فى 25 يناير 2011 بدأت الثورة المصرية بمجموعات من الشباب، سرعان ما لحقت بهم مجموعات كثيرة ومتنوعة من الشعب . وفى 28 يناير 2011 إلتحق بها أفراد من جماعة الإخوان المسلمين، بشخوصهم وعلى مسئوليتهم؛ ذاك بأن الجماعة نفسها لم تشأ الإشتراك فى الثورة، وكانت آنذاك تتفاوض مع هيئات من نظام الحكم البائد، تهدف إلى مساندة هذا الحكم مقابل أن تضفى الشرعية على أنشتطها . يعنى ذلك أنه بينما إشترك فى الثورة شباب الإخوان المستنيرين، كان شيوخهم يعملون على تقويض جهودهم، وجهود الثوار جميعاً، باللقاءات السرية مع هيئات وأشخاص من النظام الذى قامت الثورة ضده، لقاء مكاسب دنيوية حالة .
وإذ ترتب على إمتداد الثورة وإشتداد الثوار أن يتخلى رئيس الجمهورية السابق عن منصبه ويعهد بالسلطة إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، فقد قيل أن الثورة قد حققت أغراضها، بقصد التخلص من أية أعمال أو إتجاهات ثورية؛ ومن ثم بدأ التفكير فى شرعية المجلس الأعلى للقوات المسلحة المُعبّر عنه إختصار بلفظ “العسكرى” . ونظراً للقنوات السرية بين الإخوان المسلمين وبين هيئات ونافذين من نظام الحكم الساقط، فقد أشير على “العسكرى” بتغيير أعضاء اللجنة التى كان الرئيس السابق قد أنشأها لإجراء تعديلات دستورية فى دستور 1971 لتهدئة الشعب الثائر على فكرة التوريث (توريث رئيس الجمهورية سلطته إلى ابن له)، وأُجرى إستفتاء على أعمال هذه اللجنة (وهو تعديل 9 مواد من الدستور) قيل إن نتيجة هذا الإستفتاء هى التى تُعطى “العسكرى” شرعيته للحكم . ولم يفكر من أشاروا بهذه الفكرة، ولا من قبلها، فى المعنى الذى يدعى أنه يكتسب الشرعية بعد نتيجة الإستفتاء؛ ذلك بأن من لم تكن لديه شرعية قبل الإستفتاء، لا تكون له شرعية فى الأمر بإجراء هذا الإستفتاء، ولا طوال الفترة من 11 فبراير 2011 حتى 20 مارس 2011 .
التقدير الصحيح يرى أن إسناد رئيس الجمهورية السابق سلطته إلى المجلس العسكرى ليس عملاً قانونياً، لأن من تخلى على السلطة لا يمكن أن يتخذ أى إجراء شرعى بعد تخليه، لكن شرعية المجلس العسكرى ودستور الشعب الثائر صدرا عن الثورة .
أثناء الثورة كان الثوار – ومنهم شباب الإخوان المسلمين – يرددون “سلمية سلمية، مدنية مدنية، عدالة إجتماعية” وكانت الصحف تؤكد على مفهوم (مدنية) وتنشر ما يفيد أن الثوار كانوا يسكتون من يهتف بغير هتافاتهم، ويقول “إسلامية” . وإستقر العقد الإجتماعى الجديد، والثورى، على مفاهيم محددة هى السلمية، والمدنية، والعدالة الإجتماعية .
والثورة هى التى أعطت الشرعية إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ذاك بأن الشعب يرى أن الجيش هو جيش الشعب، وليس جيس السلطة، وأنه لم يطلق رصاصة واحدة على مواطن (حتى ذاك الحين) . ومن ثم فقد إلتف حول الجيش، وكان فى هذا الإلتفاف معنى الشرعية الثورية، التى صارت للمجلس العسكرى فور تخلى الرئيس السابق عن سلطته فى 11 فبراير 2011 .
