بالمصادفة، شاهدت برنامجاً حوارياً (Talk Show) فرأيت أن الحوار يجرى مع رجل ملتح ووقور، يتكلم عن جماعة الإخوان المسلمين بعلم وموضوعية، ولما إنتهى البرنامج عرفت أن المحاور هو د. محمد حبيب النائب الأول لجماعة الإخوان المسلمين سابقاً.
تابعت أحاديث الدكتور المذكور كلما صادفتنى الفرصة لذلك، وأنا أجده تماماً حسب إنطباعى الأول عنه. غير أنه – فى تقديرى – بدّل من أسلوبه فى برنامج مساء السبت 14 أبريل 2012، إذ سأله المحاور عن سبب إلتجاء الإخوان المسلمين إلى العنف فقال (ما معناه) إنه حدث شطط من بعض العالمانيين واللبراليين وصل إلى المساس بالإسلام، فاقتضى ذلك وقف الإساءة إلى الإسلام بالعنف.
ولمّا كان ذلك غير صحيح، وهو يصدر عن جماعة الإخوان المسلمين حالاً (حالياً)، فإن جلاء الأمر لا يكون إلا بتقديم عرض موجز لتاريخ الإخوان المسلمين منذ 1945 إثر إنتهاء الحرب العالمية الثانية.
أ.. فى ذلك العام (1945) فوجئ الناس فى مدن شتى من المدن المصرية بمجموعة من الكشافة تنتمي لجماعة الإخوان المسلمين، وهى تسير فى نظام شبه عسكري، وفى موعد محدد كل أسبوع، ثم تتوقف عند مفاصل معينة من الطريق، ليهتف أحد قادتها، بينما يردد الجميع وراءه بهتاف قوي عالٍ للفت الإنتباه.
وكان الهتاف يتضمن فيما يتضمن “الله أكبر ولله الحمد.. القرآن دستورنا.. والموت فى سبيل الله أسمى أمانينا”.
فى الوقت نفسه، انتشر شباب الإخوان المسلمين فى المدارس والمنتديات والمقاهي والإجتماعات ليرددوا أن الحكومة كافرة ومن يسكت عن الكفر فهو كافر، ذلك لأن القرآن يقول “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون” وأن المجتمع لن ينصلح حاله ويخلص أمره إلا إن يطبق شرع الله، وهو ما تأدى فيما بعد إلى شعار “الإسلام هو الحل”.
ب.. فى عام 1946 – وبعد مذبحة كوبرى عباس – صار إسماعيل صدقى رئيساً للوزراء، وكان أعداؤه يشيعون عنه أنه “عدو الشعب”، فأدى ذلك إلى استقطاب شديد بين قوى الشعب. فالمدنيون يهتفون ويعملون على إسقاط حكم إسماعيل صدقى، بينما إلتزم الإخوان المسلمون التعاون معه. وكان مرشد الإخوان يركب فى سيارة مكشوفة مع حكمدار القاهرة اللواء سليم زكي لتحريض شباب الإخوان فى كافة أنحاء القاهرة للإعتداء على كل من يعادي نظام الحكم الذى يمثله اسماعيل صدقي. وفى مقابل ذلك، أغدقت الحكومة المال على الجماعة المذكورة، فأصدرت جريدة يومية خاصة بها.
ج.. عام 1947 توجه المرشد العام لمقابلة المستشار السياسى للسفارة الأمريكية بالقاهرة وعرض عليه إقامة هيئة لمكافحة الشيوعية، يكون التمويل فيها من الولايات المتحدة والعمل لأعضاء جماعة الإخوان المسلمين. فاعتذر المستشار لأن سياسة الولايات المتحدة آنذاك لم تكن تبيح التعاون مع جماعات.
د.. صدر قرار تقسيم فلسطين إلى دولة عبرية وأخرى عربية فى 29 نوفمبر 1947، فقبلته أغلبية القوى اليهودية على الفور (وإن كانت تضمر نقضه فيما بعد) بينما رفضته القوى العربية جميعاً. وكانت الحكومة المصرية آنذاك، وحتى شهر أبريل 1948، تأبى دخول الجيش المصرى إلى حرب فلسطين وترى مساعدة الفلسطينيين بالمال والسلاح والمتطوعين. غير أن جماعة الإخوان المسلمين سيّرت مظاهرات فى كل أنحاء مصر تدعو إلى الجهاد، وتدّعي أن الحرب مع اليهود أمر شرعي ومن يتخلف عنه يعتبر كافراً. ومع ضغوط المظاهرات التى كانت تهدف إلى اتهام الملك وحكومته بالكفر، دون أن تعرف شيئاً عن قوة الجيش المصري، وماهية عُدّته وعداته، ومع الضغوط على الملك من دولة عربية، اضطر الملك إلى الدفع بكتيبة من حرسه للحرب فى فلسطين، وتبع ذلك الزج بكتائب من الجيش المصرى فى الحرب. وفى مجلس الشيوخ المصري (أبريل أو مايو 1948)، سأل اسماعيل صدقى رئيسَ الوزراء محمود فهمى النقراشى عن سبب الزج بالجيش المصري فى حرب ليست لديه لها عدة أو عتاد، لما كان يعرفه يقيناً خلال رياسته الوزارة 1946- 1947 وقبل وزارة النقراشى مباشرة. فرد هذا قائلاً إنه أعطى كلمة للملك (ولا يمكنه أن ينقضها) وإن الأنجليز وعدوا الملك بفتح مخازن السلاح بالاسماعيلية للجيش المصري.
