في يوم 11 فبراير 2011 تنازل الرئيس السابق محمد حسنى مبارك عن منصبه كرئيس للجمهورية، وعهد إلى المجلس الأعلى العسكري بسلطة حكم مصر، بدلاً منه. وهذا القرار معدوم الأثر القانوني والفعلي، لأنه صدر عمن تنازل عن سلطة رئيس الجمهورية، فلم يعد له أن يتخذ بها أي قرار بعد ذلك، فإن فعل – وقد فعل – فيكون قراره معدوماً.
غير أن الشعب الثائر كان وما زال يحب الجيش ويحترمه، لأنه جيش الشعب، وقد وقف مع الثورة على الرئيس السابق ونظام حكمه ولم يطلق رصاصة واحدة ضد الجماهير الثائرة، مما اعتُبِر – فيما بعد – مشاركة منه في الثورة ومع الثوار، وكانت شرعيته للحكم تتساند في الواقع وتتراكن في الحقيقة على هذا الوضع. وبذا ارتضى الشعب المجلسَ الأعلى للقوات المسلحة حاكماً مؤقتاً له. وقبل المجلس هذه المهمة بشرط أن تكون مؤقتة حتى يتم تسليم السلطة إلى نظام الحكم المدني. وهدأت بذلك ثورة الشعب حين أيقن أن أياد أمينة ومخلصة سوف تحقق له أهداف ثورته التي عبر عنها في هتافاته، من شمال البلاد إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها وهى تتحدد في أن الثورة “سلمية سلمية، مدنية مدنية، عدالة إجتماعية”. ولا يجوز أن يقول قائل إن الثورة كانت بلا برامج أو أنها لم تتسلم السلطة فوراً؛ ذلك بأن الثورة عبّرت عن أسس برنامجها بأنه سلمي ومدني وعدالة إجتماعية، وهذا ديدن كل الثورات، أما التطبيق فيكون من خلال السلطة التي ارتضتها واعتبرتها شريكاً لها، ومن كتابات الكتّاب ووضع الوزراء والحكماء والمختصين.
كان الرئيس السابق، لكي يمتص غضب الجماهير قبل أن تخلعه ثورتها، قد شكل لجنة سياسة يرأسها رئيس محكمة النقض لتعدّل ثمانية مواد في الدستور، هي التي كانت تتضمن سلطات رئيس الجمهورية وإعداد المسرح لتوريث الحكم إلى نجله. وكان الأثر الفوري لنجاح الثورة وتنازل رئيس الجمهورية عن الحكم، أن يسقط دستور 1971، وأن يُعلن المجلس العسكري على الفور إعلاناً دستورياً، يكون أساساً مؤقتاً لحكم مؤقت، حتى تستقر الأمور، وتتولى الحكم سلطة مدنية تدعو وتعمل على وضع الدستور الجديد، الذي لا بد أن يكون نتيجة التوافق بين قوى الشعب المختلفة. فإن لم يحدث توافق عام لقوى الشعب المختلفة، يكون ثمة عيب ينبغي حلّه حتى يحدث التوافق، ولا يقع انقلاب أو تقوم الثورة من جديد، أو تنتهي حال مصر إلى فوضى ضاربة لا يعلم مداها إلا الله والعالمون.
غيّر المجلس العسكري أعضاء اللجنة المنوه عنها، لتعديل مواد دستور سقط وانتهى بنجاح الثورة. وغلب على التشكيل الجديد لأعضاء اللجنة إتجاه الإسلام السياسي، فانزعج الشعب من ذلك لكنه تريّث، ينتظر ما ستخرج به اللجنة من تعديلات لدستور ألغاه الواقع الثوري وعلّقه الحاكم الفعلي، أي المجلس العسكري. وفى هذا المناخ لم يكن للتعديل معنى بل كان كأنه تعهد لتقديم السلطة إلى الإسلام السياسي.
وأقيم في يوم 9 مارس 2011 إستفتاء على هذا التعديل، وهو غير ذي معنى ولا مفهوم. وأُعلنت النتيجة في اليوم التالي بموافقة الأغلبية على هذا التعديل.
