في نيسان من العام 2000 منحت الدولة التونسية، الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش “الصنف الأول من الوسام الوطني للاستحقاق الثقافي” تقديرا لما قدمه من إضافات متميزة للشعر العربي. وقد قلد الجنرال بن علي شخصياً هذا الوسام إلى الشاعر الفلسطيني بحضور العديد من وسائل الإعلام التي نقلت بدورها إلى أرجاء العالم تلك الصورة الشهيرة والغريبة لمحمود درويش يقف منتصباً في مقابل الديكتاتور التونسي، في حين يقوم الأخير بتعليق وسام الاستحقاق بفرح ظاهر على صدر واحد من أكبر الشعراء العرب المعاصرين.
يومها قيل وكتب الكثير في مغزى هذا الحدث، من حول من تكرّم ومن أهين؟ في هذا التبادل الرمزي الذي جمع قمة الهرم السلطوي التونسي مع واحد من أبرز ممثلي الأدب الفلسطيني والشعر العربي. ومن بين الحجج التي سيقت وقتها في تبرير قبول درويش استلام مثل هذه الجائزة، القول بأن الدولة التونسية، بمؤسساتها وتاريخها، هي التي كرمت محمود درويش وكرمت من خلاله الأدب الفلسطيني والقضية الفلسطينية، وأن تاريخية العلاقات التونسية – الفلسطينية لا تسمح للشاعر برفض هذا التكريم. وقيل أيضاً ان محمود درويش لم يكن يعرف حين قدومه إلى تونس لتسلم الجائزة، أن الرئيس بن علي شخصياً هو من سيقلده هذا الوسام على مرأى ومسمع من وسائل الإعلام وعدسات الكاميرات. كما قيل وكتب الكثير عن الالتزامات والضرورات البروتوكولية المفروضة على محمود درويش دون غيره من المبدعين العرب نتيجة البعد المزدوج الذي يجسده درويش كواحد من أكبر شعراء العربية من جهة وكأحد أهم ممثلي القضية الفلسطينية والثقافة الفلسطينية في العالم من جهة أخرى.
الأكيد أن هذا الدور المزدوج لم يرق يوماً لمحمود درويش وظل يرفض على الدوام أن يتم سجنه، هو وشعره، في هذه الهوية الضيقة التي اسمها “شاعر القضية الفلسطينية”. وحتى عندما قبل أن يتبوأ في فترة محددة منصباً رسمياً كعضو في اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية فإنه لم يلبث أن استقال منه غداة توقيع اتفاقات أوسلو، مفضلاً أن يبقى بشخصه وشعره ورمزيته بعيداً من التباسات اتفاقات أوسلو وتعقيداتها.
لكن التباسات علاقة الشاعر بالسلطان، عادت من جديد لتلقي بظلالها على سيرورة محمود درويش ولتنتقص من علو المكانة الرمزية التي تبوأها عن جدارة بشعره وإبداعه وفلسطينيته، ولتسيء إلى هامش الاستقلالية، الضيق والهش ولكن الحقيقي، الذي نجحت الثقافة العربية في تكريسه خلال العقود الماضية في مواجهة السلطات السياسية المستبدة.
الأنباء الآتية من تونس تفيد بأن الرئيس زين العابدين بن علي قرر أن يمنح شخصياً الشاعر الفلسطيني الكبير “جائزة 7 نوفمبر للإبداع” لمناسبة احتفال تونس بالذكرى العشرين لتولي الرئيس بن علي السلطة خلفا للرئيس الراحل الحبيب بورقيبة. ففي خطاب ألقاه في هذه المناسبة وخصص جزأه الأكبر لمديح الذات وعرض المنجزات، افتتح الرئيس التونسي كلمته بالعبارات الآتية:
“يسعدني بهذه المناسبة المجيدة أن أمنح “جائزة 7 نوفمبر للإبداع” للشاعر العربي الفلسطيني الكبير محمود درويش الذي نقدر إبداعه ونضاله ووفاءه لقضية شعبه ولمبادئ العدل والحرية في العالم، فقد كانت كلماته دوما تعبيرا خالص الصدق عن إرادة الشعب الفلسطيني الشقيق وكفاحه. وإذ أهنئه بهذا التكريم، فإني أحيي من خلاله كل المبدعين الفلسطينيين مقدرا لهم صمودهم ومكبرا عطاءهم الذي لم ينضب رغم صعوبة أوضاعهم”.
