ثلاث صور!
الأولى
“مجنونة؟”
قالوا إنها مجنونة.
قالوا إنها فقدت عقلها، وإنها مجنونة.
قالوا ذلك، وهم يكادوا يبتسمون.
قالوا ذلك، وهم يسخرون.
المسكينة.
جُنت.
فقدت عقلها.
لِمَ؟
تنكرت بزي إمام.
تنكرت في هيئة رجل.
ودخلت المسجد،
دخلت وحدها بين الرجال.
وشقت طريقها بين الرجال.
حتى وصلت إلى المنبر.
أرادت أن تلقي عليهم خطبة.
أرادت أن تصلي بين الرجال، أرادت أن تلقي خطبة على الرجال، أرادت أن تؤم الرجال.
ولاحظها إمام المسجد.
لاحظها وهي تعتمر كوفية، وتلبس عباءة مذهبة، وتتجه بسرعة نحو المنبر.
فأوقفها.
أراد أن يسألها وهو يظنها رجلاً، فسقطت اللحية المستعارة عن وجهها.
فأدرك أنها امرأة.
بُهت وهو يدرك أنها امرأة.
امرأةٌ تقف بين الرجال!
داخل المسجد.
تريد أن تصلي بين الرجال، تريد أن تلقي خطبة على الرجال، تريد أن تؤم الرجال.
فصاح: “امرأة!”
فعمت الفوضى في المسجد.
صاح: “امرأة!”
فهاج الرجال.
وجاءت الشرطة، لتلقي القبض على المرأة.
امرأة بين الرجال، امرأة في مسجد وسط الرجال، تريد أن تصلي مع الرجال، تريد أن تلقي خطبة على الرجال، تريد أن تؤم الرجال.
فألقوا القبض عليها من بين الرجال.
ثم قالوا إنها مجنونة.
مسكينة.
فقدت عقلها.
أرادت أن تصلي مع الرجال!
******
الثانية
“الطفلة والعجوز”
أستقلينا سيارة أجرة وسط زحام القاهرة.
أنا وزوجي.
عربية وأوروبي.
ولم يعجب منظرنا السائق.
بدا ممتعضاً من منظرنا.
بدا ناقماً،
مستنكفاً،
ساخطاً.
وسمعت لعناته الصارخة في وجهه الصامت تحط علينا، فتجاهلتها.
قلت له “مدينة نصر لو سمحت، عند نادي الفروسية”.
غمغم بكلمات مبتورة.
وصمتنا.
رفع السائق يده، وبحث عن شريط كاسيت.
وضعه في جهاز تسجيل السيارة، وهو ينظر إلي بعينيه من مرآته.
وأرتفع الصراخ.
حمدت الله أن زوجي لا يفهم العربية.
شيخ.
يصرخ بحنجرة صاخبة.
يصرخ لاعناً،
يلعن الدنيا ومن يعيشون فيها.
يلعن الكفر السائد فيها.
يلعن الرجال ممن لا يتبعون السلف الصالح،
ويلعن النساء المتبرجات الخليعات.
ويدعو مريديه إلى الإيمان،
الإيمان كما يؤمن،
والتدين كما يَدين.
يدعوهم إلى الخلاص،
يدعوهم إلى الحياة،
موتاً.
والسائق يهز رأسه،
ويلحظني في المرآة ممتعضاً، ناقماً، مستنكفاً، ساخطاً.
إلى أن جاءت لحظة.
لحظة.
كان يقود فيها السيارة، يلحظني، ويسعى للتخلص من الزحام.
وطفلة تقود عجوزا بيدها.
طفلة تريد أن تعبر الشارع مع الرجل العجوز.
خائفان.
خائفان من سيل السيارات المسرعة،
المتعجلة،
المتوترة،
التي لا تتوقف.
يريدان أن يعبرا الشارع في عاصمة كبيرة تختنق بالسيارات.
رمقهما سائق التاكسي،
فانتبه لهما.
لاحظا تمهله بسبب سيارة تزاحمه.
فقررا المغامرة.
شدت الطفلة العجوز، وبدأت في التحرك معه بسرعة ملهوفة.
ورأيت السائق يغضب.
يغضب!
ثم رأيته يلعن ً.
يلعن!
جاعراً!
