مما سلف بيانه – في المقالات الأربع السابقة – على ما هي عليه من إيجاز، كافٍ لتقدير الرأي العام وفهم الصورة الصحيحة عن الخلافة الإسلامية:
أ.. فهي لم تنشأ أبداً إلا بعد حروب استطالت على مدى التاريخ. لقد قال عمر ابن الخطاب عن خلافة أبى بكر الصديق، إنها كانت فلتة، والفلتة لا تتكرر. وفى ذلك فقد نزا القرشيون على شيخ قبيلة الخزرج سعد ابن عبادة فأوسعوه ضرباً حتى كاد أن يموت، وبذلك تم وأد الفتنة التي كان الأنصار يلوحون بها، حتى يكون الحكم مشاركة بينهم وبين المهاجرين، لهؤلاء الأمراء ولأولئك الوزراء. (وهو ما حدث في الخلافة الإسلامية فيما بعد ذلك، خلال الخلافة العباسية وما تلاها.).
وقد قامت خلافة معاوية ابن أبى سفيان بعد حروب طويلة مع على ابن أبى طالب، انتهت بمقتله على يد أحد الخوارج، الذين كانوا من أنصاره ثم انقلبوا عليه وسموا أنفسهم الشراة. أي إن من قتل علىّ ابن أبى طالب قتله اعتقادا منه أن عليا كافر، وقاتِله يثاب بالجنة، لأنه اشتراها بالدنيا (!!؟؟).
ولم تستقر الخلافة للأمويين إلا بعد مقتل الحسين ابن على ابن أبى طالب في موقعة كربلاء، ومقتل شقيقه الحسن ابن على ابن أبى طالب بالسم الذي دسته له زوجه، بإيعاز من معاوية ابن أبى سفيان (وحين بلغ معاوية وحاشيته نبأ مقتله كبروا وهللوا وقالوا : إن لله جنوداً من العسل (ولعل هذا يفسر كيف تلوى السياسة أعناق الحقائق).
وقامت الخلافة العباسية الأولى على معارك شنها الفرس أساساً، بقيادة أبى مسلم الخرساني. وفى عهد هذه الخلافة حدث ما كان يرجوه المهاجرون في سقيفة بنى ساعدة، إذ أصبح الملك للخلفاء العرب، وصار الحكم (الوزارة) للفرس تارة، وللترك (التتار) تارة أخرى، وهكذا دواليك. حتى سقطت هذه الخلافة في عهد المستعصم (1542م) على يد هولاكو التتاري. وبمقتل الخليفة المستعصم انتهت الخلافة العباسية.
وأنشئت الخلافة الفاطمية بحرب قادها جوهر الصقلي لحساب الخلفاء الفاطميين الذين كانوا يقيمون في أفريقية (تونس وما حولها). وقامت بين هذه الخلافة والخلافة العباسية الأولى عداوات ومشاحنات ومشاتمات وصلت إلى لمز الفاطميين في نسبهم، إذ أنه كان قد أشيع عنهم أنهم من أصول يهودية تخفّت تحت إسم الإسلام.
ولما سقطت الخلافة الفاطمية في مصر، عادت مصر ولاية في نطاق الخلافة العباسية الأولى، وكان يحكمها المماليك (وهم رقيق أي عبيد كان يجلبهم أو يشتريهم الفاطميون من جنوب الروسيا، بلاد القوقاز والشيشان والداغستان، ومن جركسيا (شركسيا).
(وفى مسرحية السلطان الحائر لتوفيق الحكيم بيان لأثر فتوى المعز ابن عبد السلام في ضرورة أن يكون الحاكم حراً، وعرض الحاكم نفسه للبيع حيث اشترته عاهرة).
وظل المماليك يحكمون مصر، حتى استطاع السلطان الظاهر بيبرس أن يرضى بعبد أسود أحضره له العربان وادّعوا أنه من سلالة العباسيين، فنصبه هو خليفة ونصب الخليفة الظاهر بيبرس سلطاناً، بعد أن حرره من الرق ضرورة.
وقد استبد المماليك بالسلطة وعزلوا الخليفة في قلعة الجبل، واكتفوا ببقاء إسمه في صلاة الجمعة، لأنهم يحصلون على الشرعية بهذا الإسم.
وسقطت سلطنة المماليك عندما غزت الجيوش الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت أرض مصر. وعادت مصر إلى الخلافة العثمانية (التي كانت قد آلت إليها بعدما احتلوها “1517م” وكانت تدفع لها الجزية كل عام، وظلت الجزية تُدفع حتى عام 1955م تحت إسم الصدة). ثم ألغى الأتراك الخلافة في 3 مارس 1924.