والحقيقة أن هذه الجائزة لا علاقة لها بالإبداع بشيء وإنما هي تحتفي بوصول الجنرال التونسي إلى السلطة بفضل انقلاب ابيض نفذه بحكم سيطرته على الجيش وقوى الأمن ووجد مخرجاً شرعياً له تقرير طبي محرّر من قبل سبعة أطباء مباشرين للرئيس بورقيبة يقرّ عجزه التام عن الاضطلاع بمهماته. وخلال السنوات العشرين الماضية وتحت مسمى دولة القانون تم تدعيم الدولة البوليسية وامتلأت السجون بالمعارضين السياسيين من كل الاتجاهات وتم تعديل الدستور بشكل يسمح لزين العابدين بن علي بتجديد ولايته إلى ما شاء بحيث تم انتخابه أربع مرات حتى الآن ودائماً بنسب تزيد عن التسعين في المئة.
الأنباء الآتية من تونس تفيد أن الشاعر الفلسطيني وافق على استلام هذه الجائزة من الرئيس التونسي شخصياً، وهو الآن في طريقه إلى تونس للمشاركة بفاعليات مهرجان أيام قرطاج المسرحية التي تنعقد لمدة أسبوع انطلاقا من 30 تشرين الثاني، والتي ستحتفي به وبمسرح “الصمود” في إشارة إلى المسرح العراقي والمسرحين الفلسطيني واللبناني.
في نيسان 2000، قيل إن محمود درويش تفاجأ بوجود وسائل الإعلام لحظة تقليده الوسام من زين العابدين بن علي، وأنه تم إحراجه ليدلي ببعض كلمات المديح فارتبك وصرح بالآتي: “لقد فاجأني السيد الرئيس بهذه الهدية الثمينة وأربك لغتي ولكن لم يربك عاطفتي تجاهه وتجاه تونس وتجاه الشعب التونسي بكل فئاته لأشعر بسعادة وامتنان كبيرين في حمل هذا الوسام الذي يعبر بالنسبة لي عن العلاقة النوعيّة بين الشعب التونسي والشعب الفلسطيني الذي يعتبر تونس إحدى مرجعياته العاطفيّة. أشعر بامتلاء بالإحساس بالمسؤوليّة والامتنان للسيد الرئيس والشعب التونسي بكل فئاته من أساتذة وطلبة وشغالين الذين ملأوني في هذه الزيارة كما ملأوني في غيرها بكل مشاعر المحبّة والمودة مما يعمق انتمائي العاطفي والمعنوي إلى بلدي الثاني تونس” (نص التصريح موجود على الموقع الرسمي للرئاسة التونسية!).
تراه ماذا سيقول الشاعر الفلسطيني الأكبر هذه المرة وهو يتسلم جائزة تحتفي بوصول الجنرال بن علي إلى السلطة بانقلابه الأبيض؟ ماذا سيقول للمعتقلين السياسيين التونسيين والمعتقلين السياسيين العرب؟ ماذا سيقول للمعتقلين السياسيين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية؟ هل سيقول لهم أنشودته الجميلة:
“يا دامي العينين، والكفين!
إن الليل زائلْ
لا غرفةُ التوقيف باقيةٌ
ولا زَرَدُ السلاسلْ!
نيرون مات، ولم تمت روما…
بعينيها تقاتلْ!
وحبوبُ سنبلةٍ تموت
ستملأُ الوادي سنابلْ… !”
أم أن التطور النوعي الذي طرأ على شكل وبناء ولغة قصيدته بعيداً من المباشرة والغنائية، أبعدها بدوره عن قيم العدالة والاستقلالية والتحدي التي طالما ميزت المثقف النقدي في وجه الاستبداد
.
إن شرف الثقافة العربية واستقلاليتها اليوم على المحك، وهي إن كانت ستتلطخ هذه المرة أيضاً بأوحال الديكتاتورية، فإنها قادرة مع ذلك على غسل عارها بأفعال من مثل تلك التي أقدم عليها صنع الله إبرهيم.
فإن لم يكن من أجل هذه الثقافة المنكوبة بالاستبداد، فمن أجلك أنت محمود درويش، لا تستلمها. أعرف أنك ستستلمها، لكن من أجل قهوة حورية وعيني ريتا والقيود في معصمي مروان ووفاء للصداقة في قلوب فاروق وصبحي والياس وفيصل… لا تستلمها…
aliatassi@yahoo.fr
* كاتب سوري