يلعنهما صائحاً “فيه إيه؟ مش قادرين تستنوا؟”
ثم ضرب بقدمه بقوة على البنزين، ودخل فيهما بالسيارة، وهو يرفع يده في وجههما.
فتراجعا مذعورين.
عادا إلى مكانهما الضيق الآمن على حافة الطريق من جديد.
لاهثين.
والتفتَ إلي زوجي مذهولاً،
نظراته مصدومة.
وأنا جامدة في مكاني.
لم أنبس.
عدت أتأمل السائق،
الجالس أمامي،
وهو يستجمع أنفاسه،
يقلب الشريط،
يستمع إليه،
وهو يهز رأسه،
مؤيداً،
ويتحول برمقاته من جديد إلى المرآة،
إلي،
ممتعضاً،
ناقماً،
مستنكفاً،
ساخطاً.
******
الثالثة
“حلاق”
بدأ يومه فزعاًُ.
بدأ عمله في محل الحلاقة الذي ورثه عن أبيه في جنوب بغداد مُتهيباً.
فتح باب المحل ونفسه متوجسة.
ورأي يديه ترتعشان بلا إرادة.
تعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
ودخل المحل.
بدأ يجهز أدواته وعقله مشغول.
أفكاره محمومة.
تدور في دوامة جهنمية، وقوُدها ذكرى الرصاصة ومعها الرسالة.
قصيرة كانت.
كأنها كُتبت بلغة الإشارة.
“هذه رسالة لكل من يتعظ. حلاقة الذقون والحفافة حرام وإثم كبيرين. وقد أعذر من أنذر”.
وجدها ملصوقة على باب محله قبل يومين.
ومن يومها لم تغمض له عين.
ظل ساهداً.
يفكر محموماً،
ولا يجد حلاً.
لقمة العيش صعبة.
لعنة الله على لقمة العيش هذه الأيام.
شاقة.
مرهقة.
كأنه يحفر بأظافره في شقٍ ترابُه معجون بماء نار.
أصابعه تتحلل، ودمه يذوب ثم يذوي، لكنه يواصل رغماً عنه.
وهل لديه خيار أخر؟
لعنة الله على لقمة العيش هذه الأيام.
لم نعرف أياماً كهذه من قبل.
حتى في ظل حكم الطاغوت لم نصادف أياماً كهذه.
ألا يكفي خوفنا على بناتنا وأولادنا من الخطف؟ ألا يكفي انعدام الأمن والآمان؟ ألا يكفي انقطاع الكهرباء والماء؟ ألا يكفي انقطاع الزبائن عن حلق شعورهم؟
ألا يكفي الموت يفازعنا في كل حين وصوب مرتجلاً عابثاً في كل مرة؟
لم يبق إلا هؤلاء المجانين.
هؤلاء الكفره.
لم يبق إلا هؤلاء.
المُكّفرون.
يهددوني بالقتل كي لا أحلق الذقون!
أي زمان هذا يا رب؟
لكنهم جادون فعلاً.
قتلوا 12 حلاقاً خلال عام واحد.
جادون فعلاً.
كتب على لافتة كبيرة أنه لا يحلق ذقون الزبائن و لا يقدم خدمة الحفافة. وعلقها على ناصية الشارع.
ووضع يده على قلبه، ثم فتح محله من جديد.
يريد لقمة العيش.
يبحث عن لقمة العيش.
ويخاف وهو يَّجدُ سعياً وراء لقمة العيش.
وجاء زبون.
طلب أن يحلق ذقنه.
تردد.
ثم استجاب.
ثم جاء زبون ثاني.
ثم أنقطع العمل بعد خروج الثاني.
جلس ينتظر.
يستمع إلى الراديو وذهنه شارد، وينتظر.
ينتظر.
ينتظر.
أزف منتصف النهار.
بدأ يتحرك متباطئاً.
جمع أدواته.
وضعها جانباً.
ثم خرج.
ألتفت يريد أن يغلق باب المحل، وسمع صوتاً.
جفل، وهو يحرك رأسه ناحية الصوت.
ورآه.
رجل ملثم بيده مسدس.
لم يفهم ما رآه.
رجل ملثم يرفع مسدسه في وجهه.
لم يفهم ما رآه.
رحل ملثم، بيده مسدس، ويصرخ في وجهه.