومع هذا، وذاك، وبما أن المآسي الصافية تنطوي، دائما، على مفارقات كثيرة، وكوميديا سوداء، لم يكن في فعل المقاومة، ولا في الخروج على النمط والتقليد، ما يحيل إلى يقين خالص، أو إلى اقتصاد في السخرية. فالعشب على قبور المنتصرين والمهزومين محايد، والفصول تدور. وهذا ما أغفله أدونيس، مؤخرا، بطريقة مُحزنة لأنها شخصية تماما.
لم تمر التحوّلات التي أحدثها محمود درويش دون ضجيج ما تزال أصداؤه تتردد من حين إلى آخر. ففي ثقافة تُقدّس الضحية، لا يحتمل معنى المقاومة أكثر من بطولة امتشاق السلاح في الواقع أو اللغة، وما من معنى للضحية خارج ما تنزف من دم، وتحض عليه، وتُحيل إليه. وفي كل الأحوال يُراد للشاعر أن يكون حاديا لعيس القبيلة. وما من مكان في ثقافة كهذه لاقتصاد السخرية، أو لمجازات طروادية تقض سكينة “الثوابت”.
لهذه التحوّلات دلالات سياسية، أيضا. وفيها يتجلى معنى أن الثقافي سياسي بامتياز. ويمكن في الواقع ترجمتها إلى لغة السياسة دون عناء. فالاعتراف بحق الإبداع في التمرّد على التنميط، والقبول بفكرة الخروج على النمط والتقليد، وتحرير العلاقة بالتاريخ من تجهّم اليقين، أشياء لا تعترف بها المجتمعات ولا الثقافات المُغلقة، التي تنام على ريش الأيديولوجيا، وتطير على جناح “الثوابت” والغمام.
لذلك، عندما يقول البعض: نحن نحتاج إلى محمود درويش، وهو لا يحتاجنا، فهذا القول صحيح وخاطئ في آن. صحيح إذا كان محمود درويش مثالا لثقافة تطرح من الأسئلة أكثر مما تقدّم من إجابات، وخاطئ إذا كان مجرّد رصيد نسحب منه ولا نُضيف إليه. والصحيح القول: إن محمود درويش يحتاجنا بقدر حاجتنا إليه. لن يكتب أحد قصيدته نيابة عنه، لكن البلاد التي عاش من أجلها، وحلم بما ينبغي أن تكون، والقيم الإنسانية الرفيعة التي عبّر عنها، وحرقة الإبداع، وإرادة التجاوز، وثقافة الأسئلة، التي حكمت نصه ووسمت حياته، كلها أشياء لا تغيب بغياب صاحبها، والصحيح أن حضوره من وفي حضورها. فإذا حضرت حضر، وإذا غابت أصبح أيقونة.
واليوم، بعد عامين من الرحيل، ربما يسأل محمود درويش: كم كتابا نشرتم، وكم ندوة عقدتم، وكم مسرحية مثلتم، وكم فيلما أخرجتم، وكم أغنية غنيتم، وكم شجرة زرعتم، وكم مرة أحببتم، وكم فكرة أرقتكم، وكم سؤالا طرحتم، وكم مرّة سخرتم من أنفسكم؟
هذه هي أسئلة محمود درويش، الذي يحتاجنا، لأن بلاده لم تغب بغيابه، وبلادنا تحتاجنا.
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
جريدة الأيام
Khaderhas1@hotmail.com