وهذا التعديل من الناحية القانونية ومن الجانب الواقعي باطل وكأنه لم يكن، ويا ليته ما كان، لأنه أدى إلى استقطاب شديد للشعب بين جمعين أحداهما إسلامي والثاني يتكون من المسلمين والمسيحيين. وكان ذلك للأسباب التالية:
ا.. كان تعديلاً لمواد دستور أُلغي ولم يعد له وجود، وكان إذ ذاك مُعلّقاً من جانب المجلس العسكري، ثم أُلغى بعد ذلك تقريراً للواقع الثوري الذي كان قد ألغاه بالفعل.
2.. لم يتحدد سبب الإستفتاء بوضوح، وعملت جماعات الإسلام السياسي على استغلال هذا الغموض، فأشاعت في المساجد ودور العبادة وخلال الناخبين أنه (الإستفتاء) على تطبيق الشريعة، ومن يصوّت بلفظ “نعم” الذي وضع في دائرة خضراء سوف يدخل الجنّة. ولا تصح المغالطة في شأن عظيم كهذا، وإلا لم يكن ثمت ضمان للعمل السياسي والإجتماعي.
3.. لم يُشرف على الإستفتاء قضاة في كل دائرة، كما أن أخطاءً شابته، مثل سرعة زوال الحبر الذي يُغمس فيه أصبع الناخب، ولم يتم الفرز بالطريقة الصحيحة التي تجمع الصناديق في لجنة مركزية بدائرة كل محافظة.
4.. أنه لم يحدث في وقت واحد، بل إن بعض القضاة من رؤساء اللجان في أقصى الصعيد نُقلوا بطائرة بعد الساعة الخامسة مساء، وبدأوا في إجراءات الإستفتاء بعد ذلك، ولم يُعرف متى انتهى الإستفتاء في هذه الأماكن، وكيف تم الفرز، وكيف حدث قبل إعلان النتيجة عصر اليوم التالي.
5.. أجرى بعد الإستفتاء تعديل لفظي، وهو ما يُبطل نتيجة الإستفتاء.
كأنما كان الإسلام السياسي – بكل فرقه – في انتظار نتيجة الموافقة على هذا الإستفتاء، ليبدأ في طريق الإستعلاء والتحكم وإبداء نواياه الحقيقية التي أخفاها زمناً، وكان يعلمها العارفون.
6.. ففي يوم 10 مارس 2011 عصراً جلس أحد الوعاظ منتشياً، فقال وهو يتمايل ويتغنى – “انتهت غزوة الصناديق، وقال أغلب الشعب نعم – وهكذا ظهرت الحقيقة، ومن لا يعجبه الأمر فأمامه كندا وأمريكا، ليرحل إليهما”.
7.. وتردد قول مماثل عن إمام صلاة في مسجد بالعباسية، وإن كان قد أنكره بعد ذلك.
8.. وتكرر المفهوم المخيف والذي ألقى الرعب في نفوس الناس، مسلمين ومسحيين، فقال شخص محسوب على التيار الإسلامي: هذا هو شعبنا والذي لا يعجبه الشعب فليبحث عن شعب آخر. تكرر إذاعة هذا القول في قناة “الجزيرة” مباشر مصر.
هذه الأقوال التي تواترت، وبمعنى واحد، هي ترويع للمصريين من غير الإسلاميين، وهم المسلمون وأي جماعة أخرى؛ بطردهم من مصر لتخلو لهم ولأعوانهم؛ فيحولونها إلى إمارة تكون كيانا في الخلافة الإسلامية التي يسعون لإنشائها.
ولم تتخذ السلطات أي إجراء إداري أو جنائي قِبل هذا الترويع والتهديد المتواتر والواضح والصريح، والذي خرج من جماعات الإسلام السياسي باعتبار أنهم خلفاء الله على الأرض لتطبيق الإسلام والشريعة.