مع أن ذلك واضح وضوح الشمس، فإن “الغرض مرض” كما يقال . ذاك بأن البعض أفهم – على غير الحق – المجلس العسكرى بأن الإستفتاء على 9 مواد دستورية هو الذى يضفى عليه الشرعية، مع أن هذا الفهم العليل مردود بما سبق بيانه . ونتيجة هذا الإستفتاء الذى يتعرض لمطاعن عدة، لأنه تم فى خفاء، وأجرى بليل، ولم يكن كامل الشفافية، أن حدث إستقطاب بين قوى الشعب، زاد وإستقر حتى قسم الشعب فى كتلتين : الإسلامية من جانب، والمدنية من جانب آخر .
ولجأ التيار الإسلامى إلى إبداء المخبوء، فتكلم بأسلوب الغزوات، كأنما المجتمع المدنى يتألف من كفار . وإذا به يردد أكثر من مرة إتجاه الترويع والتفزيع والتهجير والتكفير . وأقام ذاك حائلاً ضخماً وحائطاً مرتفعاً بين تيار الإسلام السياسى وبين المجتمع المدنى، حتى يئس البعض من أى إتفاق أو توافق بين هاذين الإتجاهين، بينما يؤمل البعض فى حدوث تقارب وتوافق معه . غير أن وجهة النظر الصحيحة لا تتكون ولا تصح إلا بعد تحليل وتقعيد للفكرات التى يصدر عنها تيار الإسلام السياسى، وهى كثيرة، وأظهرها ثلاث فكرات .
(أولاً) فكرة إعادة الخلافة الإسلامية، التى يُعبر عنها أحياناً للتمويه والخداع بأنها “المشروع الإسلامى” .
فلقد أنشئت جماعة الإخوان المسلمين عام 1928، وفى أعقاب إلغاء الخلافة الإسلامية فى السلطنة العثمانية، وإنعقاد عدة مؤتمرات فى سبيل إعادتها .
وتصور المرشد الأول للجماعة أن الخلافة هى أساس الإسلام، وأنه لن تعود إلى الإسلام قوته وشدته إلا إذا أعيد إنشاء الخلافة، وصار هذا الفهم هو الإعتقاد الدفين لدى كل أفراد الجماعة، فى مصر وفى الخارج .
والواقع أن الأمر على خلاف ذلك، فإن الوحدة الدولية المعاصرة هى “الدولة الوطنية” يليها منظمات تعمل فى دأب وعلى مدى طويل على إلغاء الفروق بين أعضائها، وتقريب التوافق بين مواطنيها، كما هو الحال فى الإتحاد الأوروبى . أو إنشاء مؤتمرات تضم من الدول من يجمعها هدف واحد أو تقربها مصلحة مشتركة، كما هو الحال فى المؤتمر الإسلامى وفى جامعة الدول العربية .
لكن الغير عمليين والخارجين عن روح العصر يجعلون من أمانيهم (Wishful thinking) أساساً لإعتقاداتهم ومساراً لأعمالهم، فيحدثون إنقساماً فى شخصياتهم ويزرعون الفتن فى أوطانهم ويشتتون الصفوف فى شعوبهم، ولات حين نجاح .
هذا التحليل السديد هو الذى يفسر قالة “طظ” التى قيلت فى مصر وفى سوريا من أشخاص نافذين فى جماعة الإخوان المسلمين فى مصر وسوريا . وهى التى تبرر حرق أحد الإسلاميين فى تونس لعلمها .
التيار الإسلامى فى الحقيقة ضد الوطن، يعمل على تقويضه بكل سبيل، ولا يريد أن يفهم أنه بما يفعل يلغى الوطن (وهو الأمر المؤكد) فى سبيل الوهم أو التمنى الذى يصعب، بل يستحيل، تحقيقه فى الوقت المعاصر .
وقد بدأ هذا الإتجاه المرشد الأول للإخوانالمسلمين حين قال إن الإسلام وطن، يعنى بذلك نفى وتقويض الوطن الحاضر فى سبيل الوطن الموهوم .
(ثانياً) مبدأ البراء والموالاة : ففى عهد النبى (صلعم) ساءه تصرف قبيلة يهودية كانت تقيم فى المدينة، فدعا المسلمين إلى مقاطعتها، غير أن عبد الله ابن أبى ابن سلول قال له يا محمد : إن بيننا وبين هؤلاء القوم ولاية، ونحن نخشى أن تدور عليك الدوائر (فلا نجدهم معنا) غير أن شخصاً آخر هو عبادة ابن الصامت قال للنبى : يا رسول الله، أنى ابرأ من ولايتى لهؤلاء اليهود وأجعل ولائى لله وللرسول وجماعة المسلمين . عند ذاك نزلت الآية (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم) سورة المائدة آية 51.
