تنتقل الجماعة من الهمجية والبربرية إلى المدنية والحضارة، عندما تعرف النظام وتفهم معنى حدود كل شخص وأى عمل، وهو ما يتأدى إلى ما يُعرف بحكم القانون (Rule of Law) حيث تكون السلطة الحاكمة والمؤثرة هى المؤسسات، ويكون كل شيء فيها، وكل نشاط بها، محكوماً بالنظام (Discipline, system أو Order). فيجرى النظام من تلقاء نفسه لينطبق على الأحداث والأشخاص، دون ما إرادة فردية تعوقه أو تمنع تطبيقه.
فإذا قام على نظام الحكم إنقلاب (coup d’état)، أو قامت فى الشعب ثورة، فإن هذه الثورة وذاك الإنقلاب لا بد أن تكون له أهداف يستنفدها فى مدى معين، بعده ينتهي الإنقلاب وتنتهي الثورة، ويعود حكم القانون، فإن لم يحدث ذلك وكان ثمّ إدعاء باستمرار الثورة فإنه يكون أمراً مؤدياً إلى عدم وجود رجال دولة (statesmen) وإنما أعضاء عصابة (gangsters).
والقانون لفظ أصله إيطالي. فهو في هذه اللغة (Canon)، أما في اللغة العربية فالمقابل للفظ القانون هو لفظ “السّنّة”. وفى القرآن الكريم “فلن تجد لسنّة الله تبديلاً ولن تجد لسنّة الله تحويلاً”- سورة فاطر آية 43.
فكل شيء فى الكون من أكبر شيء إلى أصغر شيء (وهو الجزيء Particle) خُلِقَ بسنّة الله (القانون) والإنسان يحيا بهذه السنّة، ثم يُحاسب وتُقوَّم (تقيَّم) أعماله وفقاً لسنّة الله التى لا تتحول ولا تتبدل.
وعن “ماعِت” – الفتاة الوجيهة التى كانت ترمز إلى القانون فى مصر القديمة ثم صارت رمز العدالة فى كل أنحاء العالم – أنها قالت: خلق الله فى كل إنسان ما يجعله يميز بالفطرة بين الخير والشر، بين الحسن والقبيح، بين الحق والباطل.. إلى آخر ذلك. ومعنى هذا أن الإنسان بفطرته السليمة يستطيع التمييز بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين العدل والظلم، وهلم جرا.
والأصل أن الإنسان يستكنه نفسه (أن يدخل إلى كُنهِ ذاته) ليصل إلى ضمير نقي (هو فى الإسلام واليهودية القلب السليم – “شاليم” بالعبرية)، وفي المسيحية القلب النقي، حيث يقول السيد المسيح “طوبى للأنقياء القلب فإنهم يعاينون الله”.
فى مصر القديمة، التي كانت المكان الذى تجلّى فيه الضمير والقلب السليم، كان المصري القديم يقول:
– وضعت الإله فى قلبى،
– قلب الإنسان إلهُه، وقلبي كان راضياً عن أعمالي،
– إن “ماعِت” (رمز الحق والعدل والإستقامة والنظام) تنزل مع من أقامها إلى قبره،
وفي الأثر اليهودي أن الإله قال لموسى (عليه السلام): يا موسى إخلِ قلبك حتى أستطيع أن أنزل إليه.
والمستفاد من ذلك أنه إذا ما تمكن الإنسان من أن يصل إلى ضمير نقي وقلب سليم، فإنه يجعل من قلبه (ذاته أو نفسه) معبداً لله. ولا تكون الأبنية الخارجية معابد لله، بل أمكنة تلتقي فيها الضمائر النقية والقلوب السوية، لتحتفي بوجود الإله فيها وحياة الإله معها.
ولا يكون الضمير نقياً والقلب سليماً إلا إذا إتصل بالضمير الكوني، فارتبط به وانضبط عليه، فلا يخدع نفسه أبداً ولا يغش غيره قط.
هذه مسائل لا تتحقق إلا على المستوى الفردي، وضمن جماعة تَكونُ على هذا الوضع الكوني والطبع السليم. أما إذا اتسعت الجماعة، ولم يعد من الممكن الإستيثاق أن ظاهر الغير مثل باطنه، والجواني فيه مثل البراني منه، وأنه ربانية تسير ومعبد للإله الحي، فإن الأمر ينتقل إلى محور آخر ومجال مغاير، غير القلب السليم والضمير النقي، ألا وهو القانون.