لكنهم لم يحددوا أيَّ إسلامٍ يريدون: هل هو إسلام السنّة أم إسلام الشيعة؟ هل هو الإسلام المصري السمح الوديع أم إسلام ابن تيمية والوهابية المتشدد العنيف؟ هل هو إسلام البداوة كما كان في القرن الأول للهجرة، أم إسلام الحضارة الذي اكتمل واستقر في القرنين الرابع والخامس الهجري، وأقام حضارة تفتخر بها الإنسانية جميعاً حتى اليوم؟
وإذا كان الأمر الذي دعا إلى ترويع وإفزاع المصريين جميعاً – من غير الإسلاميين – وتواتر بصورة تكشف عن خبيئة الإسلاميين والإسلام السياسي ويظهر ما يضمرونه؛ إذا كان الأمر يتصل بتطبيق الشريعة، فلماذا لا يكون الكلام واضحاً صريحاً، مُفصلاً مدروساً؟ فهل يُزمعون أو يقدرون على إعادة الرق (الإستعباد) وهو مقرر في القرآن ولم يُنسخ منه؟ وماذا في شأن التسرّي بالجواري وزواج المتعة الذي هو حلال عند الشيعة؟ وما هو الرأي في جرائم الإعتداء على النفس كالقتل والضرب وإحداث عاهة مستديمة، وهى تُعد في القرآن والفقه حقوق الناس وليست حقوق الله؟ بمعنى أنه يجوز التصالح فيها بدفع الدية أو إكراه صاحب الحق في القصاص للتنازل عنه، ويؤدى ذلك إلى إسقاط الجريمة ولا تكون هناك دعوى جنائية يحكمها المجتمع من خلال النيابة العامة فلا يجوز التنازل عنها ولا يمكن دفعها بالدية؟
أما الشريعة الإسلامية وهى الأحكام التي نزلت من عند الله فقد اختلطت بالفقه وهو عمل صدر عن الناس. وقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم إحتمال إختلاط حكم الله بحكم الناس، فقال لعامل له يدعى بريدة “إذا حصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزل على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك، فأنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا”.
وقال علي ابن أبى طالب لأعوانه: لا تجادلوا الخصوم بحكم من القرآن، لأن القرآن حمّال أوجه (أي متعدد الرؤى)، وقال إن القرآن لا ينطق بلسان.
ونتيجة هذا الفهم الصحيح الذي لم ينتبه له بعض فقهاء المسلمين اختلط ما نزل من الله بما صدر من الناس، وصار ما هو فقه يجري الظن والحديث على أنه شريعة.
1.. عندما بيّنت ذلك في كتابي “أصول الشريعة” الصادر عام 1979، هاج الشيخ النمر وماج، واتهمنى بالكفر وطالب بتوقيع حد الردة عليّ. ثم عاد بعد ذلك وكتب في جريدة الأخبار بتاريخ 6 أغسطس 1987 يقول أنه “حصلت شكوى من رجال القضاء والمحاماة من الصياغة الحديثة للقوانين مما يشكل صعوبة أمامه، مع أن أكثرية القوانين لا تخالف الشريعة……”.
2.. وفى القرآن (وأحل الله البيع وحرّم الربا) لكنه لم يُفصّل ما هو البيع وما هو الربا، وكل ما حدث في ذلك إنما هو فعل الفقهاء وعمل الناس. وقد حلل الفقهاء ربا الفضل الذي لا يشترط فيه مقدماً دفع فائدة.
وقد حرم الفقهاء بعض البيوع منها البيع على شيء غير محدد، وهو ما يسمى عقد مضاربة، ونظام المعاشات الذي يستفيد منه الجميع بما فيهم رجال الأزهر والإفتاء، ومفهوم أنه عقد ضرر، إذ لا يعرف فيه الموظف كم سيدفع إلى الحكومة حتى يحصل على المعاش (لإحتمال موته في أي وقت) كما لا تعرف الحكومة قدر ما سوف يقتضيه الموظف أو أسرته من معاش لأن الأعمار غير مضمونة.