وقد أكد لي هذه الواقعة فؤاد سراج الدين (باشا) الذى كان سكرتيراً للوفد آنذاك، وأضاف إن الحكومة كانت تستولي بالأمر العسكرى على عربات النقل الكبيرة (لوري، لوريات أو لواري) من الشركات الخاصة لتنقل فيها الجنود. ولما سألته عن السبب الذى دعا الوفد – الحزب الشعبى آنذاك – أن يوافق على الدخول فى حرب ليست مصر مستعدة لها، قال لي إن الوفد لم يكن يستطيع الوقوف أمام قوى الشعب التى كانت تعتبر الحرب جهاداً فى سبيل الله، وتتهم من يتخلف عنها بالكفر.
هـ.. قيل فى ذلك، فيما بعد، أن الإخوان المسلمين كانوا يريدون بشدة توريط الجيش المصري فى حرب فلسطين، حتى يخلو لهم الجو فيستطيعون خلاله الإستيلاء على السلطة، وأيد ذلك أنهم (الإخوان) لم يدفعوا بالصفوف الأولى من الجهاز السري إلى فلسطين، وإنما عشتركوا فيها بالصفوف الدنيا من هذا الجهاز، واستبقوا الصفوف (الكوادر) الأولى للمهمة الرئيسة، وهى الإستيلاء على الحكم.
و.. عمد الإخوان المسلمون إلى قتل رئيس محكمة جنايات القاهرة لإرهاب القضاة، ثم قتل رئيس الوزراء (النقراشي) لإرهاب الساسة. لكن الحرب تُولّد الحرب، وعندما يبدأ الفعل لا يعرف – ولا من أبتدأه – كيف يسيطر عليه، لوجود عوامل طبيعية وكونية تتفاعل مع الأحداث، دون أن يستطيع أحد رصدها أو التنبؤ بها. فهتلر لم يحارب الإتحاد السوفييتى إلا بعد أن استطلع آراء قادته من العسكريين (ولجأ إلى المتنبئين) فوافقوا جميعاً على أن الحرب سوف تحدث نصراً، لكن لا أحد منهم
استطاع أن يحسب عناصر مستقبلية (مثل المقاومة الباسلة للشعب الروسي فى ليننجراد وستالينجراد، ولا دخول الولايات المتحدة إلى الحرب ومدها الإتحاد السوفيتى بالأسلحة والذخائر). فمن يرى فى الحرب نصراً، لابد أن يفهم أن ذلك النصر يرتبط بالعناصر الموجودة أمامه، إذ لا شيء يستمر على حاله، ولا تبقى الأشياء دون تغير، وهو ما يُعبّر عنه العلم بأن ما يصل إليه هو ببقاء الأمور على أحوالها لا تتغير (Other Things Being Equal).
ز.. تم حل جماعة الإخوان المسلمين فى 28 ديسمبر 1948، وإعتقال القادة وكثير من الأعضاء. وتلا ذلك قتل المرشد العام الأول للجماعة، وبدأ الصراع بين التيار الديني والجماعة المدنية يتخذ مساراً عنيفاً.
وكان المرشد الأول – قبل مصرعه (فى يناير 1949) قد أصدر كتيباً حرره بنفسه، عنوانه (ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين)، يقصد بذلك من قام أو يقوم بالعنف من جماعته، ذلك أن من يفعل ذلك هو فى تقديره ليس مسلماً وليس من الإخوان. وبهذا التقرير يكون المرشد الأول – سواء عن حقيقة أم عن إيهام (الإيهام يقابل التقية عند الشيعة) – قد أدان العنف فى الدعوة والمسلك.
والمثل السائر يقول (طالب الحق بعنف معتدي).
saidalashmawy@hotmail
* القاهرة