ب.. لُقب أبى بكر بلقب الخليفة، ولحظ هو ما في هذا اللقب من قلق يمكن أن يجعله خليفة للنبي، فقال أنا خالف النبي (أي من تبعه في الزمان) ولست خليفته، أي إنه لم يحصل على كل حقوقه والتزاماته. وكان من المقدّر أن يُطلق على عمر ابن الخطاب لقب خليفة خليفة النبي، ثم يُطلق على من يليه لقب خليفة خليفة خليفة النبي، فقال إن هذا أمر يطول، ولقب نفسه أمير المؤمنين، أي المتولي أمورهم.
غير أن الشاعر الذي نعى عثمان ابن عفان، قال في شعره عنه إنه (خليفة الله).
وتلقف الأمويون هذا التعبير وظلوا يُعملون معْناه وإن لم يتلقبوا به، لكن الشعراء كانوا يستعملون اللقب دائماً فيشيرون إلى الخليفة بأنه خليفة الله.
وفى الخلافة الفاطمية صار الخليفة خليفة الله، وأحياناً أشير إليه على أنه الله ذاته. وفى عهد الحاكم بأمر الله كان يطلب من الشعب أن يسجد له وأن يخاطبه بصيغ الجلالة.
وبعد سقوط الخلافة الفاطمية حكمت مصر السلطنة الأيوبية وغيرها، لكن كان المماليك هم السلطة الأولى والفعّالة، حتى غزت مصر السلطنة العثمانية (1517م) واستولت بعد ذلك على كل البلاد التي كان يحكمها السلاجقة من قبل.
وظل المماليك في السلطة، يتبعون الوالي العثماني إسماً، حتى الحملة الفرنسية التي أزاحتهم مؤقتاً. وبعد خروج الفرنسيين من مصر، عاد المماليك إلى سابق نفوذهم حتى قضى عليهم محمد على في مذبحة المماليك المشهورة.
ج.. والخلافة الإسلامية كانت وظلت خلافة سُنّية، وعندما قامت الخلافة الفاطمية في مصر وكانت من الشيعة، اعتبرت الخلافة العباسية أنها افتأتت عليها واستولت على مصر عنوة، وظل الخلاف بينهما يستمر ويشتد، حتى سقطت الخلافة الفاطمية، ثم تلتها الخلافة العباسية الأولى التي انتهت على يد هولاكو التتاري.
واليوم توجد جمهورية إيران الإسلامية الشيعية، فماذا يكون وضعها في خلافة سُنّية في الأصل والأساس، وبعض فقهائها يعتبرون الشيعة خارجين عن الإسلام الصحيح، يضاف إلى ذلك أن تركيا لها فهم عن الدين مغاير لجماعات الإسلام السياسي، وعندما ذهب أنصاره لاستقبال رئيس الوزراء التركي، وهم يهدونه مصر على طبق من فضة، ليعيد إقامة السلطنة العثمانية (التي لم يتلقب أي من حكامها بلقب الخليفة إلا السلطان عبد الحميد الثاني)، رفض رئيس وزراء تركيا عرض الإسلام السياسي – الذين قابلوه بجمع كبير وحماسة شديدة – وقال لهم إنه مسلم لكنه يحكم تركيا العالمانية (وهو يقصد المدنية). وعدد العرب من المسلمين لا يزيد عن 25٪، أما الباقي فهم لا يتكلمون العربية، وأكثرهم في الهند وباكستان وأفغانستان وإيران وماليزيا وأندونسيا والجمهوريات الست التي كانت تشكل جنوب الإتحاد السوفييتي، ثم استقلت عنه، وهى جميعاً تتكلم التركية عدا واحدة منهم، فهي تتكلم الفارسية. أما باقي المسلمين فيتوزعون بين أمريكا وأوروبا وأستراليا وغيرها، ولغتهم الأصلية هي الإنجليزية. وإذا صلّوا باللغة العربية فإنما تكون بالنسبة إليهم مثل اللاتينية بالنسبة لأغلب الأوروبيين، يتلونها دون فهم لمعانيها، بل من الذاكرة التي تحفظها صمّ دون فهم.
هـ.. والخلافة الإسلامية تكون بين بلاد متقاربة في عدد السكان وفى مواردها، لكن البلاد الخليجية على عكس ذاك تماماً، قلة من السكان ووفرة في المال. وعادة ما يكون المال تحت سلطة الخليفة فمن ذا الذي يقبل أن يترك ما يملك لشخص أو سلطنة غريبة عنه!؟
إن فكرة الخلافة الإسلامية كانت جائزة عام 1924م وما بعدها، غير أن الظروف العالمية تغيرت. وقد كتب الدكتور السنهوري في كتابه (الخلافة Le calife) والذي لم يترجم إلا أخيراً كما سيلي، مقرراً أن الخلافة كانت خلافة ناقصة طوال التاريخ، وأنها لا يمكن أن تقام حالاً بالصورة التي كانت عليها، وإنما يمكن أن يستعاض عنها بهيئة مثل عصبة الأمم. وقد قامت جامعة الدول العربية وأنشئ المؤتمر الإسلامي، فهل يكون من الصواب أن نتعلق بالوهم في ظروف دولية قد لا تكون مواتية – فنبدد جهودنا ونعلّق آمالنا على هدف بعيد، من المستحيل أن يتحقق!؟
ثم ماذا؟
في فبراير 1986م دُعيت من إتحاد المحاميين العرب إلى مؤتمر يُعقد في الكويت، ومن أنشطته، مناقشة دعوى تطبيق الشريعة. وقد كان مناظري زميل سابق في القضاء، ربما ساءه أن ينتصر الجميع، حكاماً وحضوراً، لوجهة نظري في أن هناك خلط بين الشريعة والفقه، وأن أحكام الشريعة تتصل أساساً بالزواج والطلاق (وليس فيها التطليق بحكم المحاكم) والميراث والوصية، وكلها مطبق في مصر والبلاد العربية. أما الحدود فلها شروط يضعها كل مجتمع لنفسه مسترشداً فيها بالفقه الإسلامي، وهى تتمحض في النهاية إلى آثام دينية، إذ يمكن لمن توقع عليه عقوبة حدّية أن يعلن توبته، والمقرر أنه “لا حد على تائب”.
وعند خروجنا من القاعة خرج معي الدكتور توفيق الشاوي، وذكرني بنزاع كان له وفصلت فيه لصالحه عندما كنت رئيساً للنيابة، ثم قال لي: أنا معك في كل ما قلت، فهو صحيح ولا رد عليه، لكن هذا الكلام لا يقال حالاً (حالياً).
سألته ومتى يقال، إن كانت الشعوب الإسلامية تعيش في الوهم وتنادى بأن الإصلاح الحقيق يكمن في تطبيق الشريعة ؟ قال لي: بعدين. سألته : بعدين يعنى متى؟ قال عندما تتهيأ الظروف. عجبت لأسلوب حجب الحقيقة وإشاعة الكذب. لكن تبين أن هذا هو أسلوب السياسة، وأن الإسلاميين – بعد أن وصلوا إلى الحكم بدأوا يتنصلون من دعوى تطبيق الشريعة ويقول قائلهم إنه لابد من تهيئة المجتمع أولاً، وهو ما يقتضى خمس سنوات على الأقل.
ثم ماذا؟
إن مصر أول دولة في التاريخ؛ وقد خلقها الله وسوّاها لترتبط بالسماء، من خلال كوكبة الجبار أقوى وأنضر الكوكبات في مجرتنا (درب اللبانة أو درب التبانة)، فحزامها الأوسط ثلاثة نجوم تنعكس على هضبة الجيزة في الأهرام الثلاثة. وترتسم الكوكبة ذاتها على أرض مصر، كما أن نهر النيل يماثل شكل المجرة تماماً، وفى مائة عنصراً مقدساً، (على نحو ما سوف يرد تفصيلاً في كتابنا عن مصر صفحة السماء). ومصر بهذه الخاصية أرض مباركة عليها شعب مبارك (كما ورد في التوراة)، وكما كانت أول دولة في التاريخ فهي أول دولة في التاريخ الحديث بين كل البلاد العربية والإسلامية. وتحويلها من دولة مباركة إلى إمارة ملحقة أمر لن يكون، خاصة بعد ثورة 25 يناير 2011 ؛ ذلك أن قدرها أن تكون راية ترفع القانون الإلهي في السماء والأرض، وهو الحق والعدل والاستقامة والنظام، والذي قدمته إلى البشرية في بداية التاريخ، وكان سقوط هذا القانون الأزلي أكبر كارثة حدثت للبشرية – كما قال برستد عالم المصريات الأمريكي – ومن وقتها والعالم في ضياع، ولن يعود إلى الألوهية الحقة إلا بعد أن تعيد مصر رفع راية القانون الإلهي.
في مناقشات لمجلس الشعب أخيراً قال شيخ معمم: إنه لا توجد في مصر أزمة للرغيف، ولكن ما يوجد هو أزمة ضمير. وهذا هو قدر مصر: أن تعيد عصر الضمير أو ضمير العصر.
إشارة – جاء في المقالة السابقة أن جنكيزخان غزا بغداد، والأصح أن الذي غزاها هو هولاكو التتاري. وقد وردت هذه المعلومة في كتابنا (الخلافة الإسلامية) الصادر 1990م. لكن ما جاء في المقال السابق زلة قلم بسبب كثرة العمل. وشكراً للقارئ الفاضل الذي نبه إلى ذلك.
• القاهرة
ماذا يجرى في مصر (12)
و أنا بدوري أشكر اهتمام كبيرنا الفاضل الأستاذ العشماوي برأي قرّائه، مع أنني لم أرِد تسجيل نقاط، و أي نقاط تسجّل في محيطه الواسع؟ أمتعنا استاذ محمّد بالمزيد و لك جزيل الشكر.