وقد صدر من محكمة الإستئناف العليا ببورسعيد حكم شهير في 10 يناير 1986 من الدائرة التي كنت أرأسها انتهى إلى أن فوائد البنوك ليست هي الربا المذكور في القرآن، وبيّن الحكم في أسبابه دليل ذلك. لكن أحد المشايخ من غلاظ الصوت وسوء الكلام قال إننا بهذا الحكم نهين الإسلام والمسلمين. وقد فاته أن الحكم صادر من محكمة برياستى ولم يصدر عنى، كما أنه لا يجوز التعليق على أحكام المحاكم بالتحريض على القضاة وإنما بأدب الحديث ودقة العلم.
وقد احتملنا قدرا كبيرا من القذف والتجريح والإيذاء مدة 17 عاماً، انتهى بعدها مجلس البحوث الإسلامية بالأزهر – وفيه كارهون لي – إلى الإفتاء بما كانت المحكمة قد انتهت إليه في الحكم المذكور، فلِمَ كانت المكابرة والمعاندة؟
3.. كتبت مقالة في مجلة عن الخلط الشائع بين “الحجاب” (وهو ساتر يوضع بين زوجات النبي والمؤمنين اتقاء الفتنة)، و”الخِمار” وهو ما يغطي شعر المرأة أو جزءاً منه، و”الجلباب” الذي ترتديه النساء على أجسامهن، وقلت إن “الحجاب” ليست فريضة لكنه فضيلة، وعادة وليس عبادة.
عارضني في ذلك شيخ الأزهر السابق، فرددت عليه وكان سجالاً. ثم حدث أن توفي شيخ الأزهر فعُين بعده من قال بوجهة نظري. فهل يجوز بعد ذلك أن يقول قائل إن الحجاب فريضة، فيجرم حلالا دون بينة وبغير أسباب، وإنما هي إطلاقات تؤدى إلى إقصاءات للرأي المخالف ولكل من يقول به.
أما الحدود أي العقوبات الجنائية فهو واردة في القرآن الكريم عن أربعة أفعال هي: السرقة والزنا وقذف المحصنات من النساء، والحِرابة أي الخروج على المجتمع بالقتال. وهذه العقوبات مشروطة، فهي لا توقّع إلا بعد إعداد طويل وصحيح للمجتمع، حتى لا تستعمل الأحكام الشرعية في أهداف حزبية أو أغراض شخصية.
والطريق السليم إلى تطبيقها أن تتحقق في المجتمع إبتداءً العدالةُ الإجتماعية والعدالة السياسية والعدالة الإقتصادية والعدالة القضائية.
من كل ذلك يخلص أن الإسلام السياسي قد تعدّى هدفه الأول بالوصول إلى الحكم بأي طريق ولو قام على العنف والدجل والمغالطة، حتى إذا وصل إلى السلطة لا يتركها أبداً، (تعدى هدفه ذلك) إلى هدف آخر هو تهديد المصريين وترويعهم، وطرد كل من لا يتبع نهجهم ويسير على هواهم، ويشمل هذا الطرد تهجير أعداد غفيرة من المسلمين والمسيحيين.
وللقرآن الكريم في ذلك قول فصل وحكم بات، إذ جاء فيه “قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان قلوبكم” (سورة الحجرات آية رقم 14).
ومفادُ ذلك أن من يدعى أنه يعمل على تحقيق الإسلام وتطبيق الشريعة، لا يلجأ إلى الغموض والفتن لكي يُثبّت المظاهر والتنظيم والتعصب، وإنما عليه أن يُهيئ كل إنسان لكي يكون مؤمناً يقرّ الإيمان في قلبه يملك منه الضمير والسريرة والفؤاد.
إن ما يجرى في مصر الآن هو أن الإسلام السياسي خطف الثورة العظيمة وأهدافها السامية ليحولها إلى رغباته التي سوف تُحدث في مصر فتنة كبرى تمتد إلى الشرق الأوسط ثم تنشر في العالم بأسره.
saidalashmawy@hotmail.com
* القاهرة