استحيت جماعة الإخوان المسلمين مبدأ الولاية والبراء (أى أن يتبرأ كل منهم من غير المسلمين ويجعل ولاءه للإسلاميين فقط)، ولأنها الجماعة الأم فى تيار الإسلام السياسى، فقد إنتشر منهم هذا الإتجاه إلى باقى الإسلاميين، وصار مفهومهم الأساسى أنهم يتبرأون من ولاية غير الإسلاميين – مسلمين كانوا أو أقباط أو غير ذلك – ويجعلون ولاءهم للإسلاميين أصحاب الإسلام السياسى أو لفصيل منه . وهذا الفهم كان أساس الماركسية، وقد أكده خروشوف وهو فى زيارة لمصر، حين قال إن العامل فى أى بلد أقرب إليه من مواطن له غير عامل (ولا يؤمن بالماركسية) .
كنت فى الولايات المتحدة ودعانى قسّ إنجيلى كان يعمل فى مصر، كى أحضر احدى جلسات “جمعية التقارب بين الأديان” فى إنعقاد لها بنيويورك، حيث إن الحاضرين قسم من المسحيين الأمريكين ومثله من المسلمين . ذهبت معه إلى المكان، وإنعقدت الجلسة، وأثيرت فيها الآية السابقة، فرد أحد المسلمين وقال : إن أولياء فى الآية تعنى المستشارين (Advisors) فرد عليه آخر وقال : بل إنها تعنى الحكام والأصدقاء، ولا تفيد معنى المستشاريين .
أثناء الإستراحة التى يتناول فيها الحضور القهوة والحلوى المجففة، تحلّق المسلمون حول من نفى عن لفظ الولاية معنى المستشارين، وهاجموه جميعاً، وقالوا له كيف تقول ذلك لهم (أى للأمريكيين)، فقال القائل لقد قلت الصواب، رد عليه أكثر من شخص؛ ونحن نعرف ذلك لكن ليس من المصلحة أن تذكره لهم .
فى عودتى إلى محل إقامتى سألنى القس فيما حدث، وقال : هل عرفت كيف يحرّفون معانى القرآن ليُدخلوا علينا الغش؟ نحن نعرف الحقيقة وهى التى ذكرها المسلم الصادق . ولما سألته عن السبب فى الإجتماعات التى يعقدونها مع من يؤمنون بأنهم مغالطون؟ قال لى: شغل (Business) .
(ثالثاً) الإيهام : والإيهام عند تيار الإسلام السياسى يقابل “التّقيّة” لدى الشيعة . وقد ورد لفظ التقية فى القرآن بما يعنى – عند الإستضعاف – أن يخفى الضعيف إسلامه حتى يتقى الأذى . ولأن الشيعة كانوا على الدوام مضطهدين فقد إتخذوا التقية مبدءاً لهم، وعن جعفر الصادق أهم أئمتهم أنه قال (التقية دينى ودين آبائى) وقال (من لا تقية عنده فلا دين له) .
وعلى ما سلف، فإن الإيهام هو البديل السنى لمبدأ التقية الشيعى، قال به المرشد الأول للإخوان المسلمين . ويقصد بالإيهام (Illusion) أن لا يُظهر الإسلامى ما فى باطنه، وهو إتجاه يؤدى إلى الخداع والمراءاة والكذب والضلال والمداهنة وحل العقود والتنصل من أى إتفاق، وهكذا .
وما دام هذا المبدأ موجوداً لدى التيار الإسلامى، فإنه يكون من المستحيل الوثوق بكلمة لهم أو إحترام أى تعهد معهم (لأنهم لن يحترموه)، أو تصديق أى حديث معهم، فإنهم يلتزمون – على الدوام – عقيدتهم فى إيهام الغير بما ليس فى ضمائرهم حتى يتم لهم خداعه، ومن ثم يسهل لهم تحقيق أهدافهم وما يريدون .
saidalashmawy@hotmail.com
القاهرة