وكما أن مفهوم الضمير قد نشأ فى مصر، فإن معلوم القانون قد بدأ فى بلاد بين النهرين (العراق حالاً) واستتب فيها؛ ثم إنتقل منها إلى الخارج، فركنت إليه كل الشعوب المعاصرة واستندت إليه كل البلاد القائمة. وأهم ما يميز نظام الضمير عن نظام القانون، أن إنسان الضمير لا بد أن يستبطن ذاته ويستكنه نفسه، من الداخل، حيث القلب السليم أو الضمير النقي، الذى يرتبط بالضمير الكوني وينضبط بكونيته ودقته وصحته؛ أما في نظام القانون، فإن الرقابة على المرء، والعقاب أو الثواب لما يفعل، يكون من الخارج حيث الضغوط الإجتماعية (Social Pressures) أو النصوص القانونية أو اللوائح التنظيمية. ويكون كل همّ المرء أن يتحوّط فى تصرفاته أو فى نتائجها كى تكون – ولو ظاهرياً – موافقة للقانون بعيدة عن الضغوط الإجتماعية. ويُقاس النجاح بقدر إمكان الفرد ألا يقع فى حبال القانون أو شباك الضغوط الإجتماعية. وهو يحتفي بنجاحه فى ذلك ويحتفل معه كل من كان على شاكلته. ولدى هؤلاء، فإن تفسير الآيات القرآنية (فمن يعمل مثقال ذرة خير يَرَهُ، ومن يعمل مثال ذرة شراً يره) (فلن تجد لسنّة الله تحويلاً ولن تجد لسنة الله تبديلاً) يأخذ مجرى مخالفاً لواضح النص فيه، فتجري إزاحة المعاني الكونية بتفسيرات مغلوطة وتأويلات مخلوطة، كما تحدث معارضتها وتوهم التخلص من نتائجها الكونية، بأساليب مادية مثل إدعاء التوبة، أو الإلتجاء لفكرة أن رحمة الله واسعة، وما إلى ذلك مما يتنافى مع القانون الكوني ويتجافى مع حكم الضمير الذى يحاسب عن كل صغيرة وكبيرة، ويضع للتوبة شروطاً لابد من أتباعها أولاً، كما يفيد أن رحمة الله لا تكون لمذنب إلا أن يكفر عن ذنبه،ولا تحق لمرء إلا أن يكون خالصاً من الخطايا مبرأ من الآثام، ليس فى ضميره شائبة ولا فى قلبه عَكَر.
فى القرآن عن هذا المعنى آية نصها (قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا، ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان فى قلوبكم). فهذه الآية تحاجز وتفاصل بين التصرف الظاهري، وهو الإسلام، والتصرف الداخلي، الذي يصدر عن القلب، وهو الإيمان. ومن ثم جعلت الآية – بواضح نصها – للإيمان مرتبة أسمى وأعلى من الإسلام. ولذلك فإن آيات القرآن – التى نزلت فى المدينة – غالباً – ما توجه إلى المؤمنين، فتبدأ دائماً بخطاب المؤمنين (يأيها الذين آمنوا)، وهو تعبير دقيق يضع فارقاً واضحاً بين الإيمان الذى يقرّ فى القلوب المستقيمة والضمائر النقية، والإسلام وهو ما يتبعه من يدّعون الإسلام من خوف ويسلكون دروبه على حرف.
فى مجلس الشعب الحالى وقف شيخ معمم وقال: لا توجد أزمة فى رغيف العيش، لكن الأزمة هى فى الضمير. والشيخ الذى قال ذلك فهم الحقيقة التى كانت ينبغي على تيار الإسلام السياسى أن يتبعها وأن يلتزمها، فلا يتدخل فى السياسة، ولا يلجأ إلى التجارة، ولا يعمد إلى القوة، وإنما يكون الأساس فيما يفعل أن ينشّئ أفراده والمنتمين إليه بأن يعملوا بجدّ وكدّ لتكون لهم قلوب مستقيمة وضمائر نقية. وبهذا، وبهذا وحده، يتحولوا إلى الإيمان الذى يقرّ فى القلوب وتزهو به الضمائر.
وهذا هو ما يُرجى للمصريين وللعرب، حتى ينهضوا من كبوتهم ويصعدوا إلى آفاق الإنسانية ويظلوا عند أعتاب الكونية.
saidalashmawy@hotmail.com
* القاهرة