رصدت دوائر استخباراتية أميركية حركة استطلاع أمنية غير طبيعية لتحرّكات الرئيس سعد الحريري وتحرّكات رئيس فرع المعلومات وسام الحسن، في الحقبة التي تلت إسقاط الحكومة ووصول موجة الاحتجاجات الشعبية إلى سوريا· وبعد تحليل المعلومات، خرجت الدوائر الأمنية الأميركية بأن هناك شيئاً ما يجري تحضيره، فكان أن تم إبلاغ المراجع المعنية اللبنانية بتقرير أمني حول هذه المسألة بغية اتخاذ إجراءات الحماية اللازمة·
وفيما أخذت المتابعة الأمنية مساراتها المتشعبة، سواء داخلياً أو خارجياً مع الدوائر الاستخباراتية العربية والأوروبية والفرنسية تحديداً، كان البحث ضمن حلقة القرار لدى الحريري ومراكز القرار الخارجية الحليفة، يتناول ماهية المخاطر المحدقة بالرجل الذي لا يزال لبنان يعيش تداعيات اغتيال والده رفيق الحريري في شباط 2005، ومرامي هذا الاستهداف الأمني من حيث التوقيت السياسي المحلي والإقليمي·
وجاءت المحصلة نصائح بضرورة عدم تواجد الحريري في لبنان راهناً إلى حين تبلور تطورات الوضع في المنطقة ولا سيما تلك المرتبطة بسوريا· ومع توجّه وفد من قيادات الرابع عشر من آذار منذ أيام إلى باريس للقاء الحريري، لمس هؤلاء حجم إجراءات الحماية الفرنسية لزعيم المعارضة، والمواكبة المشدّدة التي ترافقه في تنقلاته، والمراقبة المستمرة لمكان تواجده ولكل ما يُحيط به· وفي رأي مراقبين أن هذه الإجراءات الفرنسية لها بعد سياسي لا جدال فيه، ولها أيضاً لها بعد أخلاقي بتوفير ضمانات أمنية للحريري الابن والتي فشلت فرنسا في توفيرها للحريري الأب رغم ضمانة الرئيس الفرنسي جاك شيراك الشخصية والرسمية له آنذاك، فضلاً عن أن باريس باتت تعتبر اليوم أن أمن الحريري جزء من أمن فرنسا لوجوده على أراضيها·
وفي القراءة السياسية أن نظام الرئيس السوري بشار الأسد، يوم أسقط الحكومة الحريرية كان يريد القبض الكلي على الورقة اللبنانية في معرض التفاوض الأكبر على موقعه ودوره في المنطقة· وحين فاجأته الثورات العربية ودقّت بابه الاحتجاجات الشعبية الداخلية، لم يتوان عن اتهام سعد الحريري وتيّاره السياسي بالتدخّل بالشأن السوري وتسليح المتظاهرين، علّ صدى الرسائل يصل إلى رعاة محور الاعتدال العربي ولا سيما المملكة العربية السعودية وحلفائها الغربيين، ولكن المحاولة لم تُفلح، لا بل أخذت الضغوطات الغربية تزداد عليه كلما ازدادت حدّة القمع الأمني· وقد دفع تهشّم صورة النظام ورئيسه وتأزم وضعه إلى البحث عن خيارات تحمي نظامه من الانهيار، وتحدّ من إمكانات تطويقه وتحرف الأنظار عمّا يجري داخل سوريا· ومن هذه الخيارات تأجيج الساحة الداخلية وخلق فوضى فيها· وفي تقدير مراجع أمنية بارزة أن النظام السوري غير قادر على تفجير الساحة الداخلية أمنياً بشكل كبير وشامل، بل على خلق إرباكات أمنية محدودة في بعض المناطق الحسّاسة، على غرار جبل محسن والتبّانة تستنزف الوضع الأمني· وتخشى القراءة السياسية لقيادات مؤثرة في 14 آذار من أن الذهاب إلى عمل أمني كبير كاستهداف الزعيم السني سعد الحريري من شأنه أن يفجّر صراعاً مذهبياً قد يكون هو المطلوب راهناً لخلط الأوراق الإقليمية من جديد· كما أن هذا الاستهداف له تأثيراته وأهدافه المتشعبة وسط المواجهة المفتوحة بين المجتمع الدولي اليوم والنظام السوري، سواء من بوابة الاحتجاجات الشعبية في الداخل السوري أو من بوابة القرار الاتهامي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، أو في لحظات التحوّلات الكبرى وسقوط الأنظمة· ومن شأن هكذا استهداف أن يضرب على المستوى الداخلي تلك الشراكة المسيحية – الإسلامية التي ترسّخت بدماء شهداء انتفاضة الاستقلال كقناعة وطنية قبل أن تكون مصلحة مشتركة·
وإزاء حجم التحدّي الأمني أمام الحريري وجدّيته، انتهت النقاشات الباريسية حول آليات المواجهة إلى مسلمة أن لا عودة للحريري في المرحلة الراهنة إلى بيروت· وفُهم أن نقاشاً موسّعاً دار حول مفاعيل العودة وعدمها على مسار المواجهة المطلوبة في المرحلة الراهنة انتهى إلى تجاوز مطلب العودة من قبل قيادات 14 آذارية، لا سيما رئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية سمير جعجع، إذ كانت ترى أنّ خوض المواجهة مع حزب الله وسوريا تتطلب ضرورة وجود الحريري في لبنان بما يشكّله من رمزية سياسية وتأثير بارز على جمهوره·
وكشفت أوساط مطلعة أن منسق الأمانة العامة لقوى الرابع عشر من آذار حمل رسالة خطية من جعجع إلى الحريري قابلها الأخير برسالة جوابية شكّلت تجديداً للعهد الذي كان قطعه الرجلان وقيادات 14 آذار في التكاتف والتضامن في المعركة السيادية التي خطّتها <ثورة الأرز>، وحملت تأكيداً على استكمال المعركة بالعزم والإصرار يداً بيد وكتفاً على كتف، وتكريساً لتفاهم استراتيجي لسبل المواجهة·
وخرجت النقاشات الباريسية إلى رسم معالم المواجهة وعناوينها وآلياتها· فعنوان المواجهة الرئيسي لم يتغيّر، ويتمثل بشعار إسقاط سلاح حزب الله، بما يشكله من غطاء للمنظومة الإيرانية – السورية في لبنان· وليست حكومة الرئيس نجيب ميقاتي سوى أداة لهذا المشروع وإسقاطها هو عملياً إسقاط هذه الأداة· أما آليات المواجهة، فستكون من خلال تشكيل قيادة مركزية سبق أن تطرّق مؤتمر البريستول الأخير الإشارة إليها من ضمن الهيكلية التنظيمية لقــــوى الــرابع عشر من آذار التي تشمل أيضاً كتلة نيابية والمجلس الوطني والأمانة العامة· وستعمل القيادة المركزية بوصفها قيادة جماعية على تقييم الأوضاع وتأخذ المواقف وترسم خطط المواجهة وتوزّع الأدوار بين قياداتها·
فالحريري سيكون في صلب المواجهة من باريس، ولن يكون لغيابه القسري أي تأثير على الخيارات السياسية له ولتياره السياسي وليس من باب التلكؤ إنما من باب حسابات وظروف تُملي عليه الابتعاد عن الصورة نظراً لما له من تأثير ورمزية تتعدّى الواقع اللبناني إلى ما هو أبعد· غير أنه ستكون للحريري إطلالات إعلامية في التوقيت المناسب للتواصل مع جمهوره الآذاري الذي يتفهّم أسباب وظروف غياب